أرشيف المجلة الشهرية

النمور في اليوم العاشر: قصة أبدعها كقصيدة "شاعر القصة" زكريا تامر

د. فادي أوطه باشي * – العربي القديم

أرى، وأعتقد أن الكثيرين مثلي في أن أثر قلم زكريا تامر في قصصه وكتاباته لا يقل عن أثر أغاني فيروز، وشجون صوتها في الوجدان، فلا يمكن لأحد في الوطن العربي، إلا وقد سمع بها أو سمع عنها.

فالقصة لدى زكريا تامر تستهلك أحلام كل طاقتها فيها، وكان ذلك الكاتب الدمشقي العتيق، قد لفت بإبداعه انتباه الشاعر يوسف الخال الذي عُرِفَ برقته وشاعريته في الستينيات من القرن الماضي، وآمن بالإمكانات الخلّاقة لهذا الكاتب المستتر بشراسته وقصاصات ورقه، فكان أن أطلق صوته في الساحة الثقافية العربية على أوسع مدى؛ لينطلق بعدها زكريا تامر في الارتقاء بالقصّ العربي إلى حداثة توازت مع إبداعات الحداثة في الشعر والموسيقى والرواية..

وكان من بين أهم نتاجه قصته “النمور في اليوم العاشر” التي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 1978.

هذه القصة كتبت بيدي من امتهن الحدادة صغيراً، فكانت دقيقة التصوير، ومسبوكة الحبكة سبكاً صارماً، ومذهلة في جزالة الألفاظ واقتصادها، عبر سيل منضبط من الجمل التي لا تفيض عن الحاجة، رغم أن النص كان جارحاً وقاسياً بإسقاطاته، بحيث إنك تكاد أن تُميّز، وتظلل كل الأسطر بالأصفر.

تحدثت القصة عن الاستبداد والتجهيل والسياسة ولعْنَتِها، وسلوكها المنافق.. تحدثت عن الوطن، وظلم الوطن وحنين المغترب إلى الوطن.. تحدثت عن الجوع والقهر، وكيف أنه يصغّر الكبير ويكبّر الصغير.. تحدثت عن الشهداء والأرض والمعالم.

فالنمر هنا رمز شعب أبيّ في أصله، لكن العوادي تتكفل بترويضه، فيغدو ذليلاً يخضع لإرادة القوة. في البداية نرى النمر في قفصه، والمروّض يقدم لتلاميذه الدرس الأول في كيفية الإخضاع. الغابات هنا هي المعادل الموضوعي للحرية. وبوجود النمر في القفص ترحل عنه الغابات، فلا يستطيع نسيانها، ويحدق في سجّانيه بغضب جدير بالأحرار. والسجّان في القصة الذي هو المعادل الموضوعي للطاغية، يعلم مقدار هذا الغضب، لكنه يرى فيه علامة عجرفة يجب القضاء عليها.

ها نحن هنا نرى كيف يستغل المهيمنون حاجات الناس؛ لفرض الخضوع عليهم، في البداية على المستهدفين للإخضاع أن يعترفوا بموازين القوى الجديدة، فهذه حرب على الوعي قبل كل شيء: (افعل ما أقول، ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع، فتشبع فوراً)… وإن مجرد حدوث هذا الاعتراف، سوف يؤمن للمهيمن الفوز بالجولة الأولى والأهم: (ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه). وفي الواقع العربي نرى شيئاً مشابهاً، حين لا يبدأ الطاغية، أو العدو الخارجي بمواجهة الشعب دفعة واحدة، فهجوم كهذا ربما لا تُحمد عقباه. من هنا تبدأ محاولات الترويض باليسير من المطالب، صعوداً نحو الأعلى منها.

 ففي اليوم الأول من القصة رفض النمر الاعتراف بالهزيمة فجاع.

 وفي اليوم الثاني وازن بين جوعه القاسي، وقول كلمة يسيرة بها يعترف بأنه جائع.

وفي اليوم الثالث تطور الأمر لدى المهيمن، فطلب الطاعة، ولكن تمرد النمر لم يبلغ قوة تمرده في اليوم الأول، فوافق على تلبية الأمر الذي أقنعته حاجته، أنه تافه القيمة.

 وفي اليوم الرابع، بادر النمر بنفسه إلى بذل الخضوع، مقابل الطعام، ولكن هذا التطور في الخضوع ظل يقتضي تطوراً في الهيمنة بالمقابل.

 وفي اليوم الخامس، برع الخاضع في الخضوع، ورغم أن المهيمن قد شجعه، إلا أننا نراه قد بدأ يسخر منه: (عظيم! أنت تموء كقط في شباط).

وفي اليوم السادس، تصاعد سلم الهيمنة، وصار المطلوب خضوعاً أكبر، ولكن الخاضع الذي كانت قد تبقت لديه بقية من كرامة رفض في البداية، ولم يكلف المهيمن نفسه محاولة إقناعه.

وفي اليوم السابع، بلغ الذل بالخاضع درجة أنه لم يعد يتذكر الشرف: (فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين).

 وفي اليوم الثامن، تحول الخاضع ـ النمر أو الشعب ـ إلى صف الطاغية، وأخذ يصفق لما لا يفهم، ومع ذلك فقد حرص المهيمن على الإمعان في إذلاله: (أنا لا أحب النفاق والمنافقين. ستُحرم اليوم من الطعام عقاباً لك).

 أما في اليوم التاسع، فقد كان على الخاضع أن يدفع ثمن الهزيمة كاملاً: فتحول النمر إلى حمار يأكل الحشائش.

أما اليوم العاشر والأخير، فقد آن له أن يشهد كشف الأقنعة، بعد إذ لم تعد هناك حاجة للتخفي، فالنمر هو الشعب، والقفص هو المدينة، فيما اختفى الطاغية وراء أستار قصره العالي، مطمئناً إلى أن طول الخضوع قد أنتج مشروعيته الخاصة وأدواته، ومن لا يصدق، فليتأمل هذا الواقع العربي اللعين.

“النمور في اليوم العاشر” قصة دسمة بكل المقاييس، استطاع فيها زكريا تامر بأسلوبه الخاص، ومن طرقه للحروف أن يحولها إلى تحفة فنية على شكل قصة، تُلوى، وتُحرق، وتُدمر وتَيئس، وهي تقاوم ناراً أو مطرقة وسنداناً، لكنها في نهاية المطاف تظل في نطاق سيطرته، والتشكيل الذي يُريده، فكانت التراجيديا في قصته غوصاً في كل شخصية تُكتب، إلى الحد الذي لا تنتهي فيه القصة، إلا ويكون زكريا تامر حياً فيها، وتنتهي فيه على هروبه منها، وترك المصائر مفتوحة….

إن الابتكار والإبداع عند تامر في هذه القصة بالذات يظهر في سحرية كتابته، إذ تضحكك أو تبكيك، فتظل كلماته تحفر حتى النخاع؛ ليسأل القارئ عن نفسه من أنا، وإلى أي كوكب شائك أنتمي..؟!

ففي قصة (نموره..) كان يحف النص، ويوازنه بيديه، كيف لا وهو رائد التورية، والتشبيه والتحويل، والإخفاء والتذويب، والمحاكاة للأشكال الماديّة، فمن علاقته الماديّة البحتة، عندما كان يطرق الحديد صغيراً عرف تماماً ماهية الشيء، وكيف يُدرك معالمه وخفاياه، وكيف يجعله مثاليّاً حتّى الثمالة.

أمّا عن الزمن في هذه القصة، فقد كان زمناً عادياً، تسير فيه الأحداث باتجاه الأمام، وكان كذلك قد بات مفتوحاً ليسقط على واقعنا الحالي، بالرغم من أنه كان في قصته زمناً مقيداً، فقد جرت أحداث هذه القصة على مدى عشرة أيام، كانت كفيلة بتحطيم النمر، فكأن الكاتب قصد من خلال توظيفه هذا الزمن القصير أن يشير إلى أنّ العزيمة والعنفوان يضعفان، عبر الزمن إن وُجِدت أساليب الضغط الكافية..

أعتقد أن كل ذلك الإبداع كافٍ؛ لأن نرفع القبعة لذلك الكبير الشاهد والشهيد زكريا تامر، وأن نلقبه بشيخ وفارس القصّاصين، فهو شاعر القصة بحق، وصاهل جهاتها، ومعلم من معلمي الأدب والإبداع السوري العربي العظيم..

ستتوجك دمشق بياسمينها، وتمنحك لقب فارس بمنزلة شاعر، وستضع إبداعاتك وساماً على صدر ثقافتها وحضارتها.

*كاتب و روائي

____________________________________________

من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى