الرأي العام

الصورة ليست تفصيلاً عابراً: من يدير الظهور الإعلامي للرئيس؟

هل يُعقل ألا يكون هناك كادر إعلامي مؤهل تأهيلًا عاليًا يرافق الرئيس ويشرف على هذه المواد؟ أم أن الكفاءات الحقيقية ما تزال مهمشة، “مركونة على الرفوف”

جميل الشبيب العربي القديم

دخلتُ إلى مشاهدة فيلم «رواية لم تُروَ من قبل – ردع العدوان» بحماسة عالية، حماسة مشاهد ينتظر عملًا وثائقيًا يُفترض أنه يؤرخ لمرحلة مفصلية، ويُقدَّم بأدوات بصرية تليق بثقل الحدث وأهمية الشخصيات. لكن ما أطفأ هذه الحماسة بعد أقل من نصف ساعة لم يكن مضمون الفيلم، ولا ضيوفه، ولا الحدث نفسه، بل الأسلوب الإخراجي الذي اختاره القائمون على تصوير المقابلات.

منذ المقابلة الأولى مع السيد الرئيس، بدا خيار جلوس الضيف في وسط الكادر والنظر المباشر إلى الكاميرا مقبولًا، بل ذكيًا. اعتبرتُ الأمر أقرب إلى خطاب سيادي موجه مباشرة إلى السوريين، سرد رسمي للأحداث، وكسر واعٍ للحاجز الرابع. توقعت – وربما تمنيت – أن يكون هذا الأسلوب حكرًا على الرئيس وحده، ليمنحه خصوصية رمزية وبصرية، ويضفي على حضوره طابعًا مختلفًا عن بقية الضيوف.

لكن المفاجأة – غير السارة – كانت في تكرار الأسلوب نفسه حرفيًا مع وزير الدفاع، ووزير الخارجية، ووزير الداخلية، ورئيس هيئة الأركان، وغيرهم. هنا تحوّل الخيار من قرار إخراجي محسوب إلى نمط آلي كسول، أفرغ الفكرة من معناها، ودمّر أي تمييز بصري أو هرمي بين الشخصيات.

في الإخراج، المعنى لا يُبنى بالتكرار، بل بالندرة. وعندما يخاطب الجميع الكاميرا بالطريقة نفسها، يفقد الخطاب ثقله، وتضيع الرمزية، وتتحول المقابلات إلى سلسلة بيانات مصورة بلا روح سينمائية.

الأخطر من ذلك، أن المشاهد يلاحظ بوضوح ارتباك بعض الضيوف أثناء الحديث المباشر إلى العدسة. نظرات تحاول الهروب، أعين تبحث عن نقطة خارج الكادر، محاولات للابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الكاميرا. وهذا ليس تفصيلًا ثانويًا، بل دليل صريح على غياب التحضير الإخراجي، وغياب إدارة المقابلة. فالضيف، مهما كان منصبه، ليس مطالبًا بأن يكون محترف كاميرا؛ هذه مسؤولية المخرج وفريقه.

أما على المستوى التقني، فالملاحظات لا تقل خطورة. يكفي التوقف عند الفيديو المصوَّر للرئيس أثناء تهنئة الشعب السوري برفع العقوبات. تصوير بعدسة واسعة جدًا في مرة، ولقطة قريبة في مرة أخرى، وفي الحالتين أخطاء واضحة:

كادر واسع مبالغ فيه، خلفية كبيرة ومشتتة، ضعف في السيطرة على المجال البصري، وانتقالات مونتاجية غير مبررة بين اللقطات القريبة والواسعة، وكأن القرار البصري يُتخذ في غرفة المونتاج لا في مرحلة التخطيط.

المونتاج نفسه يطرح علامات استفهام كثيرة:

لقطات قريبة لكلمات الرئيس لثوانٍ معدودة ثم العودة المفاجئة إلى لقطة واسعة دون دافع درامي، إيقاع متذبذب لا يخدم السرد ولا يعزز الرسالة. كل ذلك يشير إلى مونتاج تجميعي لا سردي، يفتقر إلى رؤية إخراجية واضحة.

وهنا يفرض سؤال نفسه بقوة، وهو سؤال مشروع لا كيدي ولا شعبوي:

هل يُعقل ألا يكون هناك كادر إعلامي مؤهل تأهيلًا عاليًا يرافق الرئيس ويشرف على هذه المواد؟ أم أن الكفاءات الحقيقية ما تزال مهمشة، “مركونة على الرفوف”، بانتظار تزكية أو قرار إداري يفتح لها الباب؟

هذا السؤال لا يأتي من فراغ، بل من مقارنة واضحة. فمقابلات وزير الإعلام، على سبيل المثال، كانت مغطاة بشكل احترافي يليق بالمنصب، كما في مقابلته مع الإعلامي عبد القادر اللهيب، من حيث الصورة والصوت والتكوين. وفي المقابل، لا يمكن نسيان المقابلة التي أجراها الدكتور معاذ محارب مع السيد الرئيس على شاشة الإخبارية، والتي شهدت مشكلة صوتية كارثية، وبُثّت كما هي دون أي معالجة تقنية، في مشهد صادم لكل من يعرف أبجديات العمل التلفزيوني.

في المحصلة، إدارة ظهور الرئيس إعلاميًا ليست مجرد تفاصيل شكلية، بل قضية استراتيجية ترتبط بمصداقية الرسالة وقوة التأثير البصري. الفيلم الذي شهدناه يقدم مادة مهمة، ولكن الأخطاء الإخراجية والتقنية تكشف هشاشة التخطيط الإعلامي وفجوة الكفاءات المؤهلة، إن فهم هذا الواقع والنقد الموضوعي له ليس ترفًا، بل ضرورة مهنية تفرضها طبيعة الحدث وأهمية الشخصيات، لأن الصورة، كما أثبت التاريخ الإعلامي، غالبًا ما تكون أبلغ من الكلام، وأقوى من أي خطاب رسمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى