العربي الآن

الشعبوية التي أرهقت سوريا: تغييب الخطاب الواعي من السياسة حتى الإعلام

خطاب يعتمد على دغدغة المشاعر، وتجنب الغوص في التفاصيل التي قد تُعرّي ضعف الحلول المطروحة.

جميل الشبيب – العربي القديم

ظهر مصطلح الشعبوية في أواخر القرن التاسع عشر كنعت يُطلق على السياسيين الذين يستغلون عواطف الجماهير والقضايا الحساسة لجذب الانتباه وتحقيق مكاسب سياسية. ارتبط هذا المفهوم بسلوكيات تهدف إلى استغلال مخاوف الشعوب الاقتصادية والأمنية أو تلك المتعلقة بالانتماء والقومية، وأحياناً الدين والثقافة. كان الهدف الأساسي من هذه الاستراتيجية هو حشد الجماهير وكسب أصواتهم ودعمهم السياسي، سواء للأفراد أو الأحزاب أو الحركات السياسية… بغض النظر عن الفائدة التي سيحققها هذا الخطاب للواقع المعاش مستقبلاً.

الشعبوية كأداة سياسية

نجاح السياسيين الشعبويين في جذب الجماهير يعتمد على قدرتهم على تقديم خطاب بسيط ومباشر يلامس قضايا الناس اليومية، يثير مخاوفهم من قضايا كبرى، ويقدم حلولاً تبدو سحرية وسريعة لهذه المشكلات، رغم افتقادها للواقعية والعمق.

هذا الخطاب يعتمد غالباً على دغدغة المشاعر، وتجنب الغوص في التفاصيل التي قد تُعرّي ضعف الحلول المطروحة. والنتيجة هي بناء قاعدة جماهيرية واسعة ومندفعة، لا تدقق في التفاصيل أو تطرح الأسئلة، بل تتبع القادة الشعبويين وما يطرحونه من أفكار بشكل أعمى.

الشعبوية في السياسة السورية

خلال السنوات الـ14 الماضية، كان النظام السوري مثالاً بارزاً لاستخدام الشعبوية السياسية. استغل النظام مخاوف أنصاره من الحرب والفوضى، واعتمد على خطاب طائفي وديني وقومي يثير مشاعر القلق لدى الجماهير ويعزز شعورهم بالتهديد.

على الجانب الآخر، لم يكن خطاب الثورة السورية بمنأى عن الشعبوية. فقد اعتمدت بعض فصائل المعارضة على استغلال عواطف ومخاوف جمهورها من أجل الحشد والتعبئة، مع تقديم وعود مبالغ فيها، لكنها افتقرت أحيانًا للتخطيط العملي والواقعية.

الشعبوية ومواقع التواصل الاجتماعي

لم تقتصر الشعبوية في الحالة السورية على السياسة فقط، بل انتقلت إلى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت أداة شائعة لدى المؤثرين ومشاهير المنصات الرقمية. يسعى هؤلاء لجذب أكبر عدد ممكن من المتابعين، حتى لو كان ذلك على حساب القيم أو الحقيقة.

اختلفت أساليب هؤلاء الشعبويين، فمنهم من يطلق تصريحات مثيرة أو يتبنى مواقف حادة تجاه قضايا حساسة فقط لجذب الانتباه.

آخرون يفتعلون نزاعات وصراعات مع شخصيات أخرى لإثارة الفضول والظهور في مقدمة المشهد.

وهناك أيضًا من يتحدثون عن قضايا مثل الحرب، النزوح، البطالة، الفساد، والفقر بأسلوب سطحي يفتقر إلى التحليل العميق، مما يساعدهم على كسب تعاطف الجماهير وشحذ المتابعات والإعجابات. يتظاهر هؤلاء بأنهم يمثلون صوت البسطاء والمدافعين عن قضاياهم، لكن الهدف الحقيقي يكون غالبًا مكاسب شخصية.

فالشعبوية بمظاهرها المتعددة أرهقت المشهد السوري. فمن جهة، ساهمت في تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية، ومن جهة أخرى عززت مناخًا من التوتر والسطحية. وتغيب واضح لدور المثقفين واصحاب الصوت الوطني عن المشهد.

إبعاد المثقفين وأصحاب الصوت الواعي

الشعبوية، بطبيعتها التي تعتمد على تبسيط القضايا وتعزيز الخطاب العاطفي، تخلق بيئة معادية للمثقفين وأصحاب الصوت الواعي الذين يعتمدون على التفكير النقدي والتحليل العميق.

ففي هذه البيئة، يصبح من الصعب على المثقفين أن يجدوا مكانًا في المشهد العام، مما يمهد الطريق للشعبويين للسيطرة على الجماهير.

فيتهم الشعبويون المثقفين بالنخبوية أو الانفصال عن الواقع، مما يجعل الجماهير تنظر إليهم كغرباء عن همومها اليومية وقضاياهم المفصلية.

علاوة على ذلك، يعتمد الشعبويون على السيطرة الإعلامية والمنصات الرقمية لتضخيم أصواتهم، ما يقلل من فرص المثقفين في الوصول إلى الجماهير والتأثير عليه. وبهذا، يتحول النقاش العام إلى ساحة للشعارات السطحية والصراعات المفتعلة، ما يُبعد النقاش العقلاني عن مسامع الجماهير وعقولها.

نتائج هيمنة الشعبويين على المشهد

غياب الأصوات الواعية يؤدي إلى غياب التحليل العميق، ما يجعل الجماهير أكثر عرضة للاستغلال العاطفي.

فمع هيمنة الشعبويين، تغيب الخطط الواقعية والمستدامة التي يمكن أن يقدمها المثقفون، حيث تقدم الشعبوية وعوداً فارغة أو حلولًا مؤقتة وعنتريات تزيد من تعقيد الأزمات. وبمرور الوقت، تفقد الجماهير ثقتها بالمثقفين الذين يُصورون كجزء من النخبة المعزولة، مما يعزز مكانة الشعبويين الذين يستغلون ظروف الناس الآنية.

وفي النهاية، الشعبوية، سواء في السياسة أو الإعلام، كانت ولا تزال أداة خطيرة تُستخدم لاستغلال مخاوف الناس وعواطفهم. في الحالة السورية، لم تكن الشعبوية مجرد أسلوب خطاب، بل تحولت إلى ظاهرة ساهمت في تعقيد المشهد وزيادة معاناة السوريين.

الخروج من هذا المأزق يتطلب تعزيز الوعي الجماهيري، وتطوير التفكير النقدي، وإيجاد خطاب يعتمد على الواقعية والعمق بدلاً من الاستغلال العاطفي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى