دلالات وقضايا | الاستثمار في قضايا الرَّأي العامّ على مواقع التَّواصل الاجتماعي
النِّسبة الأعلى من الصَّفحات الموثَّقة بالعلامات الزَّرقاء مرتبطة بجهات راعية ومموِّلة وداعمة مهتمَّة بصناعة الرَّأي العامِّ والتَّأثير فيه
د. مهنا بلال الرشيد- العربي القديم
تمرُّ سورية الآن بمرحلة انتقاليَّة حسَّاسة جدًّا بدأت من يوم تحريرها من حكم المخلوع بشَّار الأسد وعصابة عائلته المجرمة في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر 2024، وما زلنا نعيش في هذه المرحلة الانتقاليَّة، الَّتي اكتسبت فيها الكلمة المنطوقة أو المكتوبة على صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ أهمِّيَّة مضاعفة علاوة على أهمِّيَّتها التَّقليديَّة؛ وذلك لأنَّ الكلمة وسيلة الإنسان للجهر بصوته والتَّعبير عن رأيه، ووسيلته للتَّواصل مع بني قومه أو التَّأثير فيهم أو في بعضهم؛ ليكونوا أدوات التَّغيير على أرض الواقع؛ تلك الأدوات الَّتي يتحكَّم بها مموِّلو المؤثِّرين من صانعي المحتوى في صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ وبهذا المحتوى المموَّل تمكَّن المموِّلون من توجيه المتابعين والتَّلاعب بعقولهم وحشدهم لصناعة بعض قضايا الرَّأي العامِّ أو توجيه بعضها الآخر، حيث يساعد الاستثمار في هذه القضايا على فرز الجماهير وتصنيفها ضمن مجموعات أيديولوجيَّة محدَّدة، وبعد هذا التَّصنيف يسهل على المموِّلين قيادة الجماهير وتوجيهها عند ظهور أوَّل قضيَّة رأي عامٍّ حقيقيَّة أو مضخَّمة أو مصطنعة جملة وتفصيلًا؛ لأنَّ انتشار أصحاب الصَّفحات المموَّلة أو الموثَّقة باللَّون الأزرق على خريطة العالم تمكِّن أصحابها -وهم أدوات لمموِّليها- من تضخيم أيِّ قصَّة أو حرف أيِّ حادثة عن مسارها الطَّبيعيِّ؛ لتحويلها إلى قضيَّة رأي عامٍّ تلتقطها محطَّات التَّلفزة ومواقع الأخبار، وتستثمر بها سياسيًّا لمواجهة أيِّ سلطة سياسيَّة قائمة أو لدعم أيِّ معارضة ناشئة في أيِّ مدينة أو دولة، لا سيَّما إن كانت دولة مثل سوريا، خرجت حكومتها الجديدة لتوِّها من ثورة طويلة الأمد ضدَّ حكم عائلة الأسد المجرمة، الَّتي خلَّفت وراءها فسادًا ودمارًا كبيرين يحتاجان من أجل الخلاص منهما إلى وقت غير قليل من الهدوء بعيدًا عن ضوضاء مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ ونقدها السَّاخر، الَّذي لا يخلو من الكيديَّة والتَّفاهة والبلاهة في كثير من الأحيان.
الصفحات الموثَّقة بالعلامة الزَّرقاء
تشكِّل صفحات السُّوريِّين الموثَّقة بالعلامة الزَّرقاء على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ في منصَّات الفيسبوك وإكس وإنستغرام وغيرها ظاهرة مهمَّة، إلى حدٍّ يمكن فيه اعتماد هذه الصَّفحات كعيِّنات بحثيَّة لدى مراكز الأبحاث المعنيَّة بدراسة تأثير مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، وقدرتها على صناعة الرَّأي العامِّ وقياس توجُّهات الجماهير، كما تساعد دراسة منشورات هذه الصَّفحات على معرفة مصادر تمويل أصحابها ومعرفة تلك الجهات، الَّتي تدعمهم؛ ليعملوا معها أو لصالحها، ويعين هذا النَّوع من الأبحاث الدِّراسيَّة على معرفة غايات التَّمويل مع معرفة أسباب اختيار تلك الشَّخصيَّات الَّتي تدير الصَّفحات للتَّعاون معها دون غيرها. ويشير توثيق الصَّفحة باسم صاحبها -في غالب الأحيان- إلى الجهة، الَّتي يعمل عندها صاحب الصَّفحة الموثَّقة، ويكشف التَّوثيق بشكل أو بآخر عن مصدر تمويله المعلن. وهذا لا يعني بالضَّرورة وجود جهة خفيَّة أو معلنة ترعى ترعى كلَّ صفحة موثَّقة بالعلامة الزَّرقاء أو تدعم صاحبها؛ لأغراض محدَّدة، أو توظِّف صاحبها في هذا المكان أو ذاك، وإن كانت النِّسبة الأعلى من الصَّفحات الموثَّقة بالعلامات الزَّرقاء مرتبطة بجهات راعية ومموِّلة وداعمة مهتمَّة بصناعة الرَّأي العامِّ والتَّأثير فيه؛ لذلك يقدِّم كثير من تلك الجهات الرَّاعية للعاملين معها صفحة أو صفحات موثَّقة على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ لتساعدهم على صناعة الرَّأي العام، أو التَّأثير فيه؛ وتعدُّ هذه الخدمة عُرفًا أو جزءًا من سياستها العامَّة في التَّوظيف، سواء إن نصَّت على ذلك، أو إن أغفلته بنود عقد العمل الرَّابط بين الموظَّف والجهة، الَّتي يعمل معها.
الصَّفحات المزيَّفة وصفحات المجموعات
في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ كثير من الصَّفحات مجهولة الهويَّة والغرض والانتماء؛ بعضها يعمل للمتابعة وبحياديَّة، ولا يمثِّل إلَّا ميول صاحب الصَّفحة واتِّجاهه، ولا يعكس إلَّا رغبته بعدم الكشف عن هويَّته الحقيقيَّة؛ كتسمية الصَّفحة باسم لا يدلُّ على هويَّة شخصيَّة بقدر ما يدلُّ على شيء عامٍّ مثل (بائعة الكبريت) أو (بائع المازوت) أو (زهرة النَّرجس)، أو يشير إلى منطقة كبيرة أو صغيرة؛ مثل: (الفتى الدِّمشقيِّ) أو (الأمير الحلبيِّ) وغير ذلك ممَّا يمكِّن صاحب الصَّفحة من متابعة صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ والتَّفاعل مع بعضها دون الكشف عن هويَّته. وهناك صفحات أخرى وهميَّة مزيَّفة ينشئها أصحابها بأسماء بعض المشاهير للإساءة إليهم أو لتحقيق الانتشار بالاعتماد على القيمة الإعلاميَّة لأسمائهم، وقد تنشأ بعض الصَّفحات بأسماء وهميَّة لغايات شخصيَّة أو دوافع انتقاميَّة، وهناك -في الفيس بوك مثلًا- عدد كبير من الصَّفحات والحسابات الخاضعة لإدارة الشَّركة المالكة مباشرة، ويُستثمر مثل هذه الصَّفحات لوضع الإعجابات والتَّعليقات الوهميَّة على منشورات بعض الصَّفحات المدعومة أو المموَّلة؛ لتبدو منشورات أصحابها أكثر شعبيَّة وتأثيرًا؛ لأنَّ مقياس الكمِّ أو مقياس عدد الإعجابات بغضِّ النَّظر عن أصحابها يعدُّ-بشكل أو بآخر-دليلًا على سعة الانتشار، وهو واحد من المقاييس المعتمدة في صناعة الرَّأي العامِّ، وفي كثير من الأحيان يغيب عن ذهن المتابع العاديِّ أنَّ كثيًرا من تلك الإعجابات مموَّلة أو مشتراة، وقسم آخر منها يأتي بسبب انتشار ثقافة القطيع؛ أي بمعنى آخر هناك نفر كبير من المتابعين يضع إعجابه على أيِّ منشور أو محتوى عندما يشاهد عليه إعجابات وتعليقات كثيرة حتَّى وإن لم يفهم محتواه أو لم يلامس محتواه ميول المتابع، وربَّما أو دون قراءته أو مشاهدته أو الاستماع إليه في كثير من الأحيان.
من المؤكَّد أنَّ اختيار الشَّخصيَّات ودعمها بحسابات وصفحات على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ المموَّلة مرتبط بغايات وأهداف أخرى، وتُختار مثل هذه الشَّخصيَّات بعناية فائقة؛ وهذا يعني أنَّ صفحة واحدة من صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ تُعهد بالعناية والرِّعاية منذ نشأتها الضَّعيفة الأولى حتَّى يكبر جمهورها، ويزيد عدد متابعيها. وهناك طريقة عكسيَّة أخرى يعتمدها صُنَّاع الأيديولوجيا من المموِّلين، حين يجنِّدون بالدَّعم الماديِّ أيَّ صفحة أو مجموعة تحقِّق أو يحقِّق أصحابها انتشارًا واسعًا؛ كصفحات الشِّعر والطَّبخ والنَّقد والأزياء والفنِّ والأدب والموضة والطِّبِّ الشَّعبيِّ وغيرها، إذ يبادر صُنَّاع الأيديولوجيا إلى التَّواصل مع صاحب الصَّفحة لتمويله مقابل تمرير بعض المنشورات أو الصُّور أو التَّعليقات أو الإعجابات الَّتي تخدم مصالح المموِّلين.
صفحات النَّقد والسُّخرية والإشاعة
يمكننا أن نصنِّف منشورات السُّوريِّين (المؤثِّرة) على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ إلى ثلاثة نماذج أسلوبيَّة؛ يكمن خلف كلِّ نموذج أسلوبيٍّ منها مقصد قريب أو بعيد أو جملة من الغايات والمقاصد والأهداف القريبة والبعيدة؛ تلك الَّتي يكشفها أو يكشف عن بعضها سياق النَّشر؛ لأنَّه (لكلِّ مقام مقال) فبعض المنشورات تُعدُّ تحريضيَّة في وقت ما، وتُعدُّ نقديَّة أو ترفيهيَّة في وقت آخر، وتعدُّ ساخرة في مرحلة، وتعدُّ (فلسفة وأكل هوى وذرّ رماد في العيون) في مرحلة ثانية، ويسهم في تشكيل دلالة المنشور ومقصده وغاياته موقع صاحب المنشور وثقافته والأيديولوجيا الَّتي تحرِّكه ومكان إقامته وعمله ومصدر تمويله وتحوُّلات هذا النَّاشر وتموضعاته خلال ثلاث عشرة سنة من الثَّورة السُّوريَّة بين 2011-2024.
هناك بعض الصَّفحات السُّوريَّة الموثَّقة وغير الموثَّقة، الَّتي استطاع أصحابها أن يقدِّموا أنفسهم ضمن نماذج أو قوالب أو (ستايلات) محدَّدة؛ بعضها ترفيهيٍّ كوميديٍّ محض، وبعضها الآخر يجمع بين الهزل والسُّخريَّة من الواقع لنقده أو ترشيحه أو لفت أنظار المتابعين إليه، وفي كثير من الأحيان يختلط الإسفاف مع السُّخرية من القضيَّة المطروحة أو صانع المحتوى أو صاحب الصَّفحة ذاته أو أُسرته أو عائلته للظُّهور بمظهر حطيئة هذا الزَّمان أو ناقده المبدع، الَّذي لا يسلم من سخريته كائنًا من كان، ويعدُّ ذرُّ الرَّماد في العيون من خلال تلك المنشورات أخطر من نقدها أو سخريتها ذاتها؛ لذلك يضحِّي هذا النَّوع من صانعي المحتوى المموَّلين -طمعًا بالشُّهرة أو المال أو المنصب- ببعض خصوصيَّاتهم العائليَّة أو الشَّخصيَّة لجذب المتابعين الفضوليِّين أو المشغوفين بانتهاك الخصوصيَّات؛ ويمكِّنهم أو يمكِّن مموِّليهم هذا النَّوع من سياسة ذرِّ الرَّماد في العيون من تمرير أيديولوجيَّاتهم الخبيثة بحجَّة النَّقد أو السُّخرية أو الكوميديا أو صناعة التَّفاهة أو نقدها، لا سيَّما إن تعمَّد صاحب الصَّفحة المموَّل: (الفتّ بجانب الصَّحن) أو (التَّعفيس بين الشَّتل)، بحجَّة النَّقد أو السُّخرية، ويروى في هذا السِّياق أنَّ عِلْجًا ضخمًا عنيفًا من مربِّي الأبقار أفلت منه عِجْلٌ سمين بين أشتال المزرعة الغضَّة؛ فركض خلفه ليمسكه؛ فعفَّس على الأشتال، ودمَّر المزرعة؛ فنادى أحد ذويه: اتركوا العجل، وأمسكوا بالعلج الرَّاكض خلفه؛ وذاك لأنَّ مطاردة العِلْجِ عِجْلَه السَّمين صارت أكثر ضررًا من العجلِ ذاته؛ لأنَّها حدثت في سياق المزرعة الغضَّة الطَّريَّة؛ وهذا ما يشبه نَقْدَ بعض العلوج مكتسباتنا الثَّوريَّة في وقتنا الرَّاهن وتعجيقهم أو تعفيسهم عليها بحجَّة النَّقد والسُّخريَّة، وهذا واحد من أكبر الأدلَّة على مكر المموِّل وترفيس المموَّل وخبثِه معًا.
حرب الشَّائعات
أمَّا الإشاعة أو الشَّائعة المرتبطة بسياق زمكانيٍّ محدَّد فإنَّها تؤدِّي دورًا كبيرًا في مجال صناعة الرَّأي العامِّ أو تضليله أو الكشف عن بعض بواطنه وخفاياه، ويزيد سياقها الزَّمكانيُّ الَّذي تُبثُّ فيه من تأثيرها وفاعليَّتها وقدرتها على تأدية بعض أغراضها في الكشف عن بعض التَّوجُّهات المكبوتة أو المكنونة أو المحجوبة تقية؛ كما فعلت إشاعة عودة المجرم ماهر الأسد إلى سوريا قبل يومين حين كشفت عن هويَّة بعضٍ من الفلول وأصحاب تل الصَّفحات المرتبطة بنظام المخلوع وتوجُّهاتهم الأيديولوجيَّة أيضًا؛ لكنَّها ما لبثت أن أحبطتهم وعرَّتهم ومكَّنت قوى الأمن من الإمساك ببعض المطلوبين بعد انكشاف أمر هذه الإشاعة.
على العموم يتمكَّن مموِّلو صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ -والصَّفحات النَّقديَّة والسَّاخرة والتَّرفيهيَّة واللَّاهية والعابثة والمزيَّفة- من التَّلاعب بعقول الجماهير والتَّأثير فيها وتوجيهها، ويستطيعون بالتَّعاون مع مموِّليهم من التَّرويج لبعض الإشاعات الموجَّهة -إن أرادوا ذلك- لدراسة توجُّهات السُّوريِّين؛ وذلك لأنَّ لحظة الفرح والغبطة -الَّتي توقظها مفاجأة الإشاعة- كفيلة بالكشف عن مكنونات النَّفس ورغباتها الدَّفينة، وكمَّ أطلق أحرار سوريا من الرَّصاص سابقًا عند كلِّ إشاعة من إشاعات موت المجرم المخلوع بشَّار الأسد أو نفوق شقيقه المجرم ماهر أو عمِّه المجرم رفعت! وقد تعمَّد ذباب المخلوع الإلكترونيُّ تمرير تلك الإشاعات الموجَّهة؛ لشغل السَّاحة عن متابعة أحداث أخرى، أو لمعرفة توجَّهات الشَّعب السُّوريِّ الحقيقيَّة في منطقة ما؛ وقد حان الآن الوقت للإشاعة ذاتها أن تؤدِّي دورها الآخر في الكشف عن المكوِّعين وإظهار بعض المتمرِّدين للإمساك بهم وتقديمهم للعدالة؛ وهذا بعد أن كشف البحث العلميُّ الدَّقيق عن توجُّهات بعض الصَّفحات وأيديولوجيا مموِّليها خلال الثَّورة السُّوريَّة المباركة وبعد خمسين يوم من انتصارها.