عقيدة التغيير ومقصلة القيم: بين الأقلية المتطرفة والأغلبية الحيادية
الأقلية المتطرفة دينامو الثورات، كما وصفها غوستاف لوبون معتبراً المتطرفين بأنهم «حازمون، لكنهم ضيقو العقل»، بينما الأغلبية الحيادية تظل عاجزة
محمد صبّاح * – العربي القديم
لطالما كانت الثورة حدثاً استثنائياً في التاريخ الإنساني، تتجاوز كونها مجرد تغيير سياسي أو اجتماعي لتلامس أعمق تساؤلات الإنسان عن (وجوده، حريته، وعلاقته بالسلطة والتاريخ) ،الثورة هي لحظة يمزّق فيها الحاضر أستار الماضي ليعيد تشكيل العالم وفق رؤية جديدة، لكنها أيضاً ساحة صراع بين العقل والوجدان، المبادئ والواقع، الجماعة والفرد.
في الثورة الفرنسية، بدا وكأن الإنسان يسعى للخلاص من قيود تاريخية قمعته، لكنه في الوقت ذاته وقع في أسر عقيدة جديدة، تداخل فيها الأمل بالفوضى، والتغيير بالعنف.
هنا، تصبح الثورة مسرحاً وجودياً يتجلى فيه الصراع بين المثالية والتطبيق، بين الحلم الجماعي والنتائج الفردية، وبين الحرية المطلقة والخوف من الفراغ.
هذا المقال يستعرض الثورة الفرنسية كنموذج لتحليل تلك التوترات الوجودية، مستنداً إلى أفكار غوستاف لوبون، مدعوماً بمواقف الفلاسفة والوقائع التاريخية التي تكشف عن العمق المعقد لهذه الظاهرة ؛الثورة ليست مجرد حراك، بل مرآة تكشف أزمات الإنسان في مواجهته لتاريخه ورغبته في تجاوزه .
تُظهر الثورة الفرنسية، كما أشار غوستاف لوبون، ملامح «ديانة جديدة» تجاوزت حدود المبادئ السياسية إلى إلهام جماعي يشبه الإيمان الديني ؛الثورة قدمت شعارات مثل «الحرية، الإخاء، المساواة » كقيم مطلقة، وأعادت صياغة طقوس جديدة مثل «عبادة العقل»، لتعطي الناس شعوراً بالانتماء المقدس.
إحدى أبرز الوقائع التي تُظهر هذا الطابع العقائدي هي احتفال عبادة العقل الذي نُظم في عام 1793 داخل كاتدرائية نوتردام، حيث أُعيدت تسمية الكنيسة بـ«معبد العقل»؛ أُقيمت الاحتفالات لتُمجّد العقل والحرية بدلاً من الدين التقليدي، ما يعكس محاولة الثورة استبدال العقيدة الدينية بأخرى سياسية وفلسفية.
واقعة أخرى تُبرز هذا البُعد العقائدي هي إلغاء التقويم الميلادي واستبداله بتقويم الثورة الفرنسية، حيث أعيد تقسيم السنة إلى أشهر تحمل أسماء مرتبطة بالطبيعة مثل «فونديميير» (شهر الحصاد) و«فريمير » (شهر الشتاء) ؛كان الهدف من هذا التغيير فصل الحياة اليومية عن أي تأثيرات دينية سابقة، مما يعكس الرغبة في خلق هوية زمنية وثقافية جديدة.
المؤرخ ألكسيس دو توكفيل يدعم هذه الفكرة في كتابه النظام القديم والثورة، حيث يرى أن الثورة الفرنسية لم تكن فقط محاولة لتغيير النظام السياسي، بل سعياً لإعادة بناء نظام عقائدي يقطع مع الماضي. إدموند بيرك وصف هذا الاتجاه في كتابه تأملات حول الثورة في فرنسا بأنه تجاوز للمنطق، حيث أصبحت الثورة أشبه بطقس ديني يدعو إلى الإيمان المطلق بالمبادئ الجديدة، بغض النظر عن العواقب.
بين الأقلية المتطرفة والأغلبية الحيادية
تشكل الأقلية المتطرفة دينامو الثورات، وهو ما أكده غوستاف لوبون عندما وصف المتطرفين بأنهم «حازمون، لكنهم ضيقو العقل»، بينما الأغلبية الحيادية تظل عاجزة عن مواجهة صوت العنف والتطرف.
واقعياً، يظهر ذلك في سيطرة اليعاقبة بقيادة روبسبير على الثورة، خاصة خلال عهد الإرهاب (1793–1794). فرضت الأقلية المتطرفة سيطرتها من خلال « لجنة الأمن العام» ، وهي هيئة قادت حملة إعدامات طالت ما يزيد عن 16,000 شخص بالمقصلة في جميع أنحاء فرنسا؛ هذا العنف المنهجي كان مدعوماً بخوف الأغلبية من المعارضة، ما جعلها تفضل الصمت والحياد.
واقعة أخرى تُبرز هذا التوتر بين المتطرفين والأغلبية هي «مجزرة سبتمبر » عام 1792، عندما اجتاحت مجموعات من المتطرفين السجون الباريسية وقتلت الآلاف من السجناء الذين اعتُبروا خونة أو أعداء للثورة؛ هذا الحدث يكشف عن مدى الفوضى التي تسببها الأقلية حين تتغذى على صمت الأغلبية وخوفها.
الفيلسوف هيغل رأى في كتابه (فلسفة التاريخ) أن الأغلبية الحيادية تُسهم في نجاح المتطرفين لأنها تفتقر إلى الجرأة المطلوبة لمواجهة العنف. بالنسبة له، الأقلية تستمد قوتها من ضعف الأغلبية وعجزها عن تنظيم صفوفها لمعارضة التطرف.
الفوضى كمظهر دائم للثورات
الثورات، كما يشير إريك هوبسباوم في كتابه (عصر الثورة)، غالباً ما تدخل في حالة فوضى بمجرد انهيار النظام القديم؛ في الثورة الفرنسية، كانت الفوضى واضحة في انتشار الجرائم وأعمال العنف العشوائية في الريف والمدن على حد سواء.
إحدى الوقائع التي تُظهر هذه الفوضى هي انتفاضات الفلاحين في (فونديه)، حيث رفض سكان الريف سياسات الثورة، خاصة تجنيد الرجال والاعتداء على الدين؛ هذه الانتفاضات قوبلت بردود فعل عنيفة من الجيش الثوري، الذي ارتكب مذابح راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين.
واقعة أخرى تجسد هذه الفوضى هي «تمرد ليون» عام 1793، حيث حاول سكان المدينة مقاومة سياسات الثورة القمعية، ما أدى إلى قصف المدينة من قبل الجيش الثوري وإعدام آلاف المواطنين.
ألبرت سوبول يشير إلى أن المحاكم الثورية، التي أُنشئت لمحاربة أعداء الثورة، لم تكن دليلاً على قوة الدولة بل على ضعفها وانغماسها في الفوضى. المحاكم أصدرت أحكاماً بالإعدام دون تحقيقات عادلة، مما جعلها أداة للانتقام أكثر من العدالة.
فريدريك باستيا وصف الثورة بأنها حالة يظهر فيها كيف تُستغل المبادئ النبيلة كذريعة لتمرير أجندات أقلية متطرفة، حيث تتحول الدولة إلى أداة للقمع بدلاً من الحرية.
الثورة كظاهرة وجودية
في قراءة وجودية، تمثل الثورة صراع الإنسان مع عبثية وجوده ومحاولته خلق معنى جديد للحياة؛ إحدى أبرز مظاهر هذا الصراع هو شخصية روبسبير، الذي كان يُنظر إليه كرمز للنزاهة والمبادئ المطلقة، لكنه تحول إلى رمز للقمع خلال عهده.
واقعة تُبرز هذا التحول هي تصفية روبسبير نفسه في 28 يوليو 1794 (10 ثيرميدور)، عندما أُعدم بالمقصلة على يد زملائه السابقين الذين رأوا فيه تهديداً لاستقرار الثورة؛ هذه النهاية تُظهر كيف يمكن لصراع المبادئ المطلقة أن يؤدي إلى تدمير من يتبناها.
الفيلسوف جان بول سارتر قدّم في فلسفته الوجودية تفسيراً لهذا التحول، حيث يرى أن الحرية المطلقة تُلقي بالإنسان في صراع دائم مع اختياراته، مما قد يدفعه إلى اتخاذ قرارات عنيفة لتأكيد وجوده ؛ الثورة الفرنسية كانت محاولة لتأكيد الحرية، لكنها انتهت إلى قمع الإنسان باسم المبادئ ذاتها التي نادت بها.
أوغست كونت، في سياق تحليله للوضعية، وصف الثورة بأنها حركة افتقرت إلى نظام أخلاقي مستقر ؛ بالنسبة لكونت، الفوضى التي نجمت عن الثورة كانت نتيجة غياب رؤية فلسفية متماسكة تُوازن بين الحرية والنظام.
الخاتمة
الثورة ليست مجرد حدث تاريخي أو تغيير سياسي، بل هي ظاهرة إنسانية وجودية تحمل في طياتها معانٍ أعمق تتعلق بالإيمان، الحرية، والصراع مع العبث. الوقائع التاريخية، مثل «احتفال عبادة العقل»، «مجزرة سبتمبر»، «تمرد ليون»، و«انتفاضات فونديه»، تُظهر كيف يمكن أن تتحول المبادئ النبيلة إلى عقيدة تبرر العنف، وكيف أن الفوضى هي النتيجة الحتمية حينما تغيب رؤية عقلانية تُوجّه الأحداث.
يتفق المؤرخون والفلاسفة على أن الثورات الكبرى تُقاد بعقيدة قوية تُلهم الأتباع، لكنها قد تنحرف بفعل سيطرة الأقلية المتطرفة وتردد الأغلبية.
يبقى السؤال الفلسفي الأهم: هل يمكن للإنسان تحقيق التغيير دون التضحية بالمبادئ الأخلاقية؟ وهل يمكن لعقيدة التغيير أن تظل عقلانية دون أن تتحول إلى أداة للقمع والعنف؟
_____________________________________________
* كاتب فلسطيني