في ذكرى رحيله الثالثة: رياض نجيب الريس المتدفق كالنهر في (صحافي المسافات الطويلة)
رغم أن رياض نجيب الريس الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم (السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر) قبل ثلاثة أعوام، كتب مذكراته وسيرته الحياتية المهنية عبر أكثر من كتاب، بدأها بـ”آخر الخوارج”، ومروراً بـ”الصحافة ليست مهنتي”، و”زمن السكوت خيبات الصحافة والسياسة والثقافة”، و”الجانب الآخر للتاريخ”، إلا أن كتاب سعاد جروس الحوار ي معه، والذي صدر قبيل ثلاثة أعوام من رحيله حاملاً اسم (صحافي المسافات الطويلة)، يبقى له طعم خاص في الولوج إلى عالم هذا الصحفي والناقد والناشر البارز، الذي حمل هويته السورية في لهجته تارة، وفي اسم أبيه (رياض الريس) صاحب جريدة (القبس) الشهيرة الذي لم يفارق اسمه.
رياض الناقد يعري المثقفين!
لقد حمل رياض نجيب الريس في كل ما كتب سواء في السياسة أو في الأدب، حساً نقدياً عالياً، وإن أسقط الناس عنه صفة الناقد في خضم احتفائهم بإنجازات مسيرته في الصحافة والنشر حين أسس دار نشر شهيرة حملت اسمه واعتبرت على مر عقود واحدة من أهم دور النشر العربية وأكثر أناقة وإتقاناً في إصداراتها.
ولعل أهمية كتاب سعاد جروس هذا، أنه يعيد – بالنسبة لي على الأقل، وأنا الشغوف برسم صورة الريس الناقد وتأملها – يعيد التذكير بموهبته النقدية في قراءة الأشياء والظواهر، وتقييم الشخصيات والأسماء، بما فيها تقييم نفسه في أحيان كثيرة. ولهذا وجدتني أتوقف مطولاً عند تشخيص رياض الريس النقدي الرائع لسلوك المثقفين وتسلطهم، حين قال في معرض حديثه عن تجربته في مجلة (النقاد):
“لعل أسوأ أنواع المعادين لأي تحرر هم المثقفون المتسلطون بالفطرة، فهؤلاء هم أعداء الديمقراطية الحقيقيون لا السياسيون. هل يستطيع أي صحافي أن يقول في أي مطبوعة لشاعر (درجة ثانية أو ثالثة) إنه شويعر؟ قد يقتلونه بالتهميش والتبخيس؛ فغالبية المثقفين نوع بشري لم يتعلم شيئاً. طموحهم أن يكونوا خدماً عند السلطة في العالم العربي، ويتمنون الحصول على كسرة خبز حباً في السلطة لا في الخبز. وقد لمست ذلك فترة إصدار النقاد وعانيت منه، فلو انتقد أحدهم رواية نشرتها لا يتقبل كاتبها الأمر، ولا أحد يستعد للرد على المنتقد، فضلاً عن مدح بعضهم المسهب لبعضهم الآخر، كذلك إن الساحة الثقافية العربية تطغى عليها عصابات ومليشيات ثقافية، تهدد وترتشي، وينافق بعضها بعضاً.” ص (108)
سيرة الكواليس
حاولت سعاد جروس في حوارها الطويل المشفوع بمقدمات حميمة ودافئة، أن تدخل في كواليس حياة رياض الريس صحافياً وناشرًا وإنساناً، كانت أسئلتها لماحة وحاضرة وذكية، لكنها لم تكن مشاكسة ولا خلافية، طرحتُ على نفسي السؤال وأنا أقرأ: لماذا ابتعدت سعاد عن مثل هذه الأسئلة، هل لأنها كانت ترى في رياض الريس الأستاذ الذي تتلمذت على يده وتعلمت منه الكثير كما تقول في مقدمتها؟ هل لأنه سيكون ناشر الكتاب، وصاحب القرار الفصل في ضبط صورته النهائية؟ أم لأنها كانت تريد أن تكتفي بما يود هو قوله فقط، لا ما تريد أن تنزع منه بمهارة المحاور الذي يبحث عن نقاط الضعف في شخص محاوره كي ينفذ منها إلى مواضع الألم الصريح؟
تهت بين هذه الأسئلة متقلباً بين الرضا والنفور، إلى أن اهتديت إلى الجواب الذي تقوله سطور الكتاب نفسه: سعاد لا تريد أن تبيع الماء في حارة السقائين… ولا تريد أن تفتعل المشاكسة مع رجل مشاكس في كل شيء ولا شيء لديه يخفيه، ولا سؤال يخاف أو يتهرب منه. فكل الأسئلة بما فيها تلك التي تبدو ذات مآزق كموقفه من النظام السوري مثلاً.. يجيب عنها بكل سلاسة وجرأة ووضوح، كاشفاً في ثنايا الجواب ألغاماً لم يشر إليها السؤال.
سارت سعاد على طريق الألفة والمودة في حوار استفهامي إذاً، أسئلته الإشكالية نادرة، واهتمامها الإشكالي بالأسماء التي يمكن أن تضفي بعداً أكثر إثارة هامشياً إلى حد كبير، فقد جاء رياض الريس على أسماء كثيرة كان حديثه عنها ملتبساً كأنسي الحاج وطلال سلمان ونزار قباني، ما يفتح الشهية مثلاً لنبش موقفه الحقيقي منها أو من غيرها. أما نزار قباني فقد مر ذكره عرضاً، وكان حَرِيّاً التوقف عند تفاصيل العلاقة معه لأهميته كشاعر على الأقل ولأهمية تجربة رياض معه، لكنها آثرتْ أن تكتفي بما قاله لها حين تحدث عن العلاقة مع سعاد الصباح، كما مرت عرضاً بما ذكره عن طلال سلمان وعدم ترحيبه الضمني به عندما كتب لـ(السفير) ثم انقطع فلم يسأل عن غيابه ففهم الرسالة.. لكن المحاورة عوضت عن هذه الفضولية بالمقابل باهتمامها بالتفاصيل والبحث عن رؤوس الموضوعات التي تشحذ مشوار الحوار الطويل، كأنها كانت تريد أن تركب لوحة “بازل” لرياض نجيب الريس، من فتات الأسئلة الصغيرة والمتناثرة واللاهثة، التي لا تريد أن تترك باباً مغلقاً أمامها، لا تحاول فتحه كي تعرف ما وراءه.
تجارب الصحافة والسياسة
ومن خلال هذا الإبحار في التفاصيل وفي أماكن العمل، والتوقف عند تجربته التي انطلقت من دار الصياد لصاحبها سعيد فريحة، الذي كان يعتبرها بيته ثم في جريدة (المحرر) التي عمل بها مع مؤسسها هشام أبو ظهر والتي صدرت في لبنان عام 1962 بتمويل مصري متأثرة بجريدة (أخبار اليوم) المصرية، ثم في جريدة (النهار) التجربة الأغنى التي تعلم منها الكثير، ثم عند رحلاته الصحافية إلى الخليج، وسعيه لتأسيس منابر صحافية، وإصدار مجلات ثقافية أبزرها (الناقد) ثم (النقاد) وبحثه عن تمويل لهما، تارة عند القذافي وأخرى عند غيره، كما أوردت رأيه في كثير من أنظمة دول الخليج العربي التي عاصر نشوءها، معبراً عن انحيازه لتجربة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
هكذا تتبلور صورة الريس رياض اللاعب مع صناع القرار من دون رخص، والباحث عن استقلاليته في آن، مثلما تتبلور صورة الصحافي الشجاع والمغامر، والباحث عن أفق أوسع، والإنسان الذي يبوح ولا يتحفظ، وينتقد دون أن يُخفي رأيه أو يوارب في القول، ويقدم في ثنايا تحليله نقداً عميقاً لا يجامل. فكأن هذا الكتاب في حواره الطويل هو تجسيد للمسافات الطويلة التي قطعها السؤال والجواب على مدار أكثر من 250 صفحة، حبلى بالنوادر عن السياسيين والمثقفين والعلاقة بينهما، كحديثه عن العلاقة بين اللواء آصف شوكت والمؤرخة خيرية قاسمية التي يذكر أنها “هي التي أشرفت على أطروحة له عن الثورة السورية عام 1925، يُبْرِزُ فيها العلاقة الوطنية بين إبراهيم هنانو وصالح العلي، الموضوع المحبب للعلويين للدلالة على وطنيتهم” كما يذكر رياض الريس بكل صراحة، أنه أبلغ آصف شوكت استياءه لإزالة اسم أبيه نجيب الريس عن الشارع الذي كان فيه منزلهم بحي أبو رمانة ووضع اسم نزار قباني، ويقول: ” حينها أَمَرَ على الفور بإعادة اسم نجيب الريس، وكان الحل باقتسام الشارع إلى جزأين: جزء باسم أبي، والآخر باسم نزار قباني ولكن لذلك لم يرضني”!
سورية الوطن المؤجل!
العلاقة مع رجال نظام الأسد، أمثال مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام، ووزير الإعلام محمد سلمان، شكلت جزءاً من علاقة رياض بوطنه سورية.. ذلك الوطن المؤجل الذي كان يفكر بالعودة إليه ثم لا يلبث أن يتراجع. وهكذا كانت علاقاته مع مسؤولي النظام عابرة، تفتح أفقاً لمشاريع ما تلبث أن تطوى، وتكشف هزال المحتوى الإنساني لا السياسي فقط، ولهذا لا يتورع رياض الريس من الاعتراف بأن اللواء آصف شوكت عرض عليه شراء بيتٍ له في دمشق وفتح أفق العمل أمامه، حين كان يأمل إعادة إصدار جريدة أبيه (القبس) في دمشق، وكيف أنه عندما أخبر والدته رفعت يديها نحو السماء ثم قالت له: “برضايا عليك يا ابني لا تقبل!” ثم حين يصف نفسه قائلاً: ” أحد أطوار الغباء في حياتي ظني – ولو لوهلة – أن بإمكاني إصدار جريدة في سورية في ظل النظام القائم”!
هكذا يمكن أن نعثر على صورة عفوية مرسومة بريشة فوضوية لرياض نجيب الريس في كتاب (صحافي المسافات الطويلة) إذا أردنا أن نتذكره أو نستعيد معالم تجربته، لكنها ليست ريشة فوضوية لعجز في الموهبة؛ بل هي أشبه بفوضوية النهر الذي يُتْرَكُ ليرسم مجراه. هكذا أرادت سعاد جروس لرياض نجيب الريس أن يتدفق كالنهر، وأن تكون أسئلتها أشبه بالضفاف التي تسير معه حيناً، أو تعدل بلطف وصلابة مسار جريانه حيناً آخر، كي تفتح قنوات فرعية تدخلنا في حكاياتها الممتعة، لتقول لنا: كم خسرنا وخسرت سورية بفقد صحافي وناشر وناقد كرياض نجيب الريس.