فنون وآداب

نصوص أدبية || الطّين

ارتدادات حزني على اللوحة أقسى من ارتدادات الزلزال. جمعت القطع الحجريّة، حملت اللوحة وتوجّهت إلى كفرنبل.

خير الدين عبيد – العربي القديم

سقطت لوحة الموزاييك الأثريّة المعلّقة على الجدار بفعل الهزّة الأرضيّة التي ضربت بلادي مؤخّراً، وكانت حسب مقياس ريختر بقوّة 6,2 درجة.

سقطت أيضاً لوحات زيتيّة، لوحة كروم الزيتون، لوحات القلاع: دمشق، حلب، صلاح الدّين، الحصن، لوحتان لجسر الرّستن والجسر المعلّق في دير الزّور، لوحة لسهل حوران، ولوحة للبحر.

اللوحات كلّها لم تتأذّ، أمسكتها.. وأعدت تعليقها.

وحدها لوحة الموزاييك انفرطت، انفصلت منها قطع حجريّة وتكسّرت، قطع في أعلاها، قطع في حافّتها اليساريّة، وقطع في زاويتها السفليّة.

ارتدادات حزني على اللوحة أقسى من ارتدادات الزلزال. جمعت القطع الحجريّة، حملت اللوحة وتوجّهت إلى كفرنبل.

صديقي محمد الداني فنّان.. متخصّص بصنع لوحات الموزاييك.. وترميمها. بعد معاينة طويلة وصمت أطول، قال:

” الحجارة التي انفرطت لها مشكلتان، الأولى.. بعض القطع مزيّفة، غُرست بيد تاجر آثار محترف، أنا أعرف كيف تمّ ذلك، لقد أحضر حجارة رخيصة.. وعالجها بالأسيد والملوّنات.. ثمّ أدخلها في نسيج اللوحة.”

المشكلة الثانية، اللاصق.

بحلقت به، تابع: اللاصق أيضاً رخيص، لا ديمومة له.

_ والحل؟ إنّها غالية جدّاً على قلبي.

_ أفهمك، يمكنني ترميمها، لكن.. من يضمن ألاّ تحدث هزّة أخرى؟

شربت كأس شاي، ودّعته.. وخرجت.

طوال الليل وأنا أفكّر في حل.

الحلول الكيميائية لا أثق بها.

أخيراً، في منتصف الليل، خطرت على قلبي فكرة.

علّقت اللوحة مكانها، ثبّتّ رفّاً صغيراً تحتها، ووضعت عليه القطع المكسّرة.

أسبوع كامل وأنا أحلم الحلم ذاته، طائر سنونو يدور حول النافذة ويسقسق، افتح النّافذة، يدخل.. يدور في فضاء الغرفة، في منقاره طين، والطين من ماء فرات.. وتراب كالحنّاء، يقف على الرّف.. يضع الطّين على اللوحة، يلقف قطعة حجر ويغرسها، ثمّ يسقسق ويطير.

أسبوع كامل، أستيقظ، أهرول نحو اللوحة، أعدّ قطع الحجارة على الرفّ، أجدها كما هي، أتفحّص أثر الطين.. فلا أجده.

أسبوع كامل، وأنا أنام مشرعاً نوافذ بيتي كلّها.

آاهٍ منك يا طائر السّنونو.

آاهٍ من سقسقاتك الحزينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى