الرأي العام

دلالات وقضايا | مستقبل سوريا بين النَّموذجين الإيراني واللُّبناني

لا يحقُّ له إن كان أكثريَّة أن يرغمك على ما لا تطيق، ولا يجوز له إن كان أقلِّيَّة أن يجبرك على تسيُّده

يكتبها: د. مهنا بلال الرشيد

بعد نصف شهر على تحرير سوريا من حكم عصابة المجرم المخلوع بشَّار الأسد في الثَّامن من كانون الأول- ديسمبر 2024 بدا واضحاً تَرَاجُعُ الانفعالات لدى الغالبيَّة العظمى من السُّوريِّين ونزوعهم نحو التَّفكير العقلانيِّ والمنطقيِّ بمستقبلهم أو مستقبل بلدهم ومستقبل أبنائهم في هذا البلد، وهذا شيء يُبشِّر بالخير الكثير إن تكلَّل بخطوات عمليَّة؛ بعدما تسكن نفوس الغالبيَّة العظمى من أبناء الوطن، ويستقرُّ فيها كلُّ واحد منَّا برهة في مكانه؛ لنترك المجال للسَّاسة والمشرِّعين وأعيان المناطق ووجهائها كي يجتمع كلُّ واحد منهم مع محيطه الاجتماعيِّ قبل تمثيل منطقته ومحيطه في حوار وطنيٍّ هادئ، ينتج عنه عقدٌ اجتماعيٌّ يضمن العيش الحرِّ الكريم لأبناء الوطن كلِّهم بعد أكثر من نصف قرن من الظُّلم والقهر والاستبداد.

لحظة التَّعقُّل بعد هدوء الانفعال

والحقُّ إن كان الانفعال سمة بارزة من سمات لحظات الفرح والحزن معًا؛ كفرحنا برحيل المخلوع وتساقط أصنام الطَّاغية أبيه، وحزن السُّوريِّين كلِّهم وهم يشاركون تلك الأمَّ آلامها على أبواب سجن صيدنايا، حين راحت تتحسَّس بيديها حبل المشنقة الَّذي التفَّ على رقبة ولدها في زنزانة من زنازين هذت السِّجن اللَّعين، نعم! لقد شاركتنا كلَّنا ذلك الإحساس المرير في لحظة إعدام الشَّهيد، والتفاف حبل المشنقة على رقبته ورِقاب رفاقه بدلًا من أرجحة المخلوع وأعوانه على تلك الأعواد. فرَّ المخلوع لكنَّنا سنلاحقه، وصاغ الشُّهداء بأرواحهم فجر حرِّيَّتنا المنشودة، وصنعوا بتضحياتهم معالم نشوتنا وحبورنا وبهجتنا وسرورنا؛ لنجد أنفسنا نحنُّ السُّوريِّين أحرار بين لحظتين من أقسى لحظات الانِّفعال، الَّتي فقد فيها بعضنا أو كثير منَّا اتِّزانه؛ فنادى المقهور بالقصاص، ورقص المنتشي بنصره، وتعقَّل بعض الآخرين.

وإن بدا أنَّ أكثر المتعقِّلين كانوا ممَّن لم يقدِّموا الدِّماء، أو يفقدوا الأعزَّاء؛ فلا بدَّ لنا أخيرًا من الرُّكون إلى لحظة التَّعقُّل هذه بعد هدوء الانفعال حزناً أو فرحاً؛ لأنَّ هوى النَّفس النَّاجم عن الانفعال آفة من آفات الرَّأي الكبرى، ولا يُفلح معها أيُّ نقاش أو حوار؛ لذلك كانت اللُّغة علاجًا مناسبًا في مثل هذه المقامات؛ نلجأ إليها لنكتب بها بنود عقدنا الاجتماعيِّ بعد تمحيصه جملة جملة، وتدقيقه كلمة كلمة، وقبل الاستعانة بها لصياغة عقدنا الاجتماعيِّ سنردِّد كلماتها في كلِّ محفل، وإكرامًا لأرواح مَن ضحُّوا لأجلنا سنقف دقيقة صمت في كلِّ مجلس، وسنحتفي بأبناء الشُّهداء بمدارسهم وجامعاتهم، وسننشد مع رشيد سليم الخوري في كلِّ مطلع:

خيرُ المطالع تسليمٌ على الشًّهدا          أزكى الصَّلاة على أرواحهم أبدا

فلتنحنِ الهامُ إجلالًا وتكرمةً              لكلِّ حرٍّ عن الأوطان مات فدًى

قد علَّقتكم يد الجاني ملطَّخةً             فقدَّست بكمُ الأعواد والمسدا

بل علَّقوكم بصدر الأفق أوسمةً          منها الثُّريَّا تلظَّى صدرها حسدًا

أكرم بحبل غدا للعرب رابطة             وعُقدةٍ وحَّدت للعرب معتقدا

ناشدتكم بدماء الأبرياء ألا                لا تهدرنَّ دماء الأبرياء سدى

دينيَّة على النَّموذج الإيرانيِّ أم طائفيَّة على النَّموذج اللُّبنانيِّ؟

بعد هدأة النُّفوس سنقول لأنفسنا أو سيقول المشرِّعون لنا: ماذا تريدون؟ أتريدون دولة دينيَّة لنصوغ لكم دستورًا دينيًّا مستوحى من روح الشَّريعة؟ وعلى أيِّ دين سنعتمد؟ على الشَّريعة الإسلاميَّة أو تعاليم اليهوديَّة والمسيحيَّة؟ بل من أيِّ مذهب سنستوحي دستورنا؟ وأيِّ طائفة سنرضي؟ أنرضي المسلمين أم المسيحيِّين؟ أنرضي السُّنَّة أم الشِّيعة؟ أنختار لكم رئيسًا مرشدًا مثل مرشد إيران أم رئيسًا مرشدًا مثل مرشد الأخوان؟ أو نكفل لكم حرِّيَّة العبادة وحرِّيَّة الالتزام الدِّينيِّ  وحرِّيَّة الاعتدال في التَّديُّن دون أن نجعل رئيسكم مرشدًا دينيًّا؟ أنرضي السُّنَّة أو المسيحيِّين أو الدُّروز أو العلويَّة أو الإسماعيليَّة؟ وماذا عن الأعراق والقوميَّات الكبرى والصُّغرى في سوريا؟ فإن نصَّ دستورنا صراحة على حقوق كلِّ مذهب أو طائفة فنحن أمام محاصصة طائفيَّة على النَّموذج اللُّبنانيِّ! وإن نصَّ الدُّستور على حقوق هذا العرق مقابل العرق ذاك فنحن أمام نموذج شوفينيٍّ أو نازيٍّ! وإن أردتم حُكم المرشد فأنتم أمام نموذج إيرانيٍّ أو أخوانيٍّ؟ ولو فضَّل بعضكم حكم هذا المرشد أو ذاك لهوىً في نفسه أو تماهٍ مع دينه أو عقيدته فهل يرضى الآخرون بهذا الدُّستور؟ وهل سنبقى في حالة من التَّجاذب إن كان هوى النَّفس لدى هذا القوم يميل نحو هذه النَّاحية، ويميل هوى القوم الآخرين إلى ناحية أخرى أو نبحث عن نقطة التقاء بيننا جميعًا؟ لنخبر كلِّ فرد في هذا الوطن عن واجبه في احترام القانون وعن حقِّه في ممارسة طقوسه ومعتقداته أو عدم ممارستها بشرط ألَّا يسيء للآخرين بالممارسة أو الامتناع عنها!

وهل من حقِّك أن تتَّهم شريكك غير المتديِّن في دينه لتدفعه رغمًا عن أنفه نحو التَّديُّن في هذا الوطن؛ وتستند على رؤيتك حول الأقلِّيَّة والأكثريَّة والمنهج المستقيم لحكم العالم والكون؟ أو هل من حقِّك أن تحارب المتديِّنين بحجَّة الحفاظ على العلمانيَّة؛ لأنَّها أفضل نظام يضمن التَّفاعل الاجتماعيِّ البنَّاء بين أفراد الوطن بغضِّ النَّظر عن أعراقهم ومذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم!

الحقُّ يبدو جليًّا وواضحًا إذا ما أبعدنا الانفعال أو هوى النَّفس وهو آفة الرَّأي كما أسلفنا، وجلاء الحقِّ أنَّه لا يجوز لك أن ترغم شريكك في الوطن على ما لا طاقة له به، وعلى ما لا اختيار له فيه؛ كدينه ومذهبه وعرقه وطائفته وقومه الَّذين وُلد بينهم، واكتسب مهم لغته ودينه ومعتقداته! ولا يحقُّ له إن كان أكثريَّة أن يرغمك على ما لا تطيق، ولا يجوز له إن كان أقلِّيَّة أن يجبرك على تسيُّده بدعوى احترام خصوصيَّته.

عقد اجتماعيّ يمنع تشكيل أحزاب دينيّة أو عرقيّة أو طائفيّة

 إذن نحن أمام حالة واضحة وجليَّة برغم تداخل تفاصيلها؛ يجب أن تسفر عن عقد اجتماعيٍّ يمنع تشكيل الأحزاب السِّياسيَّة على أساس دينيٍّ أو عرقيٍّ أو طائفيٍّ، ويجب منع هذه الشِّعارات أيضاً، ومرحباً بأحزاب الخدمة الاجتماعيَّة بغضِّ النَّظير عن رؤسائها ومؤسِّسيها ومنتسبيها بشرط ألَّا يكونوا من المجرمين، وبشرط أن تخدم المواطنين جميعهم دون تمييز، وتستقطبهم بخدماتها الاجتماعيَّة والإنسانيَّة لا بشعاراتها الطَّائفيَّة أو العرقيَّة أو الدِّينيَّة، الَّتي لم تعد تستهوي إلَّا السُّذَّج؛ لينتخبوا كهنتهم أو حاخاماتهم أو مستبدِّيهم، وبعد حصول الكهنة على أصوات الجماهير سيتحوَّل هؤلاء الكهنة الَّذين عزفوا على مشاعر الجماهير الدِّينيَّة أو الطَّائفيَّة أو العرقيَّة إلى مستبدِّين لا يبحثون إلَّا عن مصالح أبنائهم؛ لتوريثهم تركات نضالهم السِّياسيِّ من بعدهم؛ كسعي مرشد إيران لتوريث ابنه مقتدى منصبه من بعده، أو كسعي زعماء الطَّوائف إلى توريث أبنائهم زعامة طوائفهم من بعدهم، والكارثة كلُّ الكارثة إن كان الدُّستور يشرِّع مثل هذه الأبديَّة في التَّوريث والاستلام والتَّسليم؛ لنرجع بعد أكثر من نصف قرن من الظُّلم والقهر، وبعد أكثر من عقد من الثَّورة إلى بداية نفقنا المظلم بعدما أنارت لنا دماء الشُّهداء وأرواحهم وتضحياتهم دربنا الطَّويل؛ لنكتشف أنَّ أبا زيد ما غزا، أو كأنَّه ما غزا؛ لأنَّ النِّظام القمعيَّ الَّذي أخرجه من بوَّابة الثَّورة والجهاد أو النِّضال الثَّوريِّ قد عاد إليه من ثقوب الطَّائفيَّة وشبابيك المذهبيَّة؛ فهل فهمت قارئي العزيز ما أدعو إليه في هذا المقال؟ أهذا عقد مدنيٌّ أما هذ روح الشَّريعة؟ هل نحن أمام عقد اجتماعيٌّ أم هذه هي العلمانيَّة الحقَّة بأمِّ عينها؟ سمِّها ما شئتِ! وكُن شريكًا في بناء وطنك بعيدًا عن كلِّ نعرة طائفيَّة أو دعوة مذهبيَّة! لا تسمح لكهنة الأديان والمذاهب من الطَّوائف كلِّها أن يستعبدوك بطريقة أو بأخرى! لا تسمح لدعاة القوميَّة أن يلعبوا على وتر العرق الَّذي اختاره الله لك ولم تختره بإرادتك! لا تكن إلَّا إنسانًا حرًّا نبيلًا! ولا تنتخب إلَّا إنسانًا حرًّا نبيلًا واعيًا لتمثيلك بغضِّ النَّظر عن دينه أو طائفته؛ فالحرُّ يُريحك؛ وبوم الطَّائفة والمذهب لن يقودك إلَّا إلى الخراب! ولتكن صناديق الاقتراع حدًّا فيصلًا بين المتنافسين الشُّرفاء جميعهم بعد محاكمة كلِّ متَّهم بالقتل والإجرام والتَّطهير العرقيِّ، وسيبقى المتَّهم بريئًا حتَّى يُدان أو تثبت إدانته بقرينة دامغة، وسنرضى بحكم القانون بعيدًا عن دعاوى التَّسامح الرَّعناء، أو دعوات القصاص والتَّشفِّي بالطُّرق البدائيَّة!

تعليق واحد

  1. أرى أن أسئلة الكاتب الكثيرة التي طرحها عن تحكيم الشريعة لمجرد الجدال وغير عقلانية. أي دين ؟ أي مذهب ؟ أي…؟ أي….
    مجرد إضاعة وقت!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى