حرية الصحافة وتحديات الذكاء الاصطناعي: هل هو وعد بمستقبل أجمل؟
رغم أن التوجه نحو الذكاء الاصطناعي يحمل آفاقاً واسعة لتحسين العمل الصحفي، إلا أنه يطرح في الوقت ذاته تحديات بالغة الخطورة، وذات أبعاد غامضة

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم
من أجمل وأبسط تعاريف الصحافة كان التعريف الذي أقرَّ به المعهد الأميركي للصحافة (API) نقلاً عن كتاب عناصر الصحافة المشهور لكل من بيل كوفش وتوم روسينستل، اللذان قاما بتعريف الصحافة بأنها: “تقديم المعلومات التي يحتاجها المواطنون لتمكينهم من اتخاذ أفضل القرارات المتعلقة بحياتهم ومجتمعاتهم ومجموعاتهم وحكوماتهم”.
لعل هذا التعريف من أصدق ما قيل في وصف جوهر العمل الصحفي والغاية الأساسية منه، إذ يُعبر بوضوح وبلاغة عن الدور الجوهري الذي ينبغي أن تؤديه الصحافة في المجتمع، ولكن الواقع اليوم وللأسف الشديد يُظهر ابتعاداً ملحوظاً عن هذا الهدف النبيل ، فالكثير من الوسائل الإعلامية لم تعد توفر لجمهورها المعلومات الدقيقة والموضوعية التي تمكنهم من تكوين آراء سليمة، واتخاذ مواقف واعية، وإصدار قرارات صحيحة ومدروسة سواء في حياتهم اليومية أو معظم الأمور المختلفة على المدى القصير، أو حتى على المدى المتوسط كالاستحقاقات المصيرية التي تتأثر بهم مثل المشاركة في الانتخابات والإدلاء بالأصوات.
تتعدد أشكال الصحافة وميادينها، فهناك الصحف والمجلات، والإذاعة والتلفاز ووكالات الأنباء، وغيرها من الوسائل التقليدية، وقد انضمت لها في العصر الحديث الصحافة الإلكترونية والمواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، التي ربما روج لها الكثير من النخب في بداياتها بوصفها أفقاً جديداً يمنح الصحفيين مساحات أوسع من حرية التعبير، وذلك رغم أن هذا الانفتاح الكبير حمل معه تحديات خطيرة، ولعلَّ أبرزها صعوبة ضبط هذه الوسائل، مما أتاح المجال لظهور خطابات وصحافة عنصرية وتحريضية تصدرت المشهد الإعلامي في السنوات الأخيرة بشكل صادم وغير مسبوق، ومن هنا فإن المطالبة اليوم بسنِّ قوانين تحمي حقوق الصحفيين وتكفل حريتهم يجب أن تقترن أيضاً بضرورة وضع أطر قانونية واضحة تُحدِّد واجباتهم، وتضمن مساءلتهم عند تجاوزهم لمبادئ الحرية، وانزلاقهم إلى تبني خطابات شوفينية أو عنصرية، أو الدعوة إلى الكراهية والتحريض على الآخر تحت ذريعة حرية الصحافة والتعبير.
إن إدراك خطورة هذه التحولات يستوجب العمل على إقرار قوانين حديثة تنسجم مع الواقع الإعلامي المعقد والمتسارع، وتُسهم في تعزيز حرية الصحافة باعتبارها حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان، وركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية ، على أن تكون هذه الحرية مطلقة في المبدأ، ومسؤولة في الممارسة، وإيجابية في الأثر المنعكس على المجتمعات.
شهدت الفترة الأخيرة، وفي سياق الاحتفاء باليوم العالمي لحرية الصحافة تنظيم العديد من الفعاليات والمؤتمرات في مدن عدة مثل دبي وبروكسل وغيرها لمناقشة تأثيرات الذكاء الاصطناعي المتسارعة، وخصوصاً ما بات يُعرف بصحافة الذكاء الاصطناعي التي لم تعد مجرد مجال ناشئ، بل أصبحت محوراً رئيسياً في الدراسات التي تتناول حرية الصحافة، وهذا الموضوع بما يحمله من أهمية وتعقيد وعمق يستحق بلا شك تناوله بشكل تفصيل أوسع يسلط الضوء على أبعاده من كافة الجوانب، وأثره في بنية الإعلام، ومستقبل حرية التعبير في ظل الذكاء الاصطناعي، ورغم أن هذا التوجه نحو الذكاء الاصطناعي يحمل آفاقاً واسعة لتحسين العمل الصحفي وتطوير أدواته، إلا أنه يطرح في الوقت ذاته تحديات بالغة الخطورة، ولا تزال بعض أبعادها غامضة أو غير مُدركة بشكل كافٍ، ولعلَّ أبرزها ما يتعلق بإمكانية تحول هذه التقنيات إلى أدوات للهيمنة وتوجيه الرأي العام، وربما تقييد الحرية الحقيقية والفعلية للصحافة من خلال التحكم في تدفق المعلومات وصناعة السرديات بما يخدم أهداف معينة.
وأعتقد أن هذه المخاوف لا تأتي من فراغ، وهذه ليست مصادفة برأيي أن تُشير تقارير دولية كتقارير “مراسلون بلا حدود” إلى أن حرية الصحافة قد بلغت أدنى مستوياتها منذ سنوات في عام 2025، وهو ما يعكس أزمة حقيقية تتطلب وقفة تأمل جادة وإعادة تقييم للذكاء الاصطناعي وصحافة الذكاء الاصطناعي في المنظومة الإعلامية العالمية.
إن ما يُعزِّينا في واقع الصحافة العربية والكردية، وصحافة المنطقة والشرق عموماً هو إدراكنا العميق بأنه لا وجود حقيقي لصحافة حرة بمعنى الكلمة في هذا العالم البائس، والحرية المقيدة التي نعيشها في صحافتنا المحلية أو الإقليمية لا تختلف كثيراً عن كبريات الصحف العالمية.
لقد كانت الصحافة قبل قرن من الزمان أكثر شفافية ومصداقية، أما اليوم فيتزايد مشهد الهتك والمصادرة لكل قلم حر. ولا يقتصر هذا التراجع على المجال السياسي فحسب، بل طال – بكل أسف – حتى الصفحات الثقافية التي يفترض أن تبقى بمنأى عن التقييد والمساس بحريتها، ويا أسفاه على صحافة باتت تتحرش حتى بالمقال الذي يتناول قضية إنسانية أو اجتماعية.
كانت الصحافة في أزمنة مضت تُسقط حكومات، وتنهض بأمم، وتُشعل ثورات، أما اليوم فقد أضحت في كثير من الأحيان مجرد أداة خاضعة لأجندات ومصالح ضيقة.
أصبحت مكشوفة بشكل واضح أكذوبة حرية الصحافة والرأي والتعبير التي تتشدق بها مؤسسات تدَّعي حرية التعبير للأقلام المستقلة والموضوعية، وفي كثير من الأحيان نجد أن المؤسسات والمنصات الغير مستقلة تمنح حرية في التعبير أكثر من التي تدَّعي الاستقلالية في شعاراتها وعناوينها فقط.
في هذا اليوم، لا نملك إلا أن نوجه تحية إجلال لكل كاتب حر لا يقبل الخضوع، ولكل صحفي مستقل لم يساوم على قلمه.
شكراً لكل صحيفة، ولكل منصة إعلامية، ولكل مؤسسة تبنَّت شيئاً من العدالة والموضوعية، وخفَّفت – ولو قليلاً – من الخطوط الحمراء، ومنحت الكاتب والصحفي هامشاً ديمقراطياً بسيطاً يُمكنه من الحركة والتعبير.
شكراً في هذا اليوم لكل صحفي أو كاتب أبى أن يكون قلماً مأجوراً لغايات مشبوهة، ولكل من اختار طريق الاستقلال والصدق.
نجدد التزامنا في هذا اليوم بالوقوف إلى جانب حرية الصحافة، وعلينا جميعا -ساسةً وشعوباً- أن ندرك أن الصحافة الحرة والصحفي المستقل ليسا ترفاً فكرياً، بل ضرورة مُلحة في عالم تزداد فيه النزاعات والانقسامات والحروب، وأن حرية الصحافة والتعبير هي الأمل والوعد الحقيقي بمستقبل أجمل.