أرشيف المجلة الشهرية

مع الطنطاوي في ذكرياته

د. فطيم دناور – العربي القديم

لأسرةٍ شاميةٍ ذاتِ مكانةٍ علميةٍ ودينيةٍ معروفة، وُلد الشيخ محمد علي الطنطاوي في دمشق (12 حزيران/ يونيو 1909) تنقّل بين كتاتيبها ومدارسها النظاميّة، التي كانت منتشرة في الشام إبّان الحكم العثماني آنذاك، وأكمل دراسته الجامعية بين مصر وسورية.

 وقد أسهمت تنشئته في ظلّ أسرة مثقفة وتلقّيه التّعليم في مدارس متعدّدة المشارب إلى تهيئته تهيئةً علميةً، مكّنته من نقد الطرق التّقليدية في التّعليم والفقه والسياسة، فكان من طلائع المجدّدين في هذه الميادين مع التزامه بالاتجاه الديني الإسلامي، يثبته إيمانٌ راسخٌ بقدرة الشريعة الإسلاميّة على إصلاح الشأن العام والخاص في سورية والعالم الإسلامي، إذا ما أُحسن تطبيقها.

سافر إلى دول عربية وإسلامية عديدة، وشارك في التجمّعات والتّنظيمات، وعرف علماء وفقهاء وسياسيين عن قرب، فكانت له آراء وكتابات في هذه الميادين جميعًا، لا يكاد يخبو له نشاطٌ في ميدان، حتى يظهر في ميدانٍ آخر، كنبعة ماء لا يسدّ لها منفذ، حتى تنفر في آخر، ولو اعترض طريقها صخرٌ لتفجّرت من خلاله.

كلّ ذلك جعل منه شخصيةً عامةً، وجعل حياته كنزًا من التجارب، سعى مَن حوله إلى تعريف الناس بها، فطلب إليه الأستاذ زهير الأيوبي أن يدون ذكرياته، وألحّ في الطلب حتى استسلم الشيخ لرغبته، ثم قام السيد إبراهيم سرسيق بكتابة حلقتين بأسلوبه، نشرتا في مجلة “مسلمون” التي أصدرها الأَخوان هشام ومحمد علي حافظ.

هذه البداية التي جرّت بعدها حلقات نشرت، ثم تطورت الفكرة إلى جمع المقالات في ثمانية مجلدات، يربو عدد صفحاتها على الثلاثة آلاف صفحة، كلّ مجلد قسم إلى فقرات سمّاها حلقات؛ وذلك لأنه في بداية الأمر كان يتحدث، ويُسجَّل حديثه، ثم يفرَّغ بنصٍ مكتوب. وقد قام السيد مجاهد مأمون ديرانية (حفيد الشيخ) بمراجعة الطبعة الخامسة منه وتصحيحها (2006)، ووضع حواشي لها، وكانت أفضل الطبعات وأكثرها دقة، صارح القرّاء في مقدمتها، أنّه كان سيحجم كما كان صاحب الذكريات سيحجم، لو عرف ما سينفقه من مراجعة على تلك الذكريات من جهد ووقت.

        ولقد راودَ كاتبة هذه الكلمات الإحجامُ ذاته، حين طلب منّي الأستاذ محمد منصور رئيس تحرير (العربي القديم)، الكتابة عن ذكريات الطنطاوي، فأين لي بزمن أقرأ به هذا الكمَّ الهائل من الحلقات، بل من أين آتي بصبرٍ على قراءة مذكرات بهذا الحجم، ونحن في زمن التغريدة والشذرة والنتفة؟

لكنّ الحكم على أيّ عمل، ينبغي أن يكون بعد الاطّلاع على مواده، تحرياً للموضوعية وإنصافًا لصاحبه، فما إن بدأتُ بقراءة مقدمة المؤلف والحلقات الأولى من ذكرياته، حتى أيقنتُ أنّني أمام سيلٍ من مذكرات، تقدم للقارئ صورة حيّة عن عصر تجاوزناه، ونحنُّ إليه، وعن الأماكن التي زارها والأشخاص الذين عاصرهم وعرفهم، بلغةٍ جزلةٍ أدبيةٍ تعصِمك من الملل، وتشدّك أكثر من روايات هذه الأيام المضجرة، ما يجعله أهلًا للّقب الذي أطلقه عليه حفيده “أديب الفقهاء، وفقيه الأدباء”، وقد اتّبعت طريقة الانتقاء: أختار من كلّ جزء ما يلفتني من عناوين الفقرات، فأقرؤها. أكتب هذا؛ لأبين للقارئ أنّي لم أقرأ الذكريات كاملةً، وأن ما سأدونه من ملاحظات هو عن أجزاء انتقيتها، بحسب ذوق شخصي، وليعذرني القارئ الكريم فالكتابة عن هذه المذكرات، تحتاج إلى كتاب أو كتب حتى توفيها حقّها.

الموضوعات والمحتوى

كتبَ الطنطاوي عمّا عاشه من أحداثَ مفصليّةٍ، وعمّا وطئت قدمه من بلدان وبقاع، وعمّا فكّر فيه أو كتب عنه من قبل، وعمّن عرفه من شخصيات عامّة، وقد كان من قبل كثير الكتابة، يكتب عن كلّ ما يلفت نظره وفي أيّ مكان وبأي أداة توفرت، فغطت ذكرياته حياته منذ سن السادسة حتى اللحظة التي كتب بها أول كلمة، وهو في سن الخامسة والسبعين من العمر، لكنه ركّز جلّ كتابته على الخمسين سنة الأولى من عمره، وهي الفترة التي ازدحم بها التاريخ السوري والعربي الحديث بالأحداث، والنقلات التاريخية والثقافية والسياسية، وكانت دمشق محور الحديث والحدث.

ولمّا كانت هذه مكانته القضائيّة والعلميّة والدينيّة والثقافيّة في عصره، فقد تمكّن من السفر إلى أقطار ومدن في شرق العالم وغربه، فكتب من واقع تجربته الشخصية عن أندونيسيا ومدنها وطبيعتها، وعن مدن العراق وواقعها الثقافي والديني، وعن مصر وحواضرها ومؤسساتها العلميّة، وعن السعودية وإقامته فيها، وعن الجزائر وباكستان، وعن مدن أوربية مثل فرانكفورت وآخن، وحواضر يتعذر عدها.. وفي كل بلد يتناوله يعرض لعلمائه المبرزين وكتّابه المؤثّرين، إن بما عرفه عنهم عن قرب، أو بما قرأ عنهم في صحف تلك الأيام، فكتب عن الشخصيات والمؤلفات والقضايا المحركة لعجلة الوعي في الدول والمدن، فكانت الجغرافيا والعمران والتاريخ، واللغة والأدب، والفقه والقضاء، والإعلام والثقافة، والاقتصاد والسياسة، والعادات والأخلاق، والشخصيات المؤثرة في كلّ موضوع من هذه الموضوعات.

        ولم يكن يكتب للتوصيف أو النّقد وحسب، بل كان يقترح الحلول، ويشرع في تطبيقها، كما حصل حين رجع من بغداد، وعاين بنفسه ما آلت إليه حالها من غياب للمظاهر الإسلامية، فجمع في بيته في دمشق العاملين في مجال الدعوة بجميع توجهاتِهم، وحدّثهم بما رأى في بغداد، وحتى لا يصل حالُ دمشق إلى ما آلت إليه حالُ بغداد، اقترح عليهم أن يتعاونوا في الدعوة، ووضع خطة ممنهجة لتغطية الأنشطة التوعوية في الميادين كافة. (ص 13/4)

الأسلوب واللغة

 لعلّ أكثرَ عنصر جذب للقارئ في أيّ نصّ مكتوب، هو أسلوب المؤلف، الذي يعدّ صورة صاحبه، وأسلوب الطنطاوي في “الذكريات” ليّن- جزل  في آنٍ معًا، بعيدٌ كلّ البعد عن الجفاف والتعقيد، وهي ما اتسمت به شخصية الطنطاوي ذاته كما وصفها، فما يكاد المرءُ يضع عينه على أول كلمة، حتى يأخذ الكاتب بيده، ويصحبه برحلة عبر الزمن يهمس إليه بلغةٍ حانيةٍ قريبةٍ، ترطِّب ما جفَّ واخشوشب مع الزمن، يتحدث إليك بلا تكلّف أو تحفظ، يشعرك أنه يجالسك، يلهب ذاكرتك وخيالك، كما في هذه الفقرة التي وصف بها أطلال البيوت الشاميّة القديمة: “وأنا لا يصيبُني ويحرّك نفسي كالوقوفِ على الأطلال، إنّني أرمّمها في خيالي وأصلحُها، كما يرمّم البيتَ العتيقَ مالكُه، حتى يعيدَ إليه من بهائِه ما يمكن أن يعود! كنتُ أنظر إلى الغرفةِ التي بقيَ نصفها، فأراها ونصفُها معها، ومع صاحبها نصفُه الآخر من البشر: الزوجُ وزوجتُه، والجدران ساترةٌ والباب مغلق. أراها وقد عادت الحياة إليها، ورجع إليها أهلوها، حتى إنّي لأسمعُ لغط صبيانها، وأحاديثَ نسائِها، وقرع قباقيبِهنّ على بلاطِها! مع أنّها قد زالتِ الجدران؛ فانكشف المخبوء، وذاعتِ الأسرار، وصارَ من فيها كأنّهم يمشون في السّوق بلا ثياب”. (ص7/8)

وهو يكثر من ضرب الأمثال، وخصوصًا الأمثال التي تعكس ثقافة ما بعد عصر التدوين العربي، يمثّل عن نفسٍ سَمَتْ بالتواضع، فهو يضرب لنفسه مَثل “حمار الشيخِ في العقبة”، ليصف حاله حين يستطرد بالحديث، ثم يرغب بالرجوع إلى موضوعه الأساسي، لكنه ينسى ذلك الموضوع، ويقف حائرًا ماذا يقول، (ص19/1) وفي موضع آخر يضربُ لنفسه مَثل “حمار الساقية”، الذي ألِف الدوران حولَها إشارة إلى اعتياده الوحدة وألفته لها، حتى غَدا لا يطيقُ تغييرها، (ص393/7) وفي موضع ثالث يضربُ لنفسه مَثلًا بصاحب الحمار الذي قيل له: أيُّ حماريك أسوأ؟ فقال: هذا، مشيرًا إلى كلا الحمارين (ص350/4)، كما يشبه حاله في ضياعه وتخبطه في مطار “فرانكفورت” بالصرصور في القدر الفارغة الملساء الجوانب، (ص209/ 7) وفي موضعٍ آخر يشبه نفسه بـ “هبَنّقة” الأحمق، الذي كانت له قلادةٌ يضعها حول عنقه، ليعرف بها نفسه، فلّما سرقها أخوه ذاتَ ليلة وتقلدها، استيقظ “هبنقة” ورآها على أخيه، فقال: أنت أنا، فمن أنا؟! ليدلّ بذلك على تساؤله عن طبيعة شخصه ومن يكون! كما يشبه حاله في صعوده سلم الشهرة بحال “جحا” الذي غنَّى، فأعجبه صوتُه، ولكن حين وُضع أمام جمهورٍ كبير عجِز عن الأداء (ص38/1).

وهكذا لا يزال يضربُ الأمثال مقرباً الفكرة إلى ذهن القارئ، ومحققاً -من دون قصد- هدفين: الأول، التقليل من نفسه والتعبير عن تواضعه، وهو تواضع يترفّع به عن المهانة والضعف، فقد وصف نفسه بالقول: “… فأنا جريءٌ، عنيفٌ، حادّ المزاج، سريعُ الغضب، كما أني سريعُ الرّضا، بل لأني أردّ الصاع صاعين أو ثلاثة، إن كان الذي يكتب عنّي كبيرَ القدر في الأدب، أو في الفكر، أو كان الموضوع، مما لا يجوز السكوت عنه” (ص8/2)، فإن أضفنا إلى هذه الصدامية، حركة التجديد الفكري التي قادها، أدركنا لماذا ملأ الدنيا وشغل الكتّاب، وبات مرمى بارزاً لسهام الصحافة، كما أشار في أكثر من موضع.

والثاني تثقيف القارئ، وربطه بثقافته العربيّة الأصيلة، حين جره إلى البحث في قصص تلك الأمثال، وأنساقها الظاهرة والمضمرة.  

المنهج والخطة

 يلمس قارئ الذكريات ثلاث ملاحظات في منهجها:

  1. تداخل الأحدث وعدم تسلسلها، 2- التكرار، 3- الاستطراد.

وكان المؤلف شفافاً حين صرّح أنه -خلافاً لنهج كتاب المذكرات والسير- بدأ الكتابة وليس في ذهنه خطّةٌ يسير عليها ولا طريقةٌ يسلكها، وكان شبه مكره على الكتابة، وكثيرًا ما كان يكتب الحلقة، ولا يعرف ما الذي يأتي بعدها، أو ينسى ماذا كتب قبلها، فجاءت غريبة عن أساليب المؤرخين الذين يتبعون ترتيب الزمن، أو ترتيب الأحداث وفق الأسباب والنتائج، وهو بذلك سار وفق قانون التداعي أو توارد الخواطر، وقد أرجع هذا إلى أنّه لا يملك وثائق دوّن فيها عن الأحداث في حينها، ودوّنَ أثرها في نفسه، إضافة إلى أنه لا يملك ذاكرة غضة قوية، وإنما هي ذاكرة أدركها الكِبر، وتسرب إلى مكامنها النسيان؛ ولذلك آثر أن تسمّى “ذكريات” لا مذكرات، فالمذكرات تعتمد على الوثائق، والذكريات تعتمد على الذاكرة.

وهو ما نبّه عليه المحقّق أيضاً، حين أشار إلى أنّ المؤلّف كان يتحدث عن الفكرة حديثاً موجزاً، ثم قد يعودُ لها أكثر من مرة، ويتناولها في حلقات تالية، وبرّر ذلك بأنّ المؤلّف حين بدأ الكتابة، لم يكن قد وضع خطّة للكتاب، ولم يتصور أنّه سيتوسع فيها بالقدر الذي صنع (18/1). وبناء على هذه الطريقة قد يتحدّث عن طفولته في حلقة، ثم ينتقل إلى مرحلة الثانوية في حلقة بعدها، ليعود إلى الطفولة بعد حلقات عدة حسب المناسبة والحديث. فإذا علمنا أنّه بدأ الكتابة، وهو الخامسة والسبعين أدركنا أنّنا أمام بحرٍ لُجاج من الذكريات، لكن ما عدّه المؤلف عيبًا قد يكون ميزة تسِم الحديث بعفوية الخلّان والأحباب.

وأما عن التكرار، فقد نبه عليه المحقق بالقول: “وسوف يجد قارئ هذه الذكريات أنّ في بعض مواضعها تكرارًا، فيقرأ في حلقة وصفًا لأحداث قرأ عنها في حلقةٍ مضت، أو حديثًا عن أعلام سبق الحديث عنهم في ما مرَّ من حلقات، (وهو أمر اعتذر عنه المؤلف غير مرة في ثنايا الذكريات)، وكلّ ذلك تركتُه لم أمسّ منه شيئًا، ولم أعلّق عليه مشيرًا إلى تكراره؛ لأنّ المناسبة جرّت إليه هنا كما جرّت إليه هناك، ولأن الحديث -وإن تكرر- قد جاء بصورة غير الصورة أو بكلماتٍ غير الكلمات” (10/1). ولعلّ المتأمّل لهذه الطريقة يدرك أن هذا بعضٌ من نهج القرآن الكريم في تكرار القصص، ففي كل مرّة كان يُعرَض جانب منها بصيغة مختلفة عن سابقاتها ولهدف مختلف؛ ما جعل الدارسين ينكرون التكرار في القرآن الكريم من أساسه. كما أن للتكرار فائدة نفسية؛ فكلّما أعيد ذكر الحدث أو الشخصية استحضرها الذهن طازجة حيّة، وربط بين وجودها في السياق الحالي والسياق السابق.

أمّا الاستطراد: فهو سمة بيّنة منذ الحلقة الأولى، وكثيراً ما يترك الحادثة الأساسية، وينساق خلف حادثة جانبية أو مكان أو شخصية، وهو أمر نبّه إليه وحذّر منه منذ البداية أيضًا، وكرّر ذلك التحذير. أمّا عن سبب هذا الاستطراد، فهو يستأنس بكتب الأدب العربي القديم، في تبرير هذا النهج الذي عدّه عيبًا، وأشار إلى ما في كتاب “الحيوان” للجاحظ كمثال على تجذّر هذا النهج في الكتابة العربية. ويعتمد الاستطراد على قانون تداعي الذكريات، فما إن يستحضر الذهن حدثاً حتى يجرّ حدثًا آخر متعلقًا به، ثم يسترسل بالحدث الفرعي ناسياً موضوعه الرئيس، لكنه سرعان ما يتنبه، فيعود إليه.

لعلّ في ذلك خروجاً عن سبيل الكتابة المنهجيّة للمذكرات، لكنه أسلوب يقرّب الحديث إلى النفس، يريحها من عبء التركيز، ويدفع عنها الملل، وإن كان سببًا في الإطالة وكثرة الفقرات.

كلمة في الذكريات

 صحيح أنه تعذّر عليّ قراءة الذكريات كاملةً، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُله، وبناء على ما قرأته من الحلقات وهي كثيرة، يمكنني بكثير من الاطمئنان القول: إنّ هذه المذكرات وثائق هامة للعصر الذي دوّنت عنه، تقدّم تصويراً صادقاً عن أمكنته وشخوصه وقضاياه، وهي وثائق غنية للمؤرخ أو السياسي أو الأديب أو الصحفي، حين يريد معرفة تفاصيل دقيقة عن حياة هذه البقاع في أهم مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر، وخصوصاً دمشق، ولعلّ قوتها تكمن في المعاينة الشخصية، واللغة الأدبية التي تمتّع قارئها، أمّا ما يمكن أن يؤخذ عليها، فهو أنها دوّنت بالاعتماد على الذاكرة، والذاكرة تنسى وتتخيل وتنتقي، وهو أمر نبه إليه المؤلف منذ البداية وحذر منه، لكنّه كان يعتمد في كثير من رواياته على مقال كتبه عن الموضوع، أو كتاب أو قرار صدر، وكلّها وثائق قوية.

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى