حول دراسة التاريخ في المناهج الدراسية
إذا كان التشويه أداة للقمع، فإن الحقيقة يمكن أن تكون أداة للتحرر
زنوبيا، ملكة تدمر، تُعتبر واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ القديم. تمكنت من قيادة مملكتها في القرن الثالث الميلادي ضد الإمبراطورية الرومانية، وأثبتت وجودها كزعيمة قادرة على تأسيس كيان مستقل ومزدهر في قلب الصحراء السورية. ومع ذلك، الروايات التي وصلتنا عنها متناقضة تماماً. السجلات الرومانية تصفها بأنها أسيرة مهانة قُيدت بالسلاسل وعُرضت أمام الإمبراطور أوريليان في موكب النصر، في محاولة لتأكيد قوة الإمبراطورية ورسم صورة تليق بمنتصرها. في المقابل، يعيد التاريخ الحديث تشكيل زنوبيا كرمز للمقاومة والتمرد، كقائدة جريئة واجهت قوة عالمية عظمى. هذا التناقض يعكس بشكل صارخ كيفية إعادة كتابة التاريخ من منظور القوة، حيث يتم تهميش الروايات التي لا تتفق مع أهداف المنتصر.
على الجانب الآخر، تُظهر قصة حسن الصباح وقلعة “ألَموت” كيف يمكن للأساطير أن تطغى على الحقائق عندما تصبح الأدوات الفكرية والإعلامية في يد الأقوياء. ماركو بولو، الذي عاش في القرن الثالث عشر، قدّم رواية مشوهة عن “الحساسين”، زاعماً أنهم كانوا يتعاطون الحشيش ليُخدروا ويتحولوا إلى أدوات طيّعة لتنفيذ اغتيالاتهم. هذه الرواية، التي تفتقر إلى أي دليل حقيقي، حوّلت حسن الصباح من مفكر وزعيم عقائدي إلى رمز للغدر والتطرف في مخيلة الغرب. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذه الصورة النمطية.، كما فعل الرومان مع زنوبيا، كان تشويهاً متعمداً لصورة الآخر لتبرير سياسات الإقصاء والتدمير.
هذه القصص، سواء عن زنوبيا أو حسن الصباح، ليست مجرد صفحات في كتاب التاريخ. إنها انعكاس لما يمكن أن يحدث عندما تتحكم القوى المسيطرة في السرديات، وتعيد تشكيل الحقيقة وفقاً لأجنداتها. هذا لا يقتصر على الماضي البعيد، بل يمتد ليشمل الحاضر، كما يظهر في رمزية سجن تدمر. هذا المكان، الذي كان شاهداً على واحدة من أحلك فترات التاريخ السوري الحديث، يُعد رمزاً للقمع الذي مارسته السلطات لعقود، حيث تحول إلى أداة لإسكات المعارضين وإخضاعهم.
سجن تدمر، بموقعه في قلب الصحراء، كان أكثر من مجرد مكان للاعتقال. كان مركزاً للقمع والرعب، حيث تعرض الآلاف للتعذيب والقتل في ظروف لا يمكن وصفها إلا بأنها غير إنسانية. السردية الرسمية للنظام السوري حاولت دائماً تبرير وجود هذا السجن واستخدامه كأداة للقمع، حيث صُوّر المعتقلون فيه كإرهابيين وأعداء للدولة. هذه الرواية كانت امتداداً لآلية تشويه الحقائق التي استخدمتها القوى عبر التاريخ، لتحويل الضحية إلى مذنب وتبرير القمع باسم حماية الأمن والاستقرار.
ما يربط بين هذه القصص المختلفة هو استخدام التشويه كأداة للهيمنة. في حالة زنوبيا، تم تقليص إنجازاتها وتصويرها كرمز للهزيمة، وفي حالة حسن الصباح، تم تحويله إلى شخصية أسطورية نمطية تُستخدم لتبرير العداء تجاه جماعته. وبالنسبة لسجن تدمر، تم تشويه صورة المعتقلين داخله لتحويلهم إلى أعداء، مما برر استمرار القمع الوحشي ضدهم لعقود.
لكن، وسط هذا الظلام، تبرز فرصة لإعادة تشكيل هذه الرموز من جديد. إذا كان التشويه أداة للقمع، فإن الحقيقة يمكن أن تكون أداة للتحرر. إعادة قراءة التاريخ، وتصحيح السرديات، وتحويل رموز القهر إلى رموز للعدالة يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل. يمكن لسجن تدمر، الذي كان رمزاً للرعب، أن يتحول إلى رمز للعدالة إذا تم إعادة بنائه ليس لاستمرار القهر، بل ليكون مكاناً يُحتجز فيه كل من أفسد سوريا واستغل مواردها وظلم شعبها. هذا التحول ليس مجرد خطوة رمزية، بل مشروع لإعادة تعريف العدالة في المجتمع السوري، بحيث يصبح السجن تذكيراً دائماً بأن القمع لا يدوم، وأن العدالة، مهما تأخرت، لا بد أن تتحقق.
لكن تحويل سجن تدمر إلى رمز للعدالة لا يمكن أن يكون كافياً وحده. التغيير الحقيقي يبدأ بإعادة بناء الإنسان قبل المؤسسات. التعليم، على وجه الخصوص، يجب أن يكون في صميم هذا التغيير. لا يمكن الحديث عن عدالة حقيقية دون إعادة النظر في المناهج التي تُدرس للأطفال والشباب.
في هذا السياق، تبدو التعديلات التي طرأت على المناهج السورية مؤخراً مثيرة للقلق، حيث تم حذف شخصيات وطنية بارزة مثل نازك العابد، جول جمال، إبراهيم هنانو، وأبو خليل القباني. كما تم إلغاء نصوص شعرية لعبد الرحمن الكواكبي وصفي الدين الحلي، فضلاً عن إزالة الإشارات التي تحكي عن حقبة الاستعمار الفرنسي ومقاومته. هذه التغييرات تُظهر بوضوح كيف يُعاد تشكيل التاريخ المدرسي ليخدم مصالح معينة، متجاهلاً قيم التنوع والتوازن التي يجب أن تكون أساساً لتدريس التاريخ.
إذا أردنا أن تكون مناهج دراسة التاريخ وسيلة لتعزيز الوعي والنقد بدلاً من تكريس الانحياز، فلا بد من اتباع نهج موضوعي وحيادي. يجب أن تحتوي المناهج على وجهات نظر متعددة، وأن تفصل التاريخ عن الأيديولوجيا، وأن تقدم روايات متوازنة للأحداث، مع الاعتراف بالأخطاء والإنجازات معاً. يجب أن تكون المناهج أداة لتعزيز التفكير النقدي وتشجيع الطلاب على استكشاف الحقائق بأنفسهم.
التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو أداة لفهم الماضي وبناء مستقبل أكثر عدالة. إذا استطعنا إعادة صياغة المناهج لتكون موضوعية، وتنقية السرديات من التحيز، فإننا نضمن خلق جيل يدرك أن الحقيقة ليست حكراً على المنتصرين، بل هي ملك للجميع، ومصدر قوة لمجتمع يسعى نحو التقدم والمصالحة
ما يهم السوريين برأيي ليس الماضي رغم أهميته بل الحاضر، وكيف يمكن تحسين حياة الإنسان السوري بشكل مباشر وفعّال. الكرامة والأمان هما الأساس، وهما الشرطان الضروريان لخلق بيئة تتيح تحسين شروط الحياة بجميع جوانبها، من التعليم والصحة إلى الخدمات الأساسية. كما أن بناء اقتصاد حر وسليم يشكل الركيزة الحقيقية لأي تقدم مستدام، فالسوري بطبيعته مبدع وقادر على تحقيق النجاح إذا أتيحت له الفرصة. كل القضايا الأخرى، مهما بدت مهمة، هي مجرد تفاصيل مقارنة بهذا الهدف الأساسي. الحاضر هو نقطة البداية، والتركيز على الإنسان السوري الآن هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل يليق به وبإمكاناته.