أرشيف المجلة الشهرية

يتبقّى إرث الذكريات وإرهاصات عمر الوعي

العربي القديم – مصعب الجندي

ما الذي يتبقى من نزار؟ سؤال طرحته  مجلة (الأهرام العربي) على مجموعة من النقاد والأدباء في الملف الذي خصصته لمواكبة حدث رحيله  قبل ربع قرن، وعادت مجلة (العربي القديم) لتطرحه في عددها الخاص عن نزار، على عدد من الكتاب السوريين ضمن [قضية العدد]، هنا مساهمة الأستاذ مصعب الجندي.

***

أين نهرب من إرثنا والذكريات في زمن الجمود المُجحف؟ أين نهرب من شاعر كنزار قباني، وقصائده التي منحنا إياها قبل خمسين عاماً وأكثر، لتبقى تؤرق ضميرنا وحالنا مع كل حدث أليم؟

 اليوم (يا بن الوليد ألا سيف تؤجره)، (فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا فيا دمشق .. لماذا نبدأ العتبا)… (معلّقةٌ) واحدة جمعت ألمين في واحد (غزة/ دمشق) رآه، وعاشه القباني قبل خمسين عاماً، وأنا جمعتني مع القصيدة طرفة وألم، فعندما صدرت عام 1971 (من مفكرة عاشق دمشقي) كانت الناس تتداولها بين بعضهم بعض كمنشور سياسي يصورنه ويتبادلونه.

كنت في ذاك الوقت طالباً في الصف الأول الثانوي، منتسباً كجميع الطلبة الطليعيين، لاتحاد الشبيبة والطلبة! ومن حسن حظي كنت قد تجاوزت سن الطلائع، كان لي دور نضالي هام فُرض عليّ، بسبب إلقائي الشعريّ الجيد الذي علّمني إياه المرحوم والدي مع (ديك الجن وأشعاره)، عدا عن صوتي الجهوري الذي يصلح لاستنفار الهمم، دفاعاً عن الوطن، والمهمة هي إلقاء قصيدة مرّة في الأسبوع، عبر إذاعة المدرسة في الفرصة بين الدروس.

 وفي واحدة من تلك المرّات طُلب مني إلقاء قصيدة (عاشق من فلسطين) للشاعر محمود درويش، لكني وبغفلة من (المناضل العنيد أمين الفرقة الحزبية في التجهيز الأولى، ومعاون مدير المدرسة) أخرجت ذاك المنشور، واخترت منه عشرة أبيات أو أكثر (لا أذكر جيداً)، وبدهاء مني بدأت الإلقاء من مطلعها الغزلي:

حبيبتي أنت .. فاستلقي كأغنية

على ذراعي ولا تستوضحي السببا

وعلا تصفيق الطلبة، إلى أن وصلت إلى:

 يا شام أين هما عينا معاوية

وأين من زحموا بالمنكب الشهبا

فلا خيول بني حمدان راقصة زهواً

ولا المتنبي مالئٌ حلبا

 وتهدج صوتي حين:

أدمت سياط حزيران ظهورهم، وباسوا كف من ضربا….

وحشرجت حنجرتي:

وخلّفوا القدس فوق الوحل عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبا.

كان الطلاب مع تلك الأبيات الأخيرة في حالة صمت غريبة، وعندما خرجت إلى الباحة متجهاً إلى طوابير الصفوف صفقوا لي. ما إن دخلت قاعة الصف، إلا والموجه يستدعيني إلى مكتب (المناضل) معاون مدير المدرسة، وأثناء ذهابنا إليه قال لي الموجّه:

 “يا مجنون لسا ناقصكم مشاكل أنت وأهلك… لسه ناقصكم يا بيت الجندي!”

 ثم تابع، وقد تمالك أعصابه:

“المهم الله يرضى عليك خليك ساكت، وأنا ومدير المدرسة منلفها”.

 وحين مثولي أمام المناضل تلقيت الصفعة، مع صياح مليء بالزبد، لم أفهم منه، ولا حرفاً. غادرت، بعد أن تأكدت من حرماني من “مهمتي النضالية”، ومنعي من دخول غرفة إذاعة المدرسة نهائياً، وكأنها (BBC) .

نزار قباني من القِلّة القليلة من أدباء عصرنا التي قرأت حاضرنا ومستقبلنا، أراد لنا السعادة… أراد لنا أن نشعر دائماً بأننا لا نكبر ولا نهرم، نبقى في عمر الوعي، وفي الآن نفسه نبدو بؤساء حتى التعاسة، لأننا منذ ذاك الوعي، ونحن نرفل في العجز والألم. لا فرح، ولا ضحكة من صميم القلب، فكأن ما يتبقّى من نزار هذا الإرث الحميم من الذكريات، ذكريات نعيش معها شريط أيامنا، وشريط آلام وقهر أمتنا.  

___________________________

من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني – كانون الأول/ ديسمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى