قرأت في العدد الماضي | العربي القديم إذ تأخذك إلى إدلب.. وتخبرك عن التاريخ والفن والثقافة
د. حسام عتال – العربي القديم
إدلب اليوم ليست مدينة للمتحفظين الحذرين، ولا لمن ضم طرفه وحرس غفلته. في إدلب اليوم كل جمال وعنفوان وحماس الثورة السورية، وكأنك تعيش أسابيعها الأولى، وفيها في الوقت نفسه كل تناقضات الثورة ومآسيها وعثراتها، وفيها أشياء أخرى. عند كل من تقابله في إدلب، من سكانها الأصليين أو من المهجّرين، قصة تشعرك بالفخر والاعتزاز، بالحنين والشوق، وفي الوقت نفسه باللوعة والألم. قصة تدمي قلبك، وتدفع تلك الغصة في حلقك، والتي تحاول كبتها، عارفاً أنها ستنفجر بكاء في اللحظة التي تفارق فيها متحدثك، ليذهب في سبيله، وتذهب في سبيلك. إدلب ليست مدينة ذي الرأي المحايد، ليست مدينة من يترقب الفرصة للنطق بعد صمت طويل.
وإذا كنت أقل حظاً مني، ولم تسنح لك فرصة (في الواقع شرف) زيارتها مؤخراً، ستجد بديلاً عن ذلك في عدد “العربي القديم” الأخير الذي يخبرك عن البلدة، ومحيطها وتاريخها وسكانها.
يبدأ العدد من أعلى مراتب الإنجازات الإنسانية، من موقع الفن، يعرفّنا عبد الرزاق دحنون على الفنان سمير حمدي، مستخدماً لوحته التي لم يخطئ، عندما أسماها “خريف في مزهرية”. بشكل عجيب أخرجها عبد الرزاق، مما ظَنتُه واقعيتها الاشتراكية، النمط الذي اعتدنا عليه أيام انقضاض حزب البعث على روح الإبداع السورية، إلى حيز آخر أورى، سوري الأصل والفرع، ثم أضاف تعريفاً بلوحات الفنان بالحبر الصيني، والتي لولا تعريفه لنا بها، لما أدركنا أنها من عمل الفنان نفسه المتنوع الذخائر.
من هذه البداية يتدخل د. مهنا بلال الرشيد؛ ليعيدنا إلى رشدنا بحصافته العلمية الدقيقة، ويأخذنا للوراء ثلاثة آلاف سنة في رحلة تاريخية مع الأموريين، ندرك فيها، نحن الذين علّمنا النظام الدكتاتوري النظر ببعد واحد، أن هناك أبعاداً لا حصر لها، لمعاينة أمر ليس أعظمه، إن كانت إدلب عاصمة سوريا القديمة أو إيبلا.
ولأنه لدينا نزعة للوم الذات؛ بسبب تردي أحوالنا المزري في الإنتاج العلمي والثقافي، تعطينا د. فطيم دناور جرعة أمل، عندما تطرح لنا عملاً بضخامة وعمق، وجدية ما كتبه محمد سليم الجندي عن تاريخ معرة النعمان. ندرك في نهاية هذه الدراسة المفصلة، أن الشعوب تتأرجح بين الصعود والهبوط، تترنح وتسقط، ثم تقوم، وأن مسيرتها غير ثابتة في لحظات، لكن في النهاية تبقى لديها قوة ذاخرة، إذا قرر الإنسان ألا يعذر نفسه، وألا يقدم تبريرات، بل يعمل دون كلل؛ لينتج فكراً وعملاً، كما أنتج هذا الباحث العظيم.
وبينما يفك مصطفى شحّود سلاسل وقيود المسرح في إدلب، ويطرفنا بحكايات، مثل مسرحية غالب عياشي، وكيف تدرب فريقها على أسطحة الأبنية (أعتقد أني لم أستخدم أسطوح بنايتنا، سوى للهروب، وتدخين سيجارة بعيداً عن مرأى والدي)، يقوم في الوقت نفسه، بإلقاء الضوء على دور عائلة الكيالي الرائد، بدأ بمسرحية السموءل عام ١٩٢٨ في كفر تخاريم، البلدة نفسها التي سيعمل ماهر أبو علي على فك الطلاسم عنها، عن طريق ذكريات حميمة معززة بقصص جدته، وأمثالها الشعبية المتداولة جيلاً بعد جيل.
مراهقو سراقب، ولهجات بنش كانت مداخل مثيرة تشدنا لمعرفة سابغة عن البلدتين، كما قدمها لنا عبد الرحمن حلاق، وياسر البدوي بأسلوبهما الموسيقي المحبب. نجد أنفسنا ندندن معهما أغنية سورية، فيما كل منا يتناهى في أذنيه لحن من قريته أو مدينته يتناغم بسلاسة مع تلك الأغنية الجامعة.
ومهما تباعد الزمن، وتراكمت الأحداث، يبقى هناك فيلم شاهدناه في صغرنا، ترك فينا أثراً لا ننساه؛ لأن دُور السينما، كتلك التي امتلكتها عائلة غزوان قرنفل في سلقين، هي جزء من وعينا البصري والسمعي. عندما أخذنا غزوان معه لتلك السينما، عشنا مرة أخرى لحظات، كما فعلنا أول يوم ذهبنا فيه مع أهلنا، (أو دونهم، ودون علمهم) إلى دار السينما. تجربتي كانت في سينما النعنوع بجبلة، بعمر لا يتجاوز الثماني سنوات مع أبناء عمي. شاهدنا فيلماً هندياً للممثل شامي كابور يغني فيه مع محبوبته الحسناء، والتي دغدغت في نفسي شيئاً ما، كنت أدرك كنهه حينذاك. بطريقته الساحرة رفع غزوان مدينته الصغيرة سلقين من موقعها الجغرافي المحدود، بدار السينما فيها، وبقية المرافق والبيوت، وجعلها تحلق في السماء، ثم ألقى قطعاً منها في كل قرية ومدينة سورية.
الكاتب، وابن الكاتب، سعد فنصة، (وهو مصور متمرس أتابع أعماله في منشوراته على الفيسبوك)، لملم ثقافة إدلب المسلوبة وآثارها المنكوبة في جعبة، وحمّلنا إياها على أكتافنا، فشعرنا بفداحة الحِمل، ورغم أني عتال ابن عتال شعرت بعبء ثقيل تحت أمانته أعيت عظامي. لكنه يعود برفق، وينهي بنا المطاف مع طائفة خالصة مع أدباء نعرفهم كالأخوين حسيب ومواهب كيالي، ونجم الدين سمان، وتاج الدين موسى، وابنه مصطفى، وغيرهم؛ معهم نعرف أننا لسنا وحيدين في تناقضنا مع الدكتاتورية والتخلف والجهل، وأن لنا صحبة صافية، مع من لا يبطرون بذراع، ومن لديهم الضلاعة في حمل أعباء ما انتدبنا له جميعاً في هذه الأيام الثقيلة.
للأستاذ محمد منصور، وكل طاقم التحرير، وللكتّاب الذين أسهموا في عدد “العربي القديم” الرائع عن إدلب، أتقدم بوافر الشكر والامتنان.
________________________________________________
من مواد العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بالأديب زكريا تامر – أيار/ مايو 2024