أرشيف المجلة الشهرية

طرابلس - حمص – حيفا: قطار الشرق المُريع

همام البني – العربي القديم

في عام ١٩٠١ اجتمعت عائلات من “أبهى المدن على ساحل سوريا”، طرابلس الشام، في ليلة صيفية هادئة، الليالي الهادئة واجتماع العائلة كان مازال ممكناً حينها، قررت عائلات المدينة الميسورة إنشاء صندوق استثماري على كلفتهم، لجميع أهالي طرابلس، أطلقوا مشروع العمر، محطة قطار وسكة حديد. متنفس حياة يربط منطقة الأسكلي أو ما يعرف اليوم بمينا طرابلس بالجارة حمص، ومنها جنوباً وشمالاً إلى قارات العالم.

حاجة السواحل إلى عمق، وحاجة الداخل ل”فتحة” على البحار، ضرورات ملحة، لكن ليست الجغرافيا وحدها ما يجمع المدن، شكلت “فتحة طرابلس” حالة وجدانية عند الحماصنة، هذا الممر الجبلي الواسع لم يجلب الهواء العليل لهم فقط، بل جلب لهم “السند” والانتماء للمنطقة والإنسان، علم الاجتماع يلخص الحالة ب”الحب للمماثل” أو الهموفيليا، جذابة اختصارات اليونانية القديمة، هومو، معاً، وفيليا هي الصداقة.

تحرك القطار بأهالي طرابلس عام ١٩١١، كان بناءً مبهراً، حركة التاريخ فى جوهرها توثيق لحركات البشر وتطلعاتهم، للازدهار والنمو، أو للناحية الأخرى، الآهات و ال”تارات”.

في عام ١٩٤١ أصبح للطرابلسي رفاهية السهر بحيفا أهم مدن  فلسطين التاريخية والعودة، خلال يوم، أو الانطلاق منها إلى غزة، ثم القاهرة وكامل أفريقيا، ارتبطت المدن مع الإقليم وقارات العالم ثقافياً، اقتصادياً وإنسانياً، رغم وجود أنواع مختلفة من الانتدابات، حينها، الاستعمار كان أكثر عقلانية و”شغل تقوى”.

موانئ شامية ثلاثة، طرابلس، بيروت، وحيفا ارتبط ازدهارها وأرواح سكانها، بمدن طريق الحرير القديمة، دمشق، حمص، وحلب، الإخاء والطريق ذو الاتجاهين، كانا يجلبان الاستقرار، بضائع الخير وازدهار الجميع، لم تكن جحافل الموت، بتجارتها، جيوشها وميلشياتها قد وصلت بعد.

«كان الشرق الأوسط مكاناً لمزيج عالمي من اللغات والأعراق والطوائف، جمعتها خطوط السكك الحديدية، مثل فاكهة منوعة في وعاء»، تقول «الإيكونوميست» في تحقيقها المنشور منذ سنوات عن اغتيال سكك حديد الشرق الأوسط.

قصة المدن الثلاث طرابلس – حمص – حيفا، لخصت حكاية دمار المنطقة المُريع، عام ١٩٤٥ قامت الميليشيات الصهيونية الرئيسية الثلاث بتفجير خطوط القطارات في أكثر من 150 نقطة، وزرعت عبوات ناسفة في محطات مفترق القدس واللد. بعد سبعة أشهر، دمرت في “ليلة الجسور” عشرة جسور تربط سكك حديد فلسطين وطرقها بالعالم العربي. إلى اليوم يمجد موقع على شبكة الإنترنت، مقاتلي منظمة “الإرغون”، الميليشيا التي كان يرأسها رئيس الوزراء المستقبلي مناحيم بيغن، ما يزال الموقع يشيد ب “الإنجاز”: “لقد حققت العملية هدفها، تم قطع البلاد عن كل جيرانها”.

في طرابلس، أمعنت سلطات الانتداب – الاحتلال بدفع المدينة نحو التهميش، مورست ضدها سياسة عقابية منذ رفض أهالي طرابلس إعلان “لبنان الكبير” مطلع العشرينات. مشروع الانفصال المعلن حينها كان يتطلب كسر إرادة المدينة وإخضاعها، للتخلي عن مناصرتها لمشروع الدولة العربية، دفعت المدينة ثمن مواقفها وانتمائها وهويتها، جعل منطق الامتيازات والهيمنة الطائفية الذي حكم لبنان “ما بعد الاستقلال”،  المدينة العريقة تراكم الخسارات، وكانت طرابلس أبرز ضحايا الاستعمار وحلفائه في المنطقة.

لحمص، قصة مشابهة، لا تقل مأساوية عن أخواتها، عاشت المدينة التي أطلق عليها “عاصمة الثورة”، فترات صعبة وتغيرات ديموغرافية على مدار تاريخها المعاصر حتى لحظة اندلاع الثورة السورية عام 2011، في ذلك التاريخ الجوهري، تعرضت أحياؤها على مدار سنوات لحملات شرسة من قبل المليشيات الطائفية العابرة للحدود أو المتواجدة داخله، دُمرت المدينة تحت نيران القصف والحصار، ثم انطلقت عمليات التهجير الممنهجة.

مثل القتلة الاثني عشر الذين كانوا على متن “قطار الشرق السريع” في جريمة الرواية الأشهر للكاتبة البوليسية أجاثا كريستي، كان لكل، من الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، الاستبداد المحلي لحُكام المنطقة،  دوافعه. قامت القوى الاستعمارية بتقسيم الشرق الأوسط، وأعطت مُخدميها الذين خلفوها الأولوية لحصصهم من الأرض، حدث ذلك على حساب الثقافة المشتركة التي تطورت عبر آلاف السنين لأهالي المنطقة. اعتبر ديكتاتوريو علب الصفيح الكوزموبوليتانية التواصل بين الحواضر التاريخية للإقليم، تهديدات للهويات القومية الجديدة، بعد أن فقد الدين عموميته، وتقلص إلى طوائف مرتبطة بكانتونات منعزلة واستثمارات أصولية، لا تنتمي للمكان أو الزمان.

بعدها بدأت المنطقة تدور حول نفسها، حلقة مفرغة لاستقطابات واصطفافات التاريخ، كأننا لم نخرج يوماً، من معركة صفين وموقعة الجمل، يصطف الجيشان بعدهم وعتادهم, حججهم وقضاياهم التي لا تحتمل التنازل، الدماء فقط هي ميزان الحق المطلق، لا عقول في هذا المقام، كيف لا، ونحن شعوب الرأي الأحادي والفهم الأحادي، الأفكار، الآراء المركبة، التسويات وصناعة الأوطان، جميعها غير قابلة للتداول في هذه البقعة من الأرض.

يقول الفيلسوف الإسباني – الأمريكي جورج سانتايانا: إن «أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكوم عليهم بتكراره»، بينما كتب كارل ماركس نصاً لاذعاً عن انقلابات نابليون الأول (1799)، وابن أخيه نابليون الثالث (1851)،  قال فيه: «يذكر هيغل في مكان ما أن جميع الحقائق والشخصيات ذات الأهمية الكبرى في تاريخ العالم تحدث كما لو أنها حدثت من قبل. نسي أن يضيف: في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة»، في منطقتنا تندمج المأساة بالمهزلة، بلا توقف، على شكل آلام ودورات تاريخية متعاقبة ومرعبة من الشماتة بهزائم ودمار “الآخر”، إذا صح تسميته بالآخر، وهناك في الخفاء بضحكة واسعة صفراء، يستمتع بهزائمنا ودمارنا الكبير، كل من قطَعَ سِكَكَ الدروب بيننا، بينما نخوض حروب “انتصاراتنا” المقدسة.

مراجع هامة:

1- جريمة قتل قطار الشرق السريع: كانت خطوط السكك الحديدية تربط الشرق الأوسط في الماضي – مجلة إيكونومست – ديسمبر 2021

2- د. عبد الغني عماد: مدينة لا تزال تبحث عن مكان في وطن؟ – موقع جولة طرابلس- دراسات عن طرابلس وتاريخها

_________________________________________

 من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى