فنون وآداب

القهوة وتقاليد الضيافة السورية: سكب القهوة خير ورزقة قادمة!

مريم الإبراهيم – العربي القديم

لا تخلو جلساتنا نحن السوريين من الأمثال والأقوال الشائعة التي تتماشى مع المواقف التي تقع، وتضفي عليها طابعاً من الحكمة والفكاهة في كل جلسة، تجدنا نتبادل العبارات التي ترسخت في ذاكرتنا الجماعية، ومن أبرز هذه الأمثال: “كب القهوة خير”، و”إيدي عم تحكني بدي أقبض مصاري”، و”عم ترف عيني بدك تزعلي”.

التفاؤل في الأوقات الصعبة

منذ فترة، كنت جالسة مع جارتي نتبادل الحديث والضحكات، وفجأة قام ابني بسكب ركوة القهوة كلها، وكسر الفناجين، وعبأ البيت برائحة القهوة. كانت الفوضة عارمة، لكن جارتي، بابتسامة مطمئنة، قالت: “معليش، كب القهوة خير، جاييتك رزقة”. تأملت كلماتها، وتساءلت بيني وبين نفسي: “أي رزقة تأتي مع كل هذا وضحكت”

لا يعرف الكثيرون أن وراء هذه الأمثال الشعبية قصصا وأحداثا تعكس تجارب حياتية عميقة، كلمات جارتي كانت محاولة لتهدئة الأجواء وتخفيف حدة الموقف، لكنها تحمل في طياتها حكمة عميقة تُظهر كيف يُمكن للتفاؤل أن يكون ملاذاً لنا في الأوقات الصعبة.

أدركت أن الأمثال الشعبية ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي مرآة تعكس ثقافتنا وتجاربنا ومواقفنا الحياتية. “كب القهوة خير” ليس مجرد قول لتخفيف الحرج، بل هو تعبير عن الأمل والتفاؤل، وعن قدرتنا على رؤية الجوانب الإيجابية حتى في المواقف السلبية.

إزالة الحرج عن الضيف

يحاول السوريون في كل البيوت إزالة الحرج وإضفاء جو من الطمأنينة، عندما يكون لديهم ضيف، فالضيف بالنسبة للعرب بشكل عام وللسوريين بشكل خاص هو “مقدس” وله واجبه من الضيافة، لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن سكب القهوة لا علاقة له بالخير كما يعتقدون، فقد قمت بالبحث عن الموضوع لأرضي فضولي، فوجدت إن هذه العبارة تحمل في طياتها قصة قديمة تعود إلى قصر أحد الأثرياء، الذي كان محط أنظار النبلاء و الأغنياء.

في هذا القصر، كان هناك خادم يدعى “خير”، اشتهر ببراعته في تقديم القهوة للضيوف، ذات يوم، وبينما كان خير يقدم القهوة لأحد النبلاء، انزلقت يده وسكب القهوة بطريق الخطأ في تلك اللحظة، التفتت الأنظار نحو صاحب القصر، منتظرة رد فعله لكن النبلاء، بروح الفكاهة والود، قالوا له: “كب  القهوة خير”. تحول الموقف المحرج إلى ضحكة مشتركة بين الجميع، واستمرت القصة تُروى وتُردد.

مع مرور السنين، تقدم خير في العمر، وباتت حركته أصعب تكررت الحادثة، وفي كل مرة كان الضيوف يقولون نفس العبارة: “كب القهوة خير”. أصبحت العبارة تعبيرًا عن التفهم والتسامح، وتحوّلت إلى مثل شعبي يتناقله الناس، ليظل خير وقصته حية في ذاكرة الأجيال.

من البسيط حكاية، ومن العادي قصة تُروى

جلساتنا هذه تحمل في طياتها الكثير من الألفة والمحبة، وتُبرز كيفية تعاملنا مع الحياة نحن، بأمثالنا وأقوالنا، نُضفي روحا خاصة على كل موقف نمر به، نجعل من البسيط حكاية، ومن العادي قصة تُروى، هذه العبارات، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، تحمل بين حروفها حكمة الأجداد وتجارب الأجيال، وتظل حيّة في ذاكرتنا وتُضفي على حياتنا لوناًخاصا.

 تبقى الأمثال الشعبية جزءًا لا يتجزأ من ثقافتنا وهويتنا، تروي قصصنا وتجاربنا، وتُعبر عن تفاؤلنا وإيماننا بأن الخير دائمًا يأتي، حتى مع انسكاب  القهوة  بالخطأ وكسر الفناجين في بعض الأحيان.

في كل مرة نردد فيها هذه الأمثال، نُحيي ذاكرة الأجيال ونستمر في نسج حكاياتنا الخاصة، ملؤها الحب والتسامح والأمل.

للقهوة وجوه عدة

تقديم القهوة في التاريخ السوري تقليد عريق،  هذا التقليد  يعكس أعمق قيم الاحترام والتقدير، ويشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي السوري، فعندما يُقدم فنجان القهوة للضيف، يكون الأمر أشبه بتقديم جزء من الروح، ممزوجة بدفء المشاعر وصدق النوايا.

ضمن  البيوت السورية التقليدية، وبين جدرانها التي تشهد على عبق الزمن، تجتمع العائلة والأصدقاء في مناسبات مختلفة، تُجهز ربة المنزل القهوة بكل حب واهتمام، بدايةً من اختيار أجود أنواع البن إلى طحنه بعناية وإضافة مزيج خاص من الهال  إليه، يُعد كل فنجان قصة بحد ذاته، تنقل معها حكايات الأجيال وتاريخ العائلة.

في العهود السابقة كانت القهوة العربية المرة منتشرة، كانت تطحن ضمن البيوت وتعد، وكانت رمزاً للشيوخ وكبار القوم، إذ تكون لديهم مضافة ولها مراسم خاصة بالتقديم والمسميات، كما كانت لها عدة وجوه،  عما يضع الرجل فنجان القهوة على الأرض ولا يشربه، يعبر ذلك أن لديه طلب من كبير القوم، أو من صاحب المنزل، كا أغاثة الملهوف وأجابة الداعي، وحل مشكلة المتعسر، وأجابة الطلب للزواج، وهي مثال للكرام وحسن الضيافة.

يأتي الضيف وتبدأ مراسم الترحيب يُقدم له فنجان القهوة الأولى، المعروف بـ”فنجان الكيف”. هذا الفنجان ليس مجرد مشروب، بل هو دعوة للاستقرار والراحة، وإشارة إلى بداية الحديث والألفة، بنظرة عينين المضيف، يشعر الضيف بكل تلك القيم التي تغمره من خلال هذا الفنجان، يتذوق القهوة بشغف، ليستشعر نكهتها الفريدة، ويستذكر الأوقات السعيدة التي عاشها في كنف هذا الكرم المتوارث الأصيل.

ثم يأتي مرة آخرى  “فنجان الضيف” ليكون تأكيداً على الاستمرار في الترحيب والاحتفاء بالضيف، يُصب القهوة بسخاء، وتُقدم بابتسامة تعكس الفرح بوجوده، تتجسد في هذا الفنجان قيم الاحترام المتبادل والتقدير العميق، وكأن كل قطرة من القهوة تحمل في طياتها كلمات الترحيب والامتنان.

وقبل مغادرة الضيف يُقدم “فنجان السيف”، وهو الفنجان الذي يشير إلى جاهزية المضيف للدفاع عن ضيفه وحمايته يُعبر هذا الفنجان عن العهد الصامت بينهما، حيث يصبح الضيف جزءاً من الأسرة، محفوظاً ومكرماً تحت سقف البيت السوري.

هذه الفناجين الثلاثة، رغم صغر حجمها، تحمل في طياتها معاني كبيرة وقيم أصيلة، إنها تجربة تتجاوز مجرد شرب القهوة، لتصل إلى أعماق الروح، حاملة معها ذكريات وأحاسيس تجعل من لحظة الترحيب حدثاً استثنائياً لا يُنسى.

رمز للقدرة على تجاوز المحن

“كب القهوة خير” ليس مجرد عبارة، بل هو لوحة فنية مرسومة بحب وكرم، تعكس الروح السورية الحقيقية، التي تفيض دفئاً وإنسانية في كل فنجان، قصة تُروى وأحاسيس تُنقل، لتبقى هذه التقاليد راسخة في وجدان كل من يحظى بشرف تذوق تلك القهوة.

العرب جميعاً اتصفوا بالكرم وحسن الضيافة، لاسيما السوريون الذين يشتهرون بفائق الكرم والترحاب بالغريب والقريب على حد سواء، في كل زيارة عائلية، تُقدم القهوة بحب وسخاء، وتُسمع الأقوال المأثورة والأمثال الشعبية تردد بين الأحاديث من أبرز هذه الأمثال “كب القهوة خير”، الذي يُقال دائمًا عندما تُسكب القهوة بطريق الخطأ أثناء تقديمها للضيوف، لتخفيف من حرج الضيف إن كانت قد سكبت معه خطأً، أو من المضيف الذي يحاول إظهار صغر الموضوع وعاديته، وإنه يوجد الكثير من القهوة والكرم، وإن ما حصل خير ويستند بالمثل المشهور.  نجد روح الكرم والتسامح تسري في عروق السوريون، وتُعبّر عن تقديرهم للضيوف مهما كانت الظروف إن القهوة هنا ليست مجرد مشروب يُقدم، بل هي رمز للحب والاحترام، وجسر يُبنى بين القلوب.

 “كب القهوة خير” تجسيد حي لروح السوريين المفعمة بالأمل والتفاؤل، هذا المثل ليس مجرد كلمات تقال، بل هو رمز قدرتهم على تجاوز المحن وإضفاء لمسة من الإيجابية حتى في كل  الظروف، عندما يسقط فنجان القهوة، فإنه لا يسقط معه الإ قليل من الماء والبن،  تلك اللحظة التي يمكن أن تفسر على أنها خسارة، تتحول بفضل هذا المثل إلى أمل جديد موعود بالخير القادم، حيث يزرع السوريون بذور الخير في قلوبهم وينثرونها على من حولهم.

زر الذهاب إلى الأعلى