علم النفس والسلوك

دوامة العنف: بين شرعية الفعل وميزان الأخلاق

شرعنة العنف: كيف يصبح العنف سلوكاً مألوفاً ومقبولاً في المجتمع؟

براء الجمعة * – العربي القديم

المجتمعات التي تشهد نزاعات وصراعات طويلة الأمد، يصبح العنف فيها أكثر من مجرد سلوك عابر؛ يتحول إلى نمط حياة ونهج لحل الخلافات. هذا التحول ليس تلقائياً، بل نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية وسياسية تجعل من العنف سلوكاً مشروعاً في نظر البعض. في الحالة السورية، يتداخل الألم الفردي مع المأساة الجماعية، يمكننا رؤية هذا التحول بوضوح في العديد من الممارسات اليومية، مثل مشاهدة مقاطع التعذيب، والإهانات الموجهة للمعتقلين، بل وحتى في طريقة تعامل الأطفال مع مشاهد العنف.

العنف كمنتج ثقافي واجتماعي

يتحدث علم نفس الأخلاق عن مفهوم “التطبيع مع العنف”، حيث يصبح العنف مألوفاً تدريجياً في المجتمع نتيجة التعرض المستمر له عبر وسائل الإعلام، التجارب اليومية، أو حتى القصص المتداولة. في سوريا أدى الاستخدام المنهجي للعنف من قبل النظام إلى خلق بيئة يُنظر فيها للعنف على أنه وسيلة ضرورية للبقاء أو المقاومة وأيضاً للأسف سلوك طبيعي!

عندما يتعرض الأطفال لمشاهد التعذيب أو يسمعون قصص التنكيل، فإن هذه المشاهد تتحول إلى جزء من إدراكهم للعالم. هنا تكمن الخطورة؛ فالأطفال، بدلاً من اعتبار العنف شيئاً مرفوضاً، يبدأون في رؤيته كجزء طبيعي من الحياة. هذا التطبيع يخلق جيلاً قد يتقبل العنف كوسيلة لحل المشكلات أو التعبير عن الغضب، ما يؤدي إلى دائرة مفرغة من العنف المجتمعي.

التنمر المجتمعي وتحطيم العدالة

أحد أبرز مظاهر شرعنة العنف في سوريا اليوم هو طريقة التعامل مع المعتقلين. فمن المفترض أن يمثل الاعتقال إجراءً قانونياً يُفضي إلى تحقيق العدالة، لكن في كثير من الأحيان تتحول لحظة القبض على المشتبه بهم إلى مشهد من الإهانة والإذلال العلني.

بهذا الشكل، يتم تكرار سلوك النظام المستبد الذي يستخدم التنكيل كوسيلة لإخضاع خصومه. هذا الأمر يتطلب وقفة جادة، لأننا إذا لم نكن أفضل أخلاقياً ممن نقاومه، فإننا بذلك نعيد إنتاج نفس النظام الذي نحاول التخلص منه. الأخلاق كما يقول علماء النفس التحرري، ليست رفاهية بل أساس وضرورة لبناء مجتمعات سليمة متعافية ومستقرة.

فهم النفسية التحررية

علم النفس التحرري، الذي برز على يد مفكرين مثل باولو فريري وإغناسيو مارتين بارو، يؤكد أن التحرر لا يعني فقط التخلص من الظلم الخارجي، بل أيضاً التحرر من آثاره النفسية والاجتماعية. عندما يتبنى الأفراد أو الجماعات نفس أساليب العنف التي استخدمها الظالم، فإنهم يصبحون أسرى لهذه الأساليب، حتى لو كانوا يدّعون أنهم يقاومونها.

في الحالة السورية، يمكننا رؤية هذا التناقض بوضوح. فعلى الرغم من أننا نناضل من أجل تحقيق الحرية والكرامة، فإن بعض ممارساتنا تعكس نفس الأساليب القمعية التي اتبعها النظام. هذا لا يعني أنه يجب أن نكون مثاليين، بل يعني أننا نحتاج إلى مراجعة دائمة لسلوكياتنا لضمان أنها تسير على طريق بناء مجتمع جديد قائم على العدالة والكرامة والمساواة.

دور الإعلام والتربية في كسر الدائرة

لا يمكن الحديث عن معالجة شرعنة العنف دون النظر إلى دور الإعلام والتربية. وسائل الإعلام ووسائل التواصل / التناحر الاجتماعي التي تعرض مشاهد التعذيب أو التحقير دون تقديم سياق نقدي تساهم في تطبيع العنف. هذا الأمر ينطبق أيضاً على المناهج الدراسية التي قد تتجنب مناقشة موضوع العنف أو تقدمه كجزء طبيعي من التاريخ.

التربية هنا تلعب دوراً محورياً في تعليم الأطفال أن العنف ليس أداة مشروعة لتحقيق الأهداف. يمكننا استخدام قصص تاريخية عن التسامح والعدالة لتعزيز القيم الأخلاقية، مع التركيز على أهمية الحلول السلمية التي تصون الكرامة والعدالة للجميع في بناء المجتمعات.

إعادة تعريف مفهوم العدالة

العدالة ليست فقط محاسبة المذنبين، بل أيضاً استعادة الكرامة للمجتمع. إذا كانت العدالة تُستخدم كذريعة لممارسة الإهانة والتنكيل، فإنها تتحول إلى ظلم جديد. في المجتمعات التي تسعى للتحرر، يجب أن تكون العدالة أكثر من مجرد انتقام؛ يجب أن تكون عملية لإعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق العدالة والمصالحة.

علم النفس الاجتماعي يبين أن العدالة التي تعتمد على الإهانة تُنتج المزيد من الانقسامات، بينما العدالة التصالحية تسهم في بناء مجتمعات متماسكة. في سوريا هذا يعني أن التعامل مع المعتقلين يجب أن يكون قائماً على احترام حقوق الإنسان، حتى لو كانوا مذنبين.

بناء الأوطان يبدأ من الأخلاق

لا يمكن بناء الأوطان على أساس الانتقام أو العنف. المجتمعات التي تبرر العنف بحجة الظروف الاستثنائية وعقود من المعاناة والقهر وتنتهي عادة بإعادة إنتاج نفس الهياكل القمعية التي كانت تحاول التخلص منها. الأخلاق ليست رفاهية، بل هي حجر الزاوية لأي مشروع وطني حقيقي.

كما يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “الأخلاق هي الأساس الذي تقوم عليه العدالة”. إذا كنا نريد لسوريا أن تكون وطناً للجميع، فإننا بحاجة إلى نموذج جديد يقوم على التسامح والعدالة، وليس على الإهانة والانتقام.

نحو مراجعة جماعية

إن شرعنة العنف ليست مشكلة فردية تنحصر في سلوك بعض الأفراد أو الجماعات، بل هي أزمة مجتمعية عميقة تعكس تشوهات متراكمة في منظومة القيم والسلوك. هذه الأزمة تتطلب مراجعة شاملة وجماعية، تبدأ من داخل الأطراف الفاعلة في المشهد السوري، وخصوصاً الذين يستلمون زمام الأمورالآن، ينبغي عليهم تحمل مسؤولية تقديم نموذج أخلاقي جديد ينسجم مع تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة.

العنف، مهما كانت أسبابه أو مبرراته، لا يمكن أن يكون طريقاً لتحقيق الحرية أو بناء مجتمع سليم. الأوطان لا تُبنى على أساس الانتقام أو التطبيع مع الإهانة، بل تقوم على أسس راسخة من العدالة والكرامة الإنسانية. وهنا يأتي دور الأخلاق، ليس كترف فكري، بل كقاعدة جوهرية لأي مشروع تحرري حقيقي.

في هذا السياق، نجد أن الأديان عامة، والإسلام خاصة، تولي أهمية كبيرة لمبادئ العدالة والتسامح ونبذ الظلم. الإسلام يضع العدالة كقيمة محورية للحكم بين الناس، ويرفض الرد على الظلم بالظلم. قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة: 8). هذا التأكيد على العدالة كطريق للتقوى يبرز أهمية الالتزام بالقيم الأخلاقية حتى في أصعب الظروف.

إن الالتزام بمبادئ العدالة ليس فقط واجباً دينياً، بل هو ضرورة لبناء مجتمع متماسك ومستقر. إذا أردنا لسوريا أن تكون وطناً للجميع، فإننا بحاجة إلى استلهام هذه القيم الأخلاقية والإنسانية، والعمل على بناء دولة تُعلي من شأن العدالة والكرامة، بعيداً عن دوامة العنف والانتقام.

المراجعة الجماعية ليست خياراً، بل هي خطوة ملحّة نحو مستقبل أفضل لسوريا، مستقبل يُنهي إرث العنف ويُرسخ قيم الإنسانية والعدالة التي لا غنى عنها لأي وطن يُراد له التعافي و النهوض من ركام الماضي.

_______________________________________________________________

* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى