الذاكرة السورية: ذاكرة ضبابية تقزم جرائم النظام
عبد الرزاق الحسين – العربي القديم
لابد للبناء من شروط وأسس يقف عليها، تحميه وتكسبه قوة، ماذا لو وضع المهندس (حجراً قفلاً) فيه، فهل يبقى البناء لو أزيل هذا الحجر؟! مطلقاً، سينهار!
قد تكون الشهادات (التوثيقية، السردية) من أخطر الشهادات، فماذا لو كانت الشهادات (انتقائية)؟
قد تحمل الشهادات على متنها عناصر ضعفها وإقصائها، تحت ضوء القانون. مدخلي في عمل (الذاكرة السورية)، سيكون مرتكزاً على أعمال ومقابلات سابقة، تمت في المؤسسة نفسها التي رعت، وموّلت الذاكرة السورية، وبعض المؤسسات الأخرى.
عينة من الشهادات!
في لقاء مع (المرأة الشجاعة)، شكت أنها كانت تعاني من نقص مواد الرعاية النسائية في السجن، كما أوردت في شهادتها أن: “عناصر من درعا ودير الزور كانوا يعذبونها، في حين كان (يمنعهم) عناصر من (الساحل)، وكانوا يحسنون التعامل معهن”.
– في لقاء مع (عميدة) المعتقلات قالت: أكثر ما أحزنني في السجن، هو أخذ أولادي مني؛ لإعطائهم التطعيمات اللازمة للطفولة، ثم إدخالهم مدارس قرى الأسد!
– في لقاء مع معارض (من ربيع دمشق)، كتب في الشأن السوري وفي العلاقات السورية الإسرائيلية، وفي العدالة الانتقالية: “لقد أسقط النظام أربعين ألف برميل على داريا”، وتابع مكرراً عدة مرات: “في حين كل ما رصد من المنظمات الأممية الفاعلة والمحايدة، وفق تقارير رسمية أقل من أربعة آلاف برميل”، وأكمل: “لا يمكن مطلقاً إغفال جرائم المعارضة الطائفية ضد القرى والمدنيين العلويين”.
تكشف هذه الشهادات توجهاً واضحاً ومتعمداً، لتقزيم حجم الجرائم التي ارتُكبت بحق الأكثرية السنية، والتقليل من حجمها، فداريا التي لم يبقَ فيها حجر على حجر، كما تظهر كل الصور، ما ألقاه النظام عليها أقل من أربعة آلاف برميل، والمشكلة ليست في الرقم بحد ذاته، بل في إظهار أن هناك مبالغة وتهويلاً حيال جرائم النظام المفترى عليه، وثمة رغبة في دحض رواية العنف الطائفي الموجه على خلفية أحقاد سلطوية، يعرفها كثير من السوريين. توجه، لا شك يعرف العاملون في الوسط الإعلامي، أنه يشكل توجهاً لدى المؤسسات التي تتبع لإمبراطورية عزمي بشارة وتمولها قطر، إذ لا يجب إظهار أن عناصر الساحل السوري أكثر إجراماً من العناصر المنتمية لدرعا ودير الزور. ممنوع!
رواية موازية لرواية النظام
أعود وفق ما سبق ماذا لو؟ وقد (تم) حشو السرد بهدوء في عناصر مشابهة، لما تم سابقاً في الشهادات. إن الانتقاء النوعي لهذه الشهادات القاتلة للحقيقة، قد (يرمي) لاحقاً كمّاً معتبراً ومهماً في إسقاطها قانونياً. إن عدم تقديم الصريح المثبت توازياً لا يمكن إغفاله مطلقاً.
– كيف غاب الجيش الحر عن الشهادات؟
كيف تم القفز نحو ٢٠١٥، مرحلة التدخل، والاحتلال الأجنبي في سورية، وانتشار الفوضى، والعصابات، والمليشيات العابرة؟
لماذا التوجه نحو صبغة (إسلاموية) للحراك، هل نحن في رواية موازية لرواية النظام، لنسخة معدلة نصف حقيقة، ونصف حشو ثوري، كما (وثيقة وطن)؟ وقد تميل هذه الرواية بهدوء نحو التقاطع معها، في عدة نقاط مفصلية وقانونية، تنسف كل ما سبق من الحشو العاطفي والسردي.
لماذا التجاوز عن جرائم كبرى مثل الكيماوي؟
كل ما أخلص إليه مبدئياً، هو أنهم يسعون لخلق ذاكرة “ضبابية”، لا يخلص منها حقائق يمكن البناء عليها قانونياً في المحافل الدولية، حيث تبقى المحافل الدولية خاضعة للمزاج السياسي التكتيكي، وليس الإستراتيجي في المحاكمات الدولية وفق الشرعَة الدولية.
هل نخطو – وفق هذه الذاكرة المشوشة عن عمد وخبث – نحو فرض إصطلاح “حرب أهلية”، ولا غالب ولا مغلوب، ثم يقفل الملف ويتصالح الجميع!
أم نمضي نحو سحب (حجر القفل)، ويسقط البناء، فيما لو تم التحرك السوري الثوري دولياً؟ حيث الشهادات مسبقة الصنع، ويكون انتقاؤها قاتلاً؟
تغيب الحقيقة مؤقتاً في هذه الذاكرة السورية، تغيب وسط هوس التسويق، واستعراض الإنجاز وخلط الأوراق، وربما قد تأتي أجيال، وتبحث في ركامه عن بقايا حقيقة ضائعة، فيما تستمر الشكوك والقرائن في غاية هذا المشروع مستمراً.