الرأي العام

دلالات وقضايا | بين صناعة الثَّقافة وصناعة المثقَّف

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

يختلف كثير من الكتَّاب الموهوبين مع مؤثِّري مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ عند الحديث عن صناعة الثَّقافة أو إنتاجها؛ وذلك لأنَّ الثَّقافة صناعة ثقيلة أكبر من أن تُنتجها مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، وإن أثَّرت في إنتاجها أو انتشارها بشكل من الأشكال. وتزيد حدَّة الانتقاد عندما يشاهد الكتَّاب المبدعون روَّادَ التَّنمية البشريَّة وهم يطرحون بضاعتهم في سوق الثَّقافة لتعليم الشِّعر في ستَّة أيَّام أو تعليم أصول كتابة القصَّة والرِّواية والمسرح والسِّيناريو والدَّراما في أيَّام معدودات؛ وذلك لأنَّ كثيرًا من الكتَّاب الموهوبين يؤمنون أنَّ الجزء الأكبر من الكتابة الإبداعيَّة موهبة فطريَّة، ولا يمكن تعليم الموهبة أو شحنها في نفوس غير الموهوبين، ولو حدث أنْ انتسبت مجموعة من الموهوبين إلى دورة من دورات التَّنمية البشريَّة ستكون المحاضرات لصقل هذه الموهبة لا لتعليمها أو إنشائها من العدم؛ لأنَّ فكرة الإنشاء هذه ضرب من الخيال، وإن منحوك الشَّهادات المدموغة بأختام المراكز الثَّقافيَّة مع وزارات التَّربية والتَّعليم والإعلام وتوقيعات الوزراء والأساتذة مع مشاهير الشُّعراء والكتَّاب والمبدعين؛ وذلك لأنَّ كبار المبدعين لم يحصلوا على شرعيَّتهم الإبداعيَّة من الأختام والشَّهادات والتَّوقيعات ذاتها، وإنَّما حصلوا عليها من رواج بضاعتهم (الثَّقافيَّة والفكريَّة) بين الجماهير ومن انتشارها وقبولها بين المتلقِّين بعدما راقتهم أو تقبَّلتها أذواقهم، وإن كان أمر الثَّقافة هكذا؛ من السَّهل الممتنع وبكلِّ بساطة؛ فكيف نُنشئ المثقَّف؟ ومن يصنع الثَّقافة أو يقودها ويوجِّهها؟ وهل صناعة الثَّقافة تشبه باقي الصِّناعات الأخرى؟

الكشف عن المواهب الإبداعيَّة خطوة أولى

لا تُصنع الثَّقافة في ليلة وضُحاها، ولا يُثقَّف الموهوب في يوم أو يومين؛ لذلك لا بدَّ من التَّعاون بين وزارات التَّربية والثَّقافة والإعلام للكشف عن المواهب الإبداعيَّة في المدارس الابتدائيَّة والمتوسِّطة والثَّانويَّة من خلال تنظيم مسابقات القراءة والكتابة الإبداعيَّة والخطابة والإلقاء على مستوى المحافظات كلَّ عام، ثمَّ ينتقل المتميِّزون في محافظاتهم إلى مسابقة مركزيَّة في دمشق، يفوز فيها الأميز، ويُكرَّمون، ليمثِّلوا الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة في الخارج بعد وضع الخطط الشَّاملة لتنمية ثقافتهم ورعاية إبداعهم على المدى البعيد. ويبدو ههنا أنَّنا أمام مجموعة من الشُّروط لاختيار بذرة الثَّقافة الأقوى، وتبدأ من اختيار الموهوب؛ لتُشحذ ثقافته بالقراءة، وتُصقل موهبته بالمشاركات الدَّاخليَّة والخارجيَّة مع توفير نظام تسابق يضمن نزاهة التَّنافس بين المتسابقين بالإضافة إلى تكريمهم بالجوائز المعنويَّة كشهادات التَّقدير والرِّيادة، وجوائز التَّثقيف كالكتب المناسبة ودورات الإعداد الملائمة والمجَّانيَّة، الَّتي تصقل كلَّ موهوب في مجاله، ونسترجع في هذا المجال قصَّة شهيرة نُسبت إلى أكثر من شاعر أو مثقَّف؛ قال فيها الموهوب لشيخه: أريد أن أتعلَّم الشِّعر؛ فقال الشَّيخ: اذهب واحفظ عشرة آلاف بيت من الشِّعر؛ فغاب التِّلميذ عن شيخه مدَّة، ثمَّ عاد، وقال لشيخه: حفظتها؛ فقال الشَّيخ: اذهب وانسها كأنَّك لم تحفظها؛ (كيلا تجترَّ ثقافة الآخرين أو تنتج معارضات شكليَّة فارغة لها)؛ فذهب ونسيها، ثمَّ رجع إلى شيخه؛ فقال له: لقد نسيتها؛ فقال الشَّيخ: الآن يمكنك كتابة الشِّعر؛ أي يمكنك الآن إنتاج بعض الثَّقافة الجديدة، وإن كانت هذه الحكاية تعلِّم طريقة من طرق إنتاج الثَّقافة فهل تصلح لأن تكون دليلًا على أنَّ كلَّ مَن يكتب الشِّعر أو الأدب منتج ثقافة؟ وهل يصلح كلُّ منتج من منتجي الثَّقافة أن يكون قائدًا في مجال صناعة الثَّقافة؟

القادة الثَّقافيُّون

لا شكَّ أنَّ كتابة الشِّعر وفنون الأدب ومقالات الصُّحف والخطابة والدّراما والسِّيناريو والسِّينما بعض من أشكال الثَّفافة؛ لكنَّ الحمولة الثَّقافيَّة لا تختلف فنٍّ إلى فنٍّ ومن كاتب إلى آخر وحسب، وإنَّما تختلف من نصٍّ إلى آخر بين نصوص الكاتب ذاته. وتختلف صناعة الثَّقافة والتَّخطيط لها في الدَّولة كثيرًا عن صناعة المثقَّف بدءًا من رعاية موهبته حتَّى وصوله إلى مرحلة المشاركة في المحافل الثَّقافيَّة؛ فصناعة المثقَّف أسهل بكثير من صناعة الثَّقافة أو إنتاجها في الدَّولة، ويكفي لصناعة المثقَّف ما ذكرناه من تشجيع وتحفيز ورعاية موهبة وتأمين ظروف التَّنافس العادلة؛ ليكون هذا الموهوب رافدًا صغيرًا من روافد ثقافة الدَّولة في المستقبل، وبعد مدَّة من الزَّمن سيكون لدى كلِّ مثقَّف جمهوره ومريدوه، وفي ظلِّ سطوة مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وتأثيرها الكبير مع التَّنافس الملحوظ بين روَّاد التَّنمية البشريَّة لاستقطاب بعض الموهوبين؛ ليسلِّطوا الضَّوء عليهم، ويظهروهم كمنجز ثقافيٍّ من منجزاتهم يدرك بعض المثقَّفين أنَّ (الشَّعبيَّة أو الجماهيريَّة) محكٌّ مهمٌّ من محكَّات الإقرار بثقافة الموهوب؛ لذلك يضخُّ بعض المثقَّفين خطابًا شعبويًّا أو خطابًا مؤدلجًا؛ لاستقطاب بعض الجمهور على أسس خاطئة، وفي استغلال واضح لبعض العواطف الدِّينيَّة أو المذهبيَّة أو الطَّائفيَّة؛ لذلك يمكن الاستئناس بقاعدة: (قل لي مَن جمهورك…أقل لك من أنت؟! فإن كان جمهورك طائفيًّا فأنت كاتب طائفيٌّ، وإن كان جمهورك مناطقيٌّ أو مذهبيٌّ فأنت كاتب مناطقيٌّ أو مذهبيٌّ، ويمكن التَّوسُّع بالقياس على أشكال أخرى من الكتابة والكتَّاب على ضوء من هذه القاعدة، وههنا يجب تمييز القائد الثَّقافيِّ في جماعته من القائد الثَّقافيِّ في المجتمع كلِّه، وأفضل الكُتَّاب المثقَّفين-من وجهة نظري-هم المثقَّفون القادة الإنسانيُّون في المجتمع كلِّه؛ أولئك الَّذين تمتدُّ (شعبيَّتهم وجماهيريَّتهم) بين طوائف المجتمع وقوميَّاته ومذاهبه كلِّها؛ نظرًا للبعد الإنسانيِّ في ثقافتهم من جهة أولى، ولأنَّ ثقافتهم ثقافة جامعة لا تخصُّ فئة دون سواها، أو لا تتناسب مع مجموعة دون أخرى من ناحية أخرى.

الثَّقافة صناعة ثقيلة 

خلال عقود زمنيَّة من رعاية المثقَّفين الموهوبين تتشكَّل روافد ثقافيَّة متعدِّدة المشارب والمذاهب في المجتمع، ويتحدَّد بعض قادة الثَّقافة على شكل قائد جماعة أو قائد فصيل، ويكبر بعضهم؛ ليصبح قائد مجتمع، وينظر السَّاسة إلى هؤلاء المثقَّفين كجنود يمكن الاعتماد على بعضهم في تنفيذ خططهم الثَّقافيَّة بعيدة المدى. وعلى قادة الثَّقافة-حتَّى يكونوا قادة ثقافة حقيقيِّين-تأمين الخطَّة الثَّقافيَّة وخطوطها العريضة بعيدة المدى كي ينفِّذها جنود الثَّقافة بغضِّ النَّظر عن أسمائهم وانتماءاتهم، وبعد إعداد الخطَّة الثَّقافيَّة الشَّاملة بعيدة المدى للمجتمع كلِّه يجب إعداد الأرضيَّة المناسبة لتنسيب المثقَّفين وتعبئتهم في الدَّوائر الثَّقافيَّة الرَّسميَّة، وكلٌّ حسب اختصاصه، وكلُّ من يحقِّق شروط الانتساب يصبح عضوًا في مجاله، وبعد هذا التَّنسيب لا بدَّ من إعداد خطط للتَّنافس الدِّيمقراطيِّ الشَّريف بين المثقَّفين، وعلى أساس الموهبة والإبداع والحرِّيَّة والإنسانيَّة وبعيدًا عن أشكال التَّعبئة الطَّائفيَّة أو القوميَّة أو المذهبيَّة، ثمَّ يتنافس المثقَّفون فيما بينهم لإعداد مشاريعهم الثَّقافيَّة، الَّتي تنفِّذ خطَّة الدَّولة الثَّقافيَّة العامَّة ذات المدى البعيد، ثمَّ يُعقد مؤتمر عامٌّ يضمُّ مثقَّفي الدَّولة كلِّها، وتُعرض فيه هذه المشاريع على المثقَّفين الأعضاء؛ لينتخبوا الوجوه، الَّتي يؤمنون بقدرتها على قيادة الثَّقافة خلال مرحلة قادمة مضبوطة بميقات زمنيٍّ وخطوط عريضة ومبادئ عامَّة، ولا بدَّ من مؤتمر في منتصف المدَّة؛ ليُجدِّد من خلاله المثقَّفون ثقتهم بقادة الثَّقافة الَّذين انتخبوهم، أو يحجبونها عنهم بسبب المفارقة الكبيرة بين الشَّعارات الانتخابيَّة وتطبيقها.

ماذا بقي من ثقافة البعث؟

 في كثير من الأحيان تُطرح في الانتخابات شعارات مرحليَّة رنَّانة من أجل الاستهلاك في سياقات محدَّدة، وسرعان ما يكشف التَّطبيق العمليُّ زيفها أو زيف صانعيها، وقد لمسنا مثل هذه الشِّعارات لدى مثقَّفي حزب البعث البائد، الَّذين زالوا وزال تأثيرهم عند زوال قادة الانقلابات العسكريَّة الَّذين استقطبوهم وجلبوهم؛ للتَّرويج لأفكارهم وشعاراتهم، وقد رفع (كتَّاب البعث ومثقَّفوه) شعارات تضمُّ أرقى القيم الأخلاقيَّة الفاضلة، وتحتوي على أعلى قيم الخير المطلقة؛ مثل: الوحدة والحرِّيَّة والاشتراكيَّة؛ لكنَّهم لم ينفِّذوا شيئًا منها، وخلال نصف قرن من الزَّمن، فُصل أو نُحِّي كثير من الموهوبين؛ وعلى سبيل المثال مات نزار قبَّاني خارج الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، وتوفِّي محمَّد الماغوط مثل (عصفور أحدب) في غرفة صغيرة وأحوال معدمة، وفي المقابل نَعِمَ دريد لحَّام بخيرات البعث لقربه من البعثيِّين، ولم يعرف الشَّعب والمثقَّفون من شعارات البعث الزَّائفة وكتَّابه المؤدلَجين المؤدلِجين معًا شيئًا من الوحدة أو الحرِّيَّة أو الاشتراكيَّة.

وبعد شهور قليلة من سقوط نظام البعث زالت ثقافة البعثيِّين، ولم يبقَ أيُّ شيء منها؛ لأنَّه-في الثَّقافة والإبداع والكتابة-ما خرج من القلب يستقرُّ في القلب مباشرة، وما خرج من اللِّسان لا يتجاوز الآذان. وقد شاهدنا المجرم المخلوع بشَّار الأسد يستنجد بكتَّاب البعث ورئيس مدرسة الإعداد الحزبيِّ قبل ثلاثة شهور من سقوط نظامه دون جدوى، وفي معظم الأحيان لم تكن تُقرأ كتابات أولئك (المثقَّفين) البعثيِّين ومن والاهم، وإن قرئت أو سمعت لم تكن تتجاوز الآذان برغم استلامهم أو استلام كثير منهم منابر ثقافيَّة مهمَّة ومؤثِّرة في رئاسة اتِّحاد الكتَّاب العرب أو عضويَّة قيادته المركزيَّة، وكذلك وبرغم تربَّع بعضهم على كرسيِّ الأستاذيَّة في أعرق الجامعات في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة لم يصغِ أحد لأحاديثهم عن الثَّقافة والثَّقافيِّ والجمال والجماليِّ يوم وصلت جيوش ردع العدوان إلى حلب، ولم تلامس كلماتهم وجدان الأحرار، وحتَّى رقصهم يوم التَّحرير أو بعده-والرَّقص في أصله فنٌّ من فنون التَّعبير الجميلة-لم يكن رقصًا احتفاليًّا جميلًا مُقنعًا بقدر ما كان رقصًا مُقنَّعًا، ولم يكن تعبيرًا عن ثقافة بقدر ما كان بهرجًا خدَّاعًا أو قشرة رقيقة؛ وذلك لأنَّ الثَّقافة في أصلها صناعة ثقيلة، ولا تكفي رقصات أو اجتماعات في أيَّام أو شهور أو سنوات قليلة للانتقال من ضفَّة البعث انتماء أو تفكيرًا إلى ضفَّة الأحرار؛ أولئك الَّذين نعوِّل اليوم عليهم في إرساء أجواء من الحرِّيَّة وملة من قواعد من التَّنافس الدِّيمقراطيِّ الشِّريف خلال التَّخطيط لصناعة الثَّقافة في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة في المرحلة القادمة والإشراف عليها بعد تجربة طويلة ومريرة تراوحت مخرجاتها بين التَّخدير والخداع والتَّمثيل والتَّطبيل والتَّضليل!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى