اللاذقية: بقايا مَدَنية مهدمة
أحمد عسيلي – العربي القديم
في عام ٢٠٠٠، حصلت على شهادة البكالوريا، وقررت التوجه إلى اللاذقية لدراسة الطب. كنت أحمل في ذهني صورة عن يوتوبيا المدينة كما تخيلتها، فولادتي كانت في جزيرة أرواد الصغيرة، ثم انتقلت إلى طرطوس في المرحلة الثانوية، و طرطوس كما هو معروف ليست بالمدينة، بل هي أشبه بريف كبير، وبالتالي لم أكن قد عشت سابقاً في جو المدينة، تلك البقعة التي تتيح لك متنفساً ثقافياً، مراكز أجنبية لدراسة اللغات، مراكز ثقافية تعرض مسرحيات وأمسيات أدبية، وربما يحالفني الحظ، وألتحق ببعض العمل السياسي المعارض أو النشاط الديني، (كنت وقتها متديناً لكن باعتدال).
وصلتها سنة ٢٠٠٠، وكلّي عطش لاكتشاف هذه المدينة الحلم، وكم سحرني وقتها شارع الأمريكان بأناقة الناس والمقاهي، زرت فيه مبنى المطرانية، الذي يؤجر غرفاً للطلاب (من كل الطوائف) بأسعار معقولة، ترددت على المركز الثقافي الفرنسي، (حيث بدأت الدورات الأولى في الفرنسية، التي ستتحول لاحقاً إلى لغة العمل وحياتي اليومية)، وكم سحرتني فكرة الكادون بخصوصيته الثقافية واللغوية، هذا الحي الأرمني الذي يشكل ربما بقايا الغيتوهات! فالكادون هي منطقة أرمنية خالصة، لكن لها مدخل شبيه بمدخل البيوت، ثم الصليبة، ذاك الحي المميز بلهجته الخاصة، التي عشقتها، وحاولت مراراً تقليدها، دون جدوى (يبدو أنها حكر على أهلها فقط).
ثم تعرفت على جوامعها وتياراتها الدينية، على مكتباتها (كنت أتردد كثيراً على مكتبة كردية خاصة، وأيضاً بالميرا، ومكتبة كانت تابعة لجماعة المفتي حسون، نسيت اسمها)، وبدأت صداقتي تتعمق شيئاً فشيئاً مع أصحاب المكتبات، الذين بدؤوا يثقون بي، ويمدونني ببعض الكتب المحظورة آنذاك.
في جامعتها، كان هناك حراك كردي لا بأس به، تعرفت فيها على الكثير من أصدقائي الكرد، عرفت أكثر عن القضية الكردية، عن ديريك، عن قامشلو، واستمعت لأغاني شيفان وغلستان، وفهمت أكثر عن الحلم الكردي بتأسيس دولة كردستان، وقرأت عشرات المنشورات التي كانت تصدرها فروع الأحزاب الكردية المختلفة، لكن ورغم هذه المظاهر الساحرة في البداية، سرعان ما توضّح لي داء، يكاد يقتل روح المدنية في اللاذقية، وهي الطائفية والخوف من الآخر، بل وانغلاق كل مجموعة على نفسها،
وإن كان الانتماء الطائفي، لا يتعارض أبداً مع الانتماء للمدينة والبلد، بل يعززه في أحيان كثيرة، لكن الناس بحاجة إلى روابط أخرى؛ لتشبيك وتعقيد العلاقات في المدينة، فيصبح تماسك الناس أقوى، من خلال تعقد خيوط العلاقات في ما بينهم، فما تفرّقه الطائفة، قد تجمعه الرياضة، أو الانتماء الحزبي والإيديولوجي، أيضاً النقابات المهنية تلعب دوراً كبيراً في جمع ذوي المصالح المهنية، مما يجعل العلاقات أكثر تماسكاً بين البشر.
ومشكلة اللاذقية، والتي تظهر بعد عدة أشهر من السكن فيها، أن لا شيء يجمع مكوناتها، فالأرمن كما أسلفت يسكنون منطقة واحدة مغلقة، السُّنة يسكنون الصليبة، بل لهم لهجة مختلفة تماماً عن علويي الزراعة، هذا الخلاف امتدّ إلى الرياضة، فمباراة حطين وتشرين، هي لعبة بين فريقين، وطائفتين مختلفتين، (أدركت ذلك لاحقاً وبمصادفة كوميدية)، حتى النقابات والمناصب الحزبية والبلدية، تخضع لتوازن طائفي، بل حتى الفن والأغاني، فمصطفى يوزباشي كان وقتها مشهوراً، ومسموعاً بشكل كبير بين سُنّة الصليبة، لكن لا تكاد تسمع أغانيه في بقية الأحياء.
بل حتى العادات اليومية، فالصليبة حي السهر، ولا تكاد ترى فرقاً بين ليل ونهار، ومطعم أبو سويس ومطعم حارتنا، يعمل على مدار الساعة، والزبائن في مقهى طابوشة، تسمع صدى أصوات خلافاتهم في لعب الشدّة في الثالثة والرابعة صباحاً، على عكس بقية الأحياء التي تنام باكراً وتستيقظ صباحاً.
الناس ليسوا طائفيين في اللاذقية، بل لديهم رغبة كبيرة في الحفاظ على المدينة وحياتها المدنية، لكن للأسف النظام العام “السيستم” كله طائفي وتفريقي، ولا مجال للخروج عنه، إلا بتعزيز المجتمع المدني الذي كان يعيش حالة احتضار، مع الكثير من المقاومة والرغبة في الحفاظ عليه.
اللاذقية مدينة، تعيش على إرث قديم، وعلى رغبة أهلها في الحفاظ على مدنيتهم، لكنها تحتاح إلى الكثير من الجهد؛ لكسر السلاسل الطائفية التي تكبّل ذاك الإرث، ومشكلة الخوف المعشش في قلوب أناسها، (كما كان يسيطر على قلوب كل السوريين وقتها)، قد ساهم في تشكيل سرديات ومظلوميات متبادلة بين جميع السكان، ربما ما يجمعهم هو الخوف المشترك من الشبّيحة المنتشرين في جميع أرجاء المدينة، مع الكثير من القصص التي يتداخل فيها الواقعي بالخيالي، وتشكل مزيجاً غريباً من قصص الخوف، التي يتبادلها الجميع، (والمبالغ فيها في أحيان كثيرة، لكن ربما عن قصد وتوجه)، ويعيش الجميع خوفها بالتساوي تقريباً.
على كل، بعد ثلاث سنوات من الدراسة في جامعة تشرين، أصبح لديّ قناعة، أنني بحاجة إلى حياة مدينية أكثر متانة، وهنا قصدت جامعة دمشق في السنة الرابعة للطب البشري، في رحلتي للبحث عن حياة ثقافية أكثر غنى وحيوية، وأشك أنني وجدتها، أشك أصلاً بإمكانية وجودها، طالما تعيش البلاد في ظل تلك الدكتاتورية القاسية.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
حمل العدد كاملاً من هنا