الصحافة العالمية

ليليا: "السوريون ينظرون إليك كملكة"

ترجمة د. علي حافظ

قدم “راديو الحرية” الناطق باللغة الروسية بالمشاركة مع “قناة الوقت الحاضر” مشروعاً باسم “ليلة عربية. قصص النساء الروسيات في سوريا”. وقد ترجمت إحدى حلقاته في السابق *؛ والآن أترجم حلقة أخرى لصالح صحيفة “العربي القديم”؛ لما تحمله من معلومات قيمة ومهمة تفند رواية نظام الأسد الديكتاتوري المجرم حول الحراك الثوري المتعسكر منذ بدايته وتؤكد سلميته واحتفاليته على لسان امرأة روسية عاشت في سورية حتى عام 2014؛ وكانت شاهدة عيان محايدة حينها على الأحداث التي جرت هناك، رغم أن دولتها دافعت ولا زالت تدافع وتحمي آل الأسد.. تمثل هذه الاعترافات وثيقة إدانة صريحة للنظامين الغاشمين الحاكمين في الكرملين والمهاجرين وتكشف كذبهما ونفاقهما وعريهما أمام مرآة أنفسهم والآخرين…

نشرت الحلقة على موقع www.currenttime.tv في 20 أكتوبر 2020

السفر إلى دمشق

جاءت ليليا ك. من بيرم إلى سوريا لأول مرة في عام 1997، حيث تمت دعوتها لرؤية البلاد من قبل شاب سوري اسمه أحمد درس في معهد بيرم الحكومي للصيدلة. تودد هذا الأخير إلى ليليا وطلب منها الزواج، لكنها رفضت؛ لأن زوجها قد توفي قبل عام وتُركت وحدها مع ابن صغير.. لاحقاً، سينتهي الأمر بهذا الابن، الذي أصبح بالغاً بالفعل، في أحد السجون السورية؛ وسيخدع أحمد ليليا للزواج منها.

تقدم أحمد للزواج مني بعد عام واحد فقط من المواعدة.. تزوجنا في مسجد (أنا مسلمة)، ووافقت على الذهاب إلى سوريا لفترة قصيرة.

سادت فترة التسعينيات في روسيا ذلك الوقت: تواجدت هياكل قوية للمافيا في المبنى الذي عشت فيه؛ بينما قتل شخص ما أو سرق أو أغتصب من حين لآخر في بيرم. أردت أن أرى كيف يعيش الناس في البلدان الأخرى، لذلك تركت ابني عند جدتي وسافرت مع أحمد إلى دمشق.

الحياة في عائلة كبيرة

سافرنا من دمشق إلى البوكمال الواقعة على الحدود العراقية. عاشت عائلة أحمد بأكملها هناك: والده وزوجة أبيه وخمسة عشر أخاً وأختاً.

افتتح والده أول صيدلية في المدينة واعتبر شخصاً معروفاً جداً.

لقد حاولوا بكل الطرق الممكنة إخراجي من المنزل: قالوا إنني لا أرتدي هكذا، ولا آكل هكذا، ولا أبدو هكذا… وناقشوا كل هذا فيما بينهم باللغة العربية، ضحكوا وسخروا، لكنني لم أفهم شيئاً. أتذكر كيف عملت أخت أحمد الكبرى فضيحة لي، لأنني قمت بقلي البيض في الزيت الخطأ؛ حيث ضج صراخها في المنزل كله!

بعد ثلاثة أو أربعة أشهر غادرنا أنا وأحمد إلى مدينة دير الزور القريبة. أخذني إلى مكتب، ثم إلى مكتب آخر. وهناك وضعت بصمات أصابعي. وفي طريقي للخروج ضحكت، وسألت: “ماذا فعلتُ هنا؟”.

أجاب أحمد: “لقد تزوجنا للتو”!

ثم فكرت: “بما أننا تزوجنا، فسننطلق. يا له من عمل!”.

 تستطيع ليليا البقاء في سوريا لمدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر بعد حصولها على تأشيرة سياحية. لذلك كان عليها الحصول على تصريح عمل أو الزواج من أجل البقاء لفترة أطول. علم أحمد بهذا الأمر، لكنه لم يخبرها.

عندما عدنا إلى المنزل، عمل الوالد فضيحة لابنه أحمد بسبب زواجنا دون استئذان العائلة؛ ونتيجة لذلك رفض تسليمه مستندات الصيدلية التي أعدها خصيصاً له. شعر أحمد بالإهانة، فحزمنا أمتعتنا وانتقلنا إلى مدينة الميادين. هناك استأجرنا منزلاً صغيراً وعشنا بشكل سيء للغاية. وفي بعض الأحيان لم يكن هناك ما يكفي من المال لشراء الطعام، لذلك أخذ أحد الجيران يطعمنا. بعد عام ونصف، تمكنت أخيراً من العثور على الأموال اللازمة والسفر إلى بيرم.

تتذكر ليليا أنها عندما عادت إلى روسيا في عام 1999، اتصلت بأحمد وقالت إنها لن تعود إلى سوريا مرة أخرى. لم ينوي الزوج ترك زوجته وحاول بكل الطرق ترتيب حياتهما معاً في روسيا. انتقلا إلى قازان وهناك ولدت ابنتهما.. افتتح أحمد متجراً لبيع السلع المستعملة، لكن اتضح أنه من المستحيل القيام بأعمال تجارية في روسيا!

عادت العائلة إلى البوكمال بعد عامين، ومن ثم انتقلت لاحقاً إلى دمشق.

“ترجع، فلا تجد منزلك في مكانه”

من المعروف أن وتيرة الصراع السوري بدأت في التصاعد خلال شهر مارس عام 2011، حيث اُعتقل مراهقون تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً في مدينة درعا بسبب كتاباتهم على الجدران: “الشعب يريد إسقاط النظام”. كان هذا هو شعار “الربيع العربي”؛ الذي سُمع أيضاً في مظاهرات مصر وتونس…

خرج الآلاف من سكان المدينة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين. وقُتل عدة أشخاص أثناء التفريق العنيف للاحتجاجات، لتنتقل موجة المظاهرات ضد الحكومة إلى مدن أخرى.

لقد أحببت دمشق كثيراً.. إنها مدينة جميلة؛ والسوريون يعاملونك كملكة. بدأت تعلم اللغة العربية في مدرسة اللغات، وذهبت إلى المركز الثقافي الروسي.

كان لدي صديقة واحدة فقط في القرية هي تمارا من أوديسا.. كنا نستمتع معاً، لكن في دمشق تواجد مجتمع روسي كامل. وبدا من المثير للاهتمام العيش هناك.

بدأت الاحتجاجات. كانت هذه مظاهرات سلمية في البداية، حيث سار الجميع في دمشق وصفقوا بدون أسلحة.

لكن، على سبيل المثال، حذرني أصدقائي على الفور: لا تذهبي إلى هناك تحت أي ظرف من الظروف، كل هذا تراقبه المخابرات، وعندها ستكون لديك مشاكل..

كلما زاد زخم المظاهرات، كلما سُمعت أصوات إطلاق نار أكثر. في منطقتنا، توفيت امرأة أثناء تعليق الغسيل على شرفة منزلها. أصابتها الرصاصة في جبهتها.

في ضواحي دمشق بين العلويين

كنا نعيش في ضواحي دمشق بين العلويين عام 2011. وهذه هي الطائفة الدينية التي ينتمي إليها بشار الأسد.. أذكر أنني في صباح أحد الأيام فتحت النافذة لأرى كيف كان الطقس في الخارج، فوجدت هناك أشخاص يركضون وهم حاملين بنادق آلية. لم أعرف من هؤلاء؛ لأن المتمردين يحملون الرشاشات ورجالات الشرطة أيضاً. ومن ثم انهالت الطلقات…

أنت ترسل أطفالك إلى المدرسة، ولا تعرف كيف سيصلون إلى هناك. قالت نورا (ابنتي) إنها شاهدت في أحد الأيام جثث ملقاة أمام المدرسة. وذات مرة كنت أسير في الساحة حيث كانوا يبيعون الخبز، وفجأة سمعت دوي إطلاق نار. لم أكن أعرف حتى أن الشخص يرمي نفسه على الأرض بشكل لا إرادي بدافع الخوف.

كنا نحمل دائماً المستندات معنا؛ فأنت لا تعرف أبداً، بأنك لو عدت إلى منزلك فستجده في مكانه. غادر الناس المدينة في كل يوم تقريباً: عاد الكوريون بسرعة كبيرة إلى وطنهم على سبيل المثال. ثم الصينيين. بقي الألمان في سوريا حتى النهاية. بدأ الروس في المغادرة بشكل جماعي أوائل عام 2013.

كان عليك الحضور إلى السفارة، حيث يتم تسجيلك لرحلة على متن طائرة تابعة لوزارة حالات الطوارئ، وخلال خمسة أسابيع يتصلون بك ويبلغونك بأنه يجب عليك الذهاب إلى المطار للمغادرة. في كانون الثاني/يناير 2013، وصلت أول طائرة تابعة لتلك الوزارة إلى موسكو وعلى متنها روس قرروا ترك سوريا. وكان عدد الراغبين في العودة إلى وطنهم، بحسب قوائم القنصلية الروسية، بالكاد يتجاوز مائة شخص. لكنني بقيت في دمشق حتى عام 2014!

كان الأمر يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. ظهرت نقاط التفتيش في كل مكان، وبدأت المشاكل المتعلقة بإيجاد الطعام.. كل شيء أصبح أكثر تكلفة!

الهروب إلى ألمانيا

اختفى ابني إريك في نهاية أبريل/نيسان 2012، بعدما استقل سيارة أجرة مع أصدقائه للسفر إلى مدينة أخرى، وفُقد الاتصال به لمدة يومين. علمت من خلالهم أن إريك كان في السجن!

أُطلق سراحه بعد شهرين؛ وعاد إلى المنزل في لباس رديء غير مشذب.. تبين أنه عند مغادرتهم دمشق، تم إيقافهم عند نقطة تفتيش، وتم العثور على أسلحة في صندوق السيارة. لم يكن لإريك أي علاقة بالأمر، بل تعود ملكيتها لسائق التاكسي. وهنا، بينما تحققت الشرطة من الأمر زج الجميع في السجن. وبمجرد أن سنحت الفرصة، هربنا من سوريا إلى ألمانيا.

أود العودة إلى دمشق، لكن لا يوجد مكان أعود إليه. ذهبت صديقتي إلى هناك، وقالت إن المنطقة التي عشنا فيها لم تعد موجودة – لقد تم هدمها. هذا يعني أن منزلنا لم يعد هناك! الآن نحن نعيش في ألمانيا…

في عام 2015، وصل أكثر من 1.2 مليون لاجئ إلى الاتحاد الأوروبي. تم منح وضع لاجئ لجميع السوريين تقريباً الذين وصلوا إلى ألمانيا. وبعد خمس سنوات، تغير الوضع، حيث يحاول الاتحاد الأوروبي الآن الحد من تدفق المهاجرين.

* يكاترينا: “حياة الإنسان في سوريا لا تساوي شيئاً”. ترجمة د. علي حافظ. موقع الناس نيوز، 25 نوفمبر 2020. 

زر الذهاب إلى الأعلى