أرشيف المجلة الشهرية

نزار وطائرة حافظ الأسد الخاصة

محمد منصور

تنتشر في أرشيف الصحف العربية وبعض مواقع الانترنت، معلومة تفيد أن الرئيس حافظ الأسد وضع طائرة خاصة في تصرف أسرة الشاعر نزار قباني حين أعلن نبأ وفاته في الثلاثين من نيسان/ إبريل من عام 1998، وأنه أرسل ممثلا عنه لإبلاغ الأسرة بهذه “المكرمة”. ويؤكد ذلك تقرير لليلى موعد مراسلة قناة (الجزيرة) من دمشق، وأخبار من هذا القبيل نشرتها صحف عدة.

لكن الحقيقة التي تعرفها أسرة الشاعر وكثيرون في الوسط الثقافي، أن هذه “المكرمة” السامية سرعان ما كشرت عن أنيابها، بعد أن ذكّر أبناء نزار ممثل السيد الرئيس، بمكرمته السابقة حين قامت أجهزة مخابراته عام 1981 بجريمة تفجير السفارة العراقية في بيروت، التي ذهب ضحيتها العشرات، بينهم بلقيس الراوي، زوجة نزار، قائلين أنهم لا يريدون شيئا ممن قتل أمهم!

بعد نقل كلام أسرة الشاعر إلى مسامع السيد الرئيس والمسولين في القصر، ألغيت مراسم استقبال جثمان شاعر سورية الكبير، وقاطع الإعلام السوري جنازة الشاعر التي توافد كبار الأدباء والمطربين إلى دمشق لحضورها، لكن دمشق خرجت يوم الرابع من أيار/ مايو من عام 1998 وكأنها على قلب رجل واحد، لتودع شاعرها الكبير… وأذكر أننا تجمعنا أنا وبعض الصحفيين المغضوب عليهم في الإعلام الرسمي، قبيل ساعات في مقهى (التوليدو) قرب جامع البدر في حي المالكي… وما إن خرج الجثمان من المسجد، وكان مقررا له أن يمر بالشارع المجاور الذي سمي باسم نزار… حتى تخاطفته الأيدي، وحالت دون صعوده إلى السيارة. لن أنسى مشهد شبان دمشق وهم يحملون الجثمان ويشدونه بأيديهم وهم يهتفون: “نزار يا حبيب الشام”. للحظة بدا ذكر اسم الشام في حضور حشد من المخبرين وكارهي دمشق وعناصر أفرع الأمن، وكأنها استحضار لكل كراهية المدينة لهذا الحكم الهمجي، فصرخ أحدهم وكأنه يصحح خطأ وقع: “نزار يا حبيب سورية”.

قطعت جموع المشيعين شارع أبي رمانة وصولا إلى منطقة التجهيز وفيكتوريا ثم امتلأ بهم شارع النصر، في الوقت الذي كانت عناصر الشرطة العسكرية، تقف على جانبي الشارع، واخترق الموكب دمشق القديمة بدءاً من منطقة الدرويشية إلى باب الجابية فمقبرة باب الصغير. كانت نساء دمشق يرمين الورود والأرز على الجثمان من نوافذ البيوت… وكانت جموع المشيعين تزداد وتكبر بعفوية كلما سارت أو تقدمت الجنازة بضعة أمتار، وكان مرافق سيارة دفن الموتى يلقي عبر المايكروفون قصائد نزار عن الشام وأذكر منها “هذي دمشق وهذي الكأس والراح… إني أحب وبعض الحب ذباح… إلخ”

الصحفي المصري الكبير عادل حمودة، يكتب في عدد (الهلال) الصادر عن نزار عام (2018) متسائلا: “لم أفهم سر الجحود الذي استقبل به نزار في بلاده قبل دفنه في منطقة باب الصغير (…) لقد أجّل النظام السوري دفن الكاتب المسرحي سعد الله ونوس أكثر من أسبوع حتى يرتب احتفالا يليق به لأنه كان علويا مثل بشار الأسد” ثم يذهب إلى القول: “كانت إشارة المقاومة التي لم ينتبه إليها خروج مئات الآلاف من أهالي دمشق لوداع نزار قباني إلى مثواه الأخير في تحد جريء للحكم البوليسي”.

أجل كان شعور التحدي الصامت يملأ كل دمشقي، وكل سوري خرج في جنازة نزار، بالقدر الذي كان شعور الفخر بالوفاء لشاعر طالما ألهمهم معني الحرية.

_____________________________________________

 من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني

زر الذهاب إلى الأعلى