أرشيف المجلة الشهرية

الاستيطان العلوي في الساحل السوري (1 من 2)

رواء علي – العربي القديم   

تشكل الزاوية الشمالية الغربية من بلاد الشام الجزء الساحلي  من سوريا الحالية المطل على البحر الأبيض المتوسط، وتنقسم هذه المنطقة بدورها إلى قسمين: منطقة السهل الساحلي المطل على البحر وتتركز فيه المدن الرئيسية: أنطاكيا، اللاذقية، طرطوس، جبلة، بانياس وجزيرة أرواد، ويمتد السهل جنوباً ليشمل سواحل لبنان وفلسطين. والقسم الثاني من المنطقة الساحلية، هو السلسلة الجبلية التي تشكل بدورها الجزء الشمالي، مما يعرف تاريخياً باسم (جبال اللكام) الذي يمتد من البحر الأحمر حتى أنطاكيا، ويأخذ أسماء محلية، بحسب البلد الذي يمر به:  جبل لبنان، جبل بهراء وتنوخ، جبل اللكام في اللاذقية، ولاحقاً أطلق عليه جبال النصيرية بعد ظهور النصيرية فيه.

أوغاريت وأرواد الفينيقية واللاذقية الإغريقية

شكّل السهل الساحلي من أنطاكيا وحتى فلسطين، الموطن التاريخي لكنعانيي الساحل الذين عرفوا تاريخياً باسم الأوفينيقيين. في هذا السهل قامت مدنهم التاريخية التي مازال معظمها موجوداً وأشهرها: أوغاريت، وأرواد، وجبيل، وصور، وصيدا… أما المناطق الجبلية، فلا يُعرف بشكل دقيق نوعية من سكنها، وإن كانت بعض أسماء المناطق الحالية يمكن إرجاعها إلى الآرامية أو الكنعانية، مما يدل على وجود بشري سامي، منذ القدم في تلك المناطق، مع أن العنصر الهندو أوربي شكل شريحة مهمة من سكان الجبال، كامتداد  للعنصر نفسه الذي سكن الأناضول، من مثل الحثيين، والكاشكيين، واللوديين… وأشهر امتداداتهم المعروفة في العصور الوسطى (الجراجمة)، أو (المردة) من بقايا الفرس الميديين.

 خضعت مدن الساحل في أواخر العصور القديمة للسيطرة الآشورية والكلدانية، وكانت سيطرة متذبذبة قوبلت بالثورات أحياناً، لدوافع ذاتية لهذه المدن، أو بتحريض من الفراعنة، ثم دخلت المنطقة تحت السيطرة المباشرة للفرس الأخمينيين، الذين أثّروا في التركيبة السكانية، من خلال الجيوب التي وطنوا فيها كحاميات عسكرية، وقد بقيت موجودة كعنصر بشري، بعد سقوط الأخمينيين، وحتى الفتح الإسلامي، لاسيما في مدن لبنان الساحلية… وخلال العصر الهلنستي، فإن من أهم ما خلفه الإغريق في المنطقة، مدينتي اللاذقية وأنطاكيا، وبقايا الإغريق الذين استقروا في تلك المدن، فلما جاء الرومان أضافوا العنصر الروماني للتركيبة السكانية، والتي بقيت على شكل حاميات عسكرية حتى الفتح الإسلامي.

أهم ما خلفه الإغريق في المنطقة، مدينتي اللاذقية وأنطاكيا

اللاذقية وتوابعها في الفتح الإسلامي

ابتدأ الفتح الإسلامي للساحل الشامي، قبل معركة اليرموك، وبعد فتح دمشق، حيث إنه بعد فتح حمص سنة 14هـ، أُرسلت حملة عسكرية بقيادة عبادة بن الصامت الأنصاري الذي سار  إلى اللاذقية، وحاصرها حتى دخلها بالحيلة، وهرب كثير من أهلها النصارى، ثم عادوا، وصالحوا المسلمين على خراج يؤدونه، فصالحهم عبادة، وترك لهم كنيستهم، وبنى في المدينة مسجداً، فكان ذلك بداية دخول الإسلام.

 وبعد فتح اللاذقية فُتحت جبلة، وأنطرسوس (طرطوس)، وبانياس، وكانت حصوناً عسكرية، غادرها أهلها من الروم سنة 15هـ، تبع ذلك فتح أنطاكيا، والجرجومة. ويلاحظ من مجمل الروايات التاريخية عن الفتح الإسلامي، لتلك النواحي غياب العنصر العربي في التركيبة السكانية في تلك المناطق؛ فكان تعامل الفاتحين يتم مع نصارى غير عرب، ويلاحظ أيضاً أنه عند الفتح لم تكن، سوى اللاذقية، وأنطاكيا في المدن الساحلية الشمالية، ما يمكن أن نطلق عليه اسم مدن، اكتسبت شهرتها عبر الزمن من اهتمام السلوقيين الذين بنوها، وأطلقوا عليها أسماءها الحالية، وبقيت لها خلال العصر الروماني أهميتها، بينما أماكن مثل جبلة، وبانياس، وطرسوس، فكانت أقرب للحصون العسكرية البيزنطية، جلى عنها معظم سكانها من البيزنطيين بعد الفتح الإسلامي.

حدث بعد الفتح الإسلامي للمناطق الساحلية الشمالية الغربية من بلاد الشام  فراغ سكاني في مدن الساحل عموماً؛ بسبب اعتماد سياسة الإجلاء للسكان المحليين، أحياناً بسبب مساعدتهم للبيزنطيين، أو بسبب هجرة طوعية من السكان المحليين الذين لحقوا بالروم رافضين دفع الجزية أو الإسلام، مثلما حدث مع جبلة بن الأيهم الغساني الذي لحق بالروم مع 30 ألفاً من قومه، كما أن وقوعها في ما بعد على خطوط الاشتباك بين المسلمين والبيزنطيين، جعل منها أماكن لا يرغب كثير من الناس بالاستقرار فيها لانعدام الأمان، ناهيك عن أن المناطق الجبلية المحاذية لها لم تكن، مما يستهوي العرب السكن فيها؛ لأن العرب تفضل السهل على الجبل.

التوطين والإعمار في العهد الأموي

  في ما بعد تسبب الفراغ السكاني في فراغ أمني، حاول العرب تعويضه، بإعادة إعمار المدن الساحلية، ونقل السكان إليها من مناطق أخرى لصد غارات البيزنطيين، وبدأ بهذه السياسة معاوية بن أبي سفيان، منذ أن كان والياً على الشام، زمن عمر بن الخطاب، فيذكر أنه نقل جماعة من الفرس، وأهل بعلبك، وحمص إلى أنطاكيا، وبنى حصناً في جبلة، وشحنه بالرجال، وبنى مدينة أنطرطوس (طرطوس) ومصرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس، ونقل سنة 49ه إلى السواحل قوماً من زط البصرة،  وأنزلهم أنطاكيا، وأسكن الوليد بن عبد الملك، في ما بعد مثلهم من زط السند، وقد بقيت سياسة التوطين والإعمار لمناطق الساحل معمولاً بها، طوال العصر الأموي، وحتى بداية العصر العباسي، فنقل أبو جعفر المنصور سنة 758هـ، ومن بعده المأمون سنة 820هـ جل عرب معرة النعمان، وأُسكنوا في بيروت وما جاورها  لصد غارات الروم المتكررة،  وحماية الطرق من حلفاء الروم.

وقد كان من الأسباب الإضافية لنقص السكان غير ما مر الكوارث الطبيعية، لاسيما الزلازل التي كانت تشهدها المنطقة  على فترات متباعدة، أشهرها سنة 245هـ الذي دمر جبلة، وأهلك أهلها، ولم يسلم من اللاذقية إلّا اليسير. أما إغارات الروم المتكررة، فكانت عاملاً إضافياً مستداماً ساهم في نقص السكان الذين كانوا يتعرضون في حالات الانكسار  للقتل، أو السبي أو التهجير، ومع كل هذا، وخلال قرنين من الزمن بعد الفتح تكاثر العرب المسلمون في المدن الساحلية، وأصبحوا عنصراً مهماً من سكانها، إن لم يكن الأهم، لاسيما القبائل اليمانية التي شكلت غالب العرب في جند حمص، الذي كانت المدن الساحلية الشمالية تتبع له خلال القرن الثالث الهجري، من خلال ما ذكره اليعقوبي (ت 295هـ)، فيقول: “وعلى ساحل البحر من جند حمص أربع مدن: مدينة اللاذقية، وأهلها قوم من يمن من سليح، وزبيد، وهمدان، ويحصب وغيرهم، ومدينة جبلة، وأهلها همدان، وبها قوم من قيس، ومن أياد، ومدينة بلنياس وأهلها أخلاط، ومدينة أنظرظوس، وأهلها قوم من كندة”.

جبال اللكام الساحلية

أما في الجبال الساحلية المحاذية للمدن الساحلية، والتي يطلق عليها اسم جبال اللكام، فإن العنصر البشري الذي سكنها، منذ قبل الفتح الإسلامي، كان خليطاً من عنصرين أساسيين: النبط (السريان)، والجراجمة، وقد مثّل الجراجمة مع من كان ينحاز إليهم من النبط، منذ مطلع العصر الأموي مشكلة للدولة الأموية، من خلال انحيازهم للبيزنطيين، وقطع طرق الثغور، والإغارة على حصون المسلمين وجيوشهم في أوقات تحرك هذه الجيوش في مناطق الثغور.

 كان أكبر تجمع للجراجمة قرب أنطاكيا في مدينة لهم، اسمها الجرجومة، فتحها أبو عبيدة بن الجراح سلماً على شروط عند فتح أنطاكيا، وبقي الجراجمة بعدها متذبذبين بين المسلمين والبيزنطيين، حتى مطلع حكم عبد الملك بن مروان، حيث شنوا الغارات بمساعدة البيزنطيين على طول جبال اللكام، ووصلوا حتى لبنان، وساعدهم النبط،  فاضطر عبد الملك لمهادنتهم على مال يؤديه لهم؛ لانشغاله بحرب ابن الزبير، ثم لما فرغ من ابن الزبير أرسل لهم قوة عسكرية فرقت شملهم، فعاد أغلبهم إلى الجرجومة، وانتشر بعضهم في قرى حمص، فلما كانت خلافة الوليد بن عبد الملك، أرسل إليهم حملة بقيادة مسلمة بن عبد الملك، فاجتاج بلادهم، وهدم الجرجومة، ونقل معظم الجراجمة إلى لبنان وأسكنهم هناك.

مع نهاية الدور الأول العباسي الذي انتهى بقتل الخليفة المتوكل سنة 232هـ على يد الأتراك، وسيطرة الأتراك على مقاليد الحكم، ضعفت الخلافة، وأصبحت اسماً دون معنى، وتراخت قبضتها على الأطراف، وكان منها بلاد الشام، التي أصبحت مرتعاً للدعوات الشيعية، والتنازع بين الإمارات شبه المستقلة عن الدولة كالحمدانيين، والإخشيديين، والولاة الأتراك للدولة العباسية، فنتج عن هذا مطلع القرن الرابع الهجري ظهور  قوى جديدة كان الطابع المميز  لها أنها شيعية.

فقد نجح الإسماعيليون انطلاقاً من سلمية قرب حمص من إشعال ثورة في شمال إفريقيا، بمساعدة البربر،  انتهت بسيطرتهم على تونس سنة 296هـ، ثم ضموا إليها مصر التي أصبحت قاعدتهم، انطلقوا منها نحو بلاد الشام، ليصطدموا في فترة لاحقة مع الحمدانيين الشيعة الذين سيطروا على حلب، وما جاورها، وامتدوا نحو وسط سوريا، هذا في الوقت الذي انشق جناح من الإسماعيلية مشكلاً جماعة القرامطة التي انخرطت في  النزاع نفسه على بلاد الشام مع الأطراف الأخرى، ولم يلبث بتأثير من دعاة القرامطة، أو الإسماعيلية أن حدثت إحدى  أكبر  الهجرات العربية للقبائل البدوية، نحو بلاد الشام، وتشكلت بشكل أساسي من قبائل بني عامر بن صعصعة القيسية (نمير، عقيل، قشير، كلاب، هلال، سليم)، وكان ما يميز هذه القبائل أنها شيعية المعتقد، دون أن يعرف تماماً كيف تشيعت، ونتج عن هذه الهجرة تغيير في التركيبة الدينية لبلاد الشام التي أصبحت، إما شيعية، أو محكومة من قبل دولة شيعية، وفي خاتمة هذه التغييرات التي حدثت مطلع القرن الرابع الهجري، سيطر البويهيون، وهم شيعة من فرس الديلم سيطروا على بغداد، وأصبحوا هم الحكام باسم الخليفة المغلوب على أمره.

ظهور الفرق الباطنية

 كانت هذه الأوضاع التي اتسمت بها بلاد الشام في القرن الرابع، هي ما شكل البيئة الخصبة لظهور الفرق الباطنية واستقرارها في بلاد الشام، ومن ثم تصارعها وتطاحنها في الشمال الغربي لبلاد الشام، بدأ الأمر أولاً بالإسحاقيين، ثم ظهر النصيريون، ثم تبعهم في الظهور الدروز، وأخيراً الإسماعيليون أتباع قلعة (ألموت) وحسن الصباح.

قلعة ألموت وسط جبال البرز (الديلم) جنوب بحر قزوين بايران، في رسم متخيل (أعلى) وبعد تدميرها (أسفل)

ولو رجعنا لنهاية القرن الثالث، وبالتحديد لعام 287هـ، فإن شخصية كانت مجهولة وقتها، اسمها الحسين بن حمدان الخصيبي، هاجر من جنبلاء إلى بغداد، بعد أن مات شيخه المعروف باسم الجنان الجنبلاني الذي تعلم الخصيبي منه أصول العقائد الغالية، واعتنق النصيرية على يديه، هاجر الخصيبي إلى بغداد، وأقام فيها قرابة خمسة وعشرين عاماً، انخرط فيها هناك في المجموعات الشيعية والصوفية، وربطته بأحد دعاة الإسماعيلية علاقة وثقى، وهو الحسين بن منصور المعروف تاريخياً باسم “الحلاج”، تسببت هذه العلاقة بسجن الخصيبي، بعد أن تم قتل الحلاج في بغداد بتهمة الزندقة سنة 309هـ، وبقي في السجن لثلاث سنوات، وغادره عام 312هـ، ولحق بالشام، في الوقت الذي كان الصراع على أشده بين الخلافة والإخشيديين، والقرامطة، والحمدانيين للسيطرة على بلاد الشام، فأقام في حلب برهة، ثم غادرها جنوباً نحو دمشق التي بقي فيها حتى عام 333هـ، وهو العام الذي سيطر فيه البويهيون على بغداد، والحمدانيون على حلب، فغادر الشام إلى العراق، فأقام فيه فترة قصيرة، ثم رحل إلى حلب، واتصل بسيف الدولة الحمداني، ومات الخصيبي عام ٣٤٦هـ أو بعدها، ودفن في حلب.

 عندما مات كان قد ترك عدة جيوب نصيرية في بلاد الشام، لا تعرف أعدادها، ولكن يعرف وجودها، من خلال المصادر النصيرية، والمصادر التاريخية أهمها في حلب وما جاورها، حيث أقام، وفي حران، وفي مدن الساحل اللبناني: صور، وصيدا، وبعلبك، وفي منطقة الجولان، وطبريا.

بعد الخصيبي أشرف على تجمع النصيريين في حلب تلميذ له، اسمه محمد بن علي الجلي، وكان أنجب مريديه، وأقربهم إليه هو الميمون بن قاسم الطبراني  (358-426هـ) الذي يعود أصله إلى منطقة طبرية شمال فلسطين، وفي زمن الطبراني هذا الذي ورث زعامة النصيريين بعد شيخه الجلي، حدث حدثان مهمان في تاريخ النصيرية:

– الأول افتتاح النزاع بينه، وبين زعيم الإسحاقية أبي ذهيبة إسماعيل بن خلاد، ومن ثم النزاع الدموي بين النصيرية والإسحاقية.

والثاني انتقاله من حلب، وإقامته في اللاذقية، وعلى إثر هذا بدأ أتباعه من النصيريين بالتحول للسكن في الجبال الساحلية.

في الجزء الثاني غداً:

ما هي الإسحاقية ولماذا تصارعت مع النصيرية / تغيير هوية المنطقة الساحلية / الصراع الإسماعيلي النصيري.

___________________________________

من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024

لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.

زر الذهاب إلى الأعلى