نوافذ الإثنين | الإنسان علي الجندي
ميخائيل سعد
كان رأس السنة هذا العام مختلفا جدا عن السنوات الماضية، ليس فقط لأنني بلغت معه عامي الخامس والسبعين، وإنما لأن بعض عناصره السحرية، التي سأحتفظ بها لنفسي، ذكرتني بالصديق المرحوم الشاعر علي الجندي، لذلك قررت أن أسجل، في هذا المقال، بعض المواقف التي سمعتها منه مباشرة، أو رأيتها، لدلالتها على إنسانيته الكبيرة، وتصالحه مع ذاته، وهذا نادر في عالم الأدب، وخاصة في عالم الشعر والشعراء.
التعارف
في شتاء ما، ربما شتاء 1975، نجحت في إقناع إدارة نادي المعلمين في حمص، بدعوة الشاعر الكبير علي الجندي (أبو لهب)، بالإضافة إلى شعراء محليين، لإحياء أمسية شعرية في مقر النادي، الذي كان قد افتُتح حديثا في شارع الدبلان، ولكي تكون الأمسية بمثابة الإعلان عن النشاط الثقافي للنادي الوليد.
كان الحضور كبيرا، وكان أبو لهب، في حضوره وأدائه، جميلا كلقبه؛ ففي الأصل كان قد كني أبو لهب بهذا الاسم لشدة جماله، وقِيل لأن وجهه كان يلتهب جمالا. ويُضاف إلى ما سبق ثورة علي الجندي على المألوف ورفضه لها، فاستعار اللقب من أبي لهب التاريخي. ومن اللطيف هنا ذكر مواقف بعض الناس من اللقب، فقد ظن البعض أن من الأسباب التي شجعت علي الجندي علي اختياره هو أنه ”اسماعيلي المذهب“، علما أن ”آل الجندي“ في سلمية هم على المذهب السني، ولكن الناس اعتادوا أن يطلقوا أحكاما جاهزة، لظنهم أن كل أهل سلمية اسماعيليون.
ولما كنت صاحب فكرة دعوة علي الجندي إلى حمص، فقد طلب مني الشباب أو أدعوه لسهرة معهم، في بيتي. كانت النساء الجميلات والانيقات يحطن بالشاعر الخمسيني الجميل، وسمعت أكثر من دعوة قد وجهت له فخشيت الفشل، خاصة أن علي، ككل الرجال، يحب صحبة النساء، انتظرت اللحظة المناسبة، ونقلت له رغبة الشباب في السهر معه، فهم يريدون سماع المزيد من شعره، وخاصة القصائد السياسية، التي لا تُلقى في الأماكن العامة، قال: امهلني قليلا. وكان ما أردنا، فقد اعتذر للجميع قائلا إنه قد التزم مسبقا بمواعيد أخرى.
السهرة
ضاقت غرفتي الطينية على الحضور، فقد جاء إلى السهرة أكثر من عشرين شابا، أذكر منهم أعضاء فرقة المسرح العمالي مع الأستاذ فرحان بلبل، أطال الله في عمره، والشاعر المرحوم مصطفى خضر، والشاعر المرحوم محمد الفهد، والشاعر صلاح الصالح، والمحامي عمر قندقجي، وآخرين لا أذكر أسماءهم. كانت سهرة عامرة بالمودة وحب الشعر والشاعر المتمرد، وبعد أن سمعنا بعض شعره السياسي، انتقل لإلقاء شعر الغزل الأقرب إلى قلبه وقلب الشباب. كان الصديق الشاعر الشاب محمد الفهد يجلس بقرب علي الجندي، التفت إليه وسأله بصوته الجهوري، بناء على الاعتقاد السائد عند الطوائف الأخرى، الذي أشرت إليه قبل قليل: أستاذ علي، هل صحيح ما يُقال إن الاسماعيليين يعبد فرج المرأة؟
ضحك علي، والتفت الحضور جميعا نحوه، فقال: لا أعرف يا أستاذ محمد إذا كان الاسماعيليون يعبدون الفرج، ولكن، عني أنا، فأقول لك: أي والله.
وكادت الغرفة الطينية؛ سقفها والجدران أن تقع علينا من شدة الضحك والقهقهة، التي استمرت دقائق.
ولم يقل على الجندي أنه سني المذهب، أو أن والده كان مؤسس المذهب السني في سلمية، وباني أول جامع في المدينة، فقد كان أكبر من الغوص في خرافات الطوائف وتشنيعاتها على بعضها البعض.
الرقص على سيارة الوزير
خرج من باب الخمارة، بعد منتصف الليل، ثلاثة رجال، يجمعهم السكر والشعر والصداقة والتمرد، وساروا في الشوارع يرددون الأغاني والنكات البذيئة على السياسيين الصغار والكبار. كان حافظ الأسد قد قص الشريط الأحمر معلنا بداية عصره الدموي، وكان ”الشعراء“ يعرفون إلى أين تسير جحافل الأسد، فهم أبناء البعث، وكانوا قد تمردوا عليه، في الفترة التي كان فيها ”الجنرال“ يحضر بنادقه لاحتلال البلد. كان الخمر زادهم في ليالي القهر؛ وصل علي الجندي وممدوح عنوان، والثالث لست متأكدا من اسمه، لذلك لن أذكره، إلى حي المهاجرين، عندما شاهدوا سيارة نمرتها خضراء، يعني أنها حكومية، فقرروا الانتقام من الحكومة بالرقص على ظهر سيارة ”الفولكس فاكن“ الصغيرة، ولكن لسوء حظهم قبض عليهم الشرطي الحارس، فأخذ هوياتهم وأرسلهم مع زميله إلى صاحب السيارة، وكان الوزير الشيوعي الوحيد في الحكومة ”واصل فيصل“، وعندما قرأ الأسماء طلب من الشرطي أن يقودهم إلى البيت، وبعد أن جلسوا في الصالون وطلب لهم القهوة، قال لهم: لقد اخترتم أفقر وزير وأصغر سيارة لتنتقموا من الحكومة!!!
تضحاك الشباب وشربوا قهوتهم، وطلب من سائقه أن يوصلهم إلى بيوتهم.
عن استقبال الكاتب الكبير سليم بركات
حكى علي الجندي في إحدى جلساتنا أنه عندما كان، في الستينيات، رئيسا لتحرير جريدة البعث، إذا لم أكن مخطئا، قرأ قصيدة مميزة في زاوية بريد القراء، فكتب لصاحبها أن يرسل قصائد أخرى، وأن يزوره، عندما يأتي إلى دمشق.
كان كاتب القصيدة الأديب الكبير سليم بركات، وكان وقتها شابا صغيرا، يعيش في الجزيرة السورية، وما أن قرأ ما كتبه علي الجندي عنه حتى شدّ الرحال إلى دمشق. عندما وصل إلى باب مبنى الجريدة طلب مقابلة ”الأستاذ علي“ فقادوه إلى باب مكتب رئيس التحرير، عندما فتح الباب رأي ”الموكيت“ الذي يشبه السجاد، خلع حذاءه ودخل، فقال له علي من وراء مكتبه: ماذا تفعل يا شاب، عد وانتعل حذاءك، هذا ليس سجادا مقدسا.
من هذا المكتب كانت بداية شهرة الشاعر والأديب سليم بركات، أطال الله في عمره.
مات علي الجندي الانسان وهو في ذروة انسانيته في اللاذقية 2009، مهملا ومهجورا إلا من قلة من الأصحاب، دون أن يتخلى يوما عن نفسه وانسانيته الكبيرة.
لقد كانت حياته قصيدة شعر باهرة.
ماردين في ١-١-٢٠٢٤