الرأي العام

دلالات وقضايا | تجحيش أم زواج سياسيٌّ؟

يكتبها: مهنا بلال الرشيد

كان الزَّواج مشاعيًّا في مجتمعات الجمع والصَّيد البدويَّة أو البدائيَّة الأولى، الَّتي عُرفت باسم المجتمعات الأموميَّة قبل ظهور الزِّراعة والاستقرار مع ثورة تدجين القمح والاستيطان في القرى الزِّراعيَّة الأولى عند الحدود السُّوريَّة التُّركية بين أورفا وإعزاز في وقتنا الرَّاهن، وقد سُمِّيت تلك المجتمعات باسم المجتمعات الأموميَّة؛ لأنَّ المرأة-وبسبب مشاعيَّة الزَّواج، أو بسبب إمكانيَّة تزوُّجها من رجال عدَّة في وقت واحد-كانت ملزمة ولوحدها برعاية ابنها حتَّى يكبر، ويستوي عوده. وكان تحريم مشاعيَّة الزَواج أو تحريم تعدُّد الأزواج للمرأة الواحدة واحدًا من أبرز نتائج الثَّورة الزِّراعيّة من أجل تنظيم العمل وتقسيمه في الحقول الزِّراعيَّة؛ ونتيجة لهذا التَّحريم والتَّنظيم ظهر مفهوم الأسرة بوصفها مؤسَّسة الزَّوجيَّة، الَّتي يتشارك فيها الزَّوجان بيتًا واحدًا، ويتقاسمان المسؤوليَّة؛ فترعى الأمُّ أولادها داخل المنزل، ويقدِّم الأب مؤونة الأسرة كلِّها؛ وبهذه الطَّريقة صارت المجتمعات أبويَّة؛ أي صار الأب ملزمًا برعاية زوجته وأولادها خلال مراحل الحمل والرَّضاعة والطُّفولة، وصارت الزَّوجة شريكة لزوج واحد في تحمُّل أعباء الحياة، ثمَّ ظهرت الشَّرائع السَّماوية؛ كالحنفيَّة الإبراهيميَّة واليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، وحافظت على هذا النَّمط، وأعلت من شأن المؤسَّسة الزَّوجية، وشجَّعت الشُّبَّان على الزَّواج، وجعلته مقدَّسًا من أجل حفظ النَّوع البشريِّ ومواصلة السَّير في ركب الحضارة المنظَّم بعد مرحلة طويلة من البدواة والمشاعيَّة.

الطَّلاق أبغض الحلال

هنالك معوِّقات متعدِّدة قد يكون بعضها سببًا في فشل المؤسَّسة الزَّوجيَّة؛ كظهور بعض الخلافات بين الزَّوجين أو عدم قدرتهما على التَّعايش مع بعضهما، وربَّما يرغب الرَّجل بالزَّواج من امرأة أخرى، وقد ترفض زوجته الأولى العيشَ مع زوجة ثانية، وإن تفاقم مثل هذه الخلافات قد يكون الطَّلاق أو انفصال أحد الزَّوجين عن الآخر حلًّا مناسبًا لبعض المشكلات الَّتي يعجز فيها الزَّوجان أو ما ينوب عنهما من حكَّام مصلحين عن إنهائها؛ ولهذا كلِّه عُدَّ الطَّلاق أبغض الحلال إلى الله في الإسلام والشَّريعة الإسلاميَّة، الَّتي أحلَّت للزَّوج أن يُعدِّد أكثر من زوجة، وقد يكون هذا التَّعدُّد-إذا أُديرت أسبابه وموجباته بطريقة عقلانيَّة-حلًّا منطقًّا لبعض المشكلات المجتمعيَّة؛ كالعنوسة وارتفاع نسبة الإناث مقارنة بنسبة الذُّكور.

لكنَّ الطَّلاق لا يمكن أن يكون غاية في ذاته إلَّا إذا تدمَّرت الحياة الزَّوجيَّة، واستحال دوامها، ويروي القصص الشَّعبيُّ أنَّ حكيمًا في بيئة فقيرة كان يردُّ السَّلام والتَّحيَّة كلَّ صباح على شابٍّ عازبِ، ويقول له: وعليك السَّلام يا سُلطان النَّاس! وبعد مدَّة تزوَّج الشَّابُّ؛ فصار الحكيم يقول له: وعليك السَّلام يا مَن ساويتَ النَّاس! وبعد مدَّة لم يستطع الشَّابُّ أن يحافظ على مؤسَّسة الزَّوجيَّة، فقال في نفسه: سأعود سُلطان النَّاس؛ فطلَّق زوجته، وحيَّا الحكيم في صبيحة اليوم التَّالي؛ فقال له الحكيم: وعليك السَّلام يا أتعس النَّاس! فشعر الشَّابُّ بندمه على فشله في الحفاظ على أسرته، وبعدما راجع نفسه، وفكَّر في أمره مليًّا ذهب إلى الشَّيخ الحكيم، وقال له: أريد أن تعود لي زوجتي؛ فقال الحكيم: لقد انقضت عدَّة الطَّلاق بينكما، وتحتاج زوجتك الآن أن تتزوَّج من رجل آخر؛ وإذا طلَّقها زوجها الجديد؛ ثمَّ انقضت عدَّة طلاقها منه، سيكون بإمكانك أن تتزوَّجها مرَّة أخرى؛ فأدرك الشَّابُّ أن التَّسرُّع في اتِّخاذ أيِّ قرار خطوة رعناء تشبه ضربة الحمار إذا رفس صاحبه -الَّذي يعتني به- لو لسعته ذبابة في أنفه، ويُطْلَقُ على رفسات الحمير الرَّعناء اسم (التَّجحيش)!

ومن المفارقة أنَّ تطلق هذه التَّسمية ذاتها على زواج التَّحليل أو زواج الامرأة من رجل آخر؛ حتَّى تُطلَّق منه بعد الزَّواج مباشرة، ثمَّ تنقضي عدَّة طلاقها؛ لترجع إلى زوجها الأوَّل؛ فيُسمَّى هذا الزَّواج في العرف الشَّعبيِّ باسم (التَّجحيش) أو (زواج التَّجحيش) أيضًا؛ وعندما أيقن الشَّابُّ بأنَّ عودة الزَّمان إلى الخلف ضربٌ من ضروب المستحيل أدرك صعوبة التَّجحيش ومرارة التَّصرُّفات الرَّعناء!

المنفعة والمتعة وأنواع الزَّواج المتعدِّدة

يحقِّق الزَّواج بأشكاله المتعدِّدة (زواج التَّجحيش والزَّواج المدنيُّ والزَّواج الشَّرعيُّ وزواج المتعة والزَّواج السِّياسيُّ) منفعة ونوعًا من الاستقرار للزَّوجين معًا، وإن اختلف مقدار الفائدة بين زواج وآخر، ولا يجوز أن تحديد الزَّواج بمدَّة أو أجلٍ؛ له انقضاءٌ على المذهب السُّنيِّ؛ لأنَّ الأصل في الزَّواج نيَّة الدَّوام أو الأبديَّة، ولو حُدِّد بزمن أو أجل صار زواج متعةٍ، قد تُجيزه بعض المذاهب الإسلاميَّة الأخرى غير المذاهب السُّنِّيَّة الأربعة. وعندما يتزوَّج الرَّجل من امرأة من طائفة أخرى أو من دين آخر يُعرف هذا الزَّواج باسم الزَّواج المدنيِّ، وقد يُطْلَبُ رجلٌ؛ ليكون مُحلِّلًا؛ أو بمعنى أوضح يُستدعى إلى رحلة تجحيش طويلة تعود منافعها العظيمة على الأمَّة كلِّها.

أمَّا الزَّواج السِّياسيُّ فيكون مشفوعًا بتحقيق رغبات ومكاسب سياسيَّة غير المنفعة الزَّوجيَّة والاستقرار النَّفسيِّ؛ كأن يتزوَّج الأمير أو الملك أميرة من دولة مجاورة؛ فيشتدُّ أزر الدَّولتين، أو يتزوَّج الرَّجل ابنة رئيس طائفة أو ابنة شيخ عشيرة أو ابنة رئيس حزب سياسيٍّ؛ وذلك لحسبها ونسبها؛ علاوة على تحقيق المكاسب الاجتماعيَّة في تقارب الطَّائفتين أو العشيرتين أو الحزبين أو الدَّولتين، وقد عُرف هذا النَّوع من الزَّواج في الشَّرق الأوسط القديم منذ تأسيس الممالك الزِّراعيَّة الأولى بعد انتهاء المجتمعات الأموميَّة وظهور العوائل المنظَّمة في المجتمعات الأبويَّة، ويمكننا أن نعدَّ زواج إبراهيم عليه السَّلام من سارة-تلك الأميرة المصريَّة-أشهر زواج سياسيٍّ في الشَّرق الأوسط القديم، فقد كان فراعنة مصر يتزَّوجون من أميرات بابليَّات أو ميديَّات أو حثِّيَّات، ويرفضون-حفاظًا على المُلك-تزويج أميراتهم لملوك الدُّول المجاورة وأمرائها؛ حتَّى لو تزوَّج الفرعون أو الملك المصريُّ من شقيقته، وتروي الأخبار في رسائل تلِّ العمارنة أنَّ أميرًا مشرقيًّا ألحَّ في مراسلاته، وطلب أميرة مصريَّة للزَّواج؛ فرُفض طلبه؛ فأعاد رسوله مرَّة ثانية، وتوسَّل، وذكَّر الفراعنة بأنَّهم قد زوَّجوا إبراهيم-عليه السَّلام-أميرة مصريَة؛ فكان جوابهم: إبراهيم نبيٌّ، وأنت لست نبيًّا!

وقد كثُر الزَّواج المدنيُّ في الآونة الأخيرة، وبرغم الظُّروف الخطيرة المحدقة بالزَّوجين انتصر الحبُّ أكثر من مرَّة برغم اختلاف الدِّين أو الطَّائفة أو الملَّة أو المذهب بين الزَّوجين. وهناك زواج أخطر من الزَّواج المدنيِّ أو أصعب منه؛ إنَّه الزَّواج المركَّب؛ وفقًا لتوصيفي الخاصِّ بي؛ إنَّه خلطة من زواج التَّجحيش مع الزَّواج المدنيِّ والزَّواج السِّياسيِّ من أجل تحقيق أكبر قدر من المنفعة؛ كأن ترى كاتبًا إسلاميًّا أو شاعرًا محافظًا أو راوية شعر يُطلق صوته ولحيته على أشهر منبر من منابر الملل والنِّحل المختلفة، الَّتي يملكها زوج علمانيٌّ، يرغب بأن يكون مُحلِّلًا ومفكِّرًا برتبة مصلح اجتماعيٍّ؛ ونظرًا لفكره الوقَّاد وسعة ذات يده يمكنه القيام بوظيفة التَّجحيش أو التَّحليل، لا سيَّما إن أعمت الأموال بصر هذا؛ أو بصيرة ذاك، وجعلت التَّجحيش قدره المحتوم!   

رحلات الإصلاح والتَّجحيش والمنفعة

اعتدنا على كثير من اجتماعات الأخوان للمناصحات الزَّوجيَّة أو السِّياسيَّة، حتَّى لو تكبَّدوا مشقَّات السَّفر بين البوادي الشَّاسعة والصَّحارى الواسعة في رحلاتهم الإصلاحيَّة؛ كيلا يقع الطَّلاق بين بعض المشاهير من قادة الأمَّة ورؤساء أحزابها وطوائفها. وقد سمعنا في الآونة الأخيرة عن تكبُّد بعض الأخوان عناء السَّفر والتَّشرُّف بلقاءات مجدية، قد تعود بالمنفعة ليس على الأخ الرَّحَّالة فحسب، وإنَّما على الأمَّة التَّعيسة الَّتي يحمل الأخوان همومها أيضًا، وربَّما تُسفر عن تجحيشة أو زواج سياسيٍّ برغم تأخُّر الأخوان في الإعلان عن تطليق الرَّحَّالة من حزبه أو تسريحه بإحسان قبل عقد من الزَّمان، وبرغم ضربة الطَّلاق الموجعة أو المتَّفق عليها أو الَّتي لم تكن في الحسبان نأمل لهذا المصلح الاجتماعيِّ أن يحقِّق مكاسبه ومنافعه من رحلته الأخيرة برغم بينونة هذا طلاقه بينونة كبرى بعد انقضاء عدَّته قبل عشرة أعوام، وما أدراك فقد يخبِّئ القدر لهذا المصلح وأمثاله زواجًا سياسيًّا أو مدنيًّا، أو زواجًا مركَّبًا ومعقَّدًا كتعقيد اجتماع السَّلفيِّين والإصلاحيِّين والمحافظين والصُّوفيِّين والمعتدلين في تيَّار واحد؛ يحمل اسم سوريا المحافِظة المتنوِّعة معًا، أو قد يجود عليه الزَّمان بتجحيشة في الحدِّ الأدنى، تحلِّل له ولأمثاله من المحافظين أو المصلحين عودتهم إلى حضن المجرم بشَّار الأسد، الَّذي اشتاقوا إليه، وصار من الجائز شرعًا أن يعودا له بعد أكثر من تجحيشة، أو بعد فرقة دهرٍ دامت أكثر من عشرة أعوام!

زر الذهاب إلى الأعلى