أرشيف المجلة الشهرية

ابتعدْ عن الجيش والعسكر وفتّشْ عن الدولة والمؤسسات...!

العربي القديم – مصعب الجندي

هل يجمع الاقتصاد ما مزّقته السياسة….؟ للإجابة عن هذا السؤال ضمن الإطار العام، نقول ببساطة: قد يفعلها في حال إن كان ما مزّقته السياسة قابلاً للتجاوز، أو كان دور القوى السياسية في مجتمع ما محدوداً، ومسيطراً عليه من قبل إدارة الدولة، عدا عن التموضع السياسي، وطبيعته وبنيته، إن على المستوى الداخلي لوطن ما، أو المستوى الخارجي، وهل هو في المستويين من طبيعة، وبنية تحطيمية، أم غير ذلك….؟

أردت من التساؤلات أعلاه أن الأصل، هو الدخول إلى فكرة الدولة بمجاميع مكوناتها (السياسية والاقتصادية والثقافية وبنيتها المدنية الاجتماعية، وغير المدنية) أي إن مفهوم الدولة وإدارتها يخضعان لمستوى التطور الحضاري الشامل الذي بلغته، ويمكن هنا مراجعة التجارب الغربية كدول الاتحاد الأوربي الذي جمعه الاقتصاد، قبل السياسة والثقافة وغيرهما، ومراجعة تجربة بلجيكا التي كادت السياسة أن تفرض تقسيمها بين (الفلمنك) والناطقين بالفرنسية (والونيا)، وحافظ الاقتصاد والمصالح على وحدتها ضمن إدارات حكم ذاتية، وبقي التقسيم افتراضياً. تلك تجارب دول حكّمت العقل والمصالح بحيوية نشاطها الاقتصادي، وأسبقيته على نواحي الحياة الأخرى؛ لتحقيق الرفاهية لشعوبها.

والحقّ هو سؤال أكبر من أن نجيب عنه ببضعة أسطر، حتى بالنسبة للتجربة السورية التي سأكتفي بعرضها بإيجاز قدر المُستطاع، مع رأي شخصي، فيما إذا كان الاقتصاد قادراً على ترميم ما مزّقته السياسة:

أولاً: أسميتها (التجربة السورية)، وهو خطأ فرضه عرض البحث، وليس الحقيقة العلمية، فالتجارب حتى في المستوى المؤسساتي، ومجال العلوم الإنسانية لها شروطها كالسيطرة على من يخضع للتجربة، والنظرية (أو النظريات) التي فرضت التجربة، بالإضافة إلى البيئة المحيطة ومدى استقرار حركيتها ……. إلى آخره. هي أمور لم تتوفر في سوريا، منذ الاستقلال، إن كان في البنية الداخلية، أو المحيط الإقليمي والدولي، أي وجود ضغطين داخلي وخارجي عانت منهما سوريا الدولة، في بداية تشكلها، والمجتمع السوري، منذ بداية تشكّل صورة الوطن لديه، والمؤلم اليوم أن هذين الضغطين ازدادا شراسة، وكشفا عن كل ما كان مستوراً خلف سجف عاهر. ولا أعني هنا أن الأمر بدأ في العام 2011، ففي ذلك نفاق يتجاوز الكذب إلى تزوير التاريخ.

ثانياً: أنا لا أتهم أحداً، في الفكرة أدناه، ولا أدافع عن آخر، فمن عايشها كانت له ظروفه، وشروط فُرضت عليه، وقد تكون المواقف في لحظتها صحيحة، وفي يومنا خطأ جسيم. هو أمر يفرض عليّ أن أخرج خارج الحالة برمتها وأعرضها محايداً:

بعد الاستقلال تنازع الوضع الداخلي في سوريا اتجاهان _مع بعض التمازج بينهما_ الأول هو بناء الاقتصاد وتمتينه، ثم الالتفات إلى القضايا المصيرية السياسية الأخرى كقضيتي فلسطين، ولواء إسكندرون، والسعي باتجاه تحقيق الوحدة العربية. حينها مثّل هذا الاتجاه الطبقة البرجوازية (التجارية/ الصناعية) الناشئة والمتطورة في المدن، وكانت الخلفية السياسية لهذه الطبقة الأحزاب التقليدية (الكتلة الوطنية وحزب الشعب) التي قادت مرحلة المواجهة مع الاستعمار الفرنسي. والاتجاه الثاني كان يركّز على السياسة والقضايا المصيرية، وما الاقتصاد إلا جزء من عملية البناء الشامل الذي خضع أيضاً ضمن التيار نفسه إلى تيارين، المركزية أو الاقتصاد الحرّ. مثّل هذا الاتجاه الأحزاب، والقوى السياسية الناشئة، والمتأثرة بالفكر القومي والماركسي كحزب البعث والاشتراكي العربي، والسوري القومي، والناصريين. وهنا لا يمكن استبعاد حركة الإخوان المسلمين التي كانت خارج الاتجاهين؛ بسبب بنيتها الفكرية التي لا تنظر لتجارب الدول الأخرى، إلا نظرة الشك والريبة.

أهمّ ما افتقر إليه كلا الاتجاهين، ومَن حاول المزج بينهما هو غياب مفهوم ورؤية واضحين للدولة يستندان إلى قراءة شجاعة (وأركز على الجرأة والشجاعة، رغم أن لهما حديثاً آخر)، لبنى المجتمع السوري في جانب المستوى الثقافي (الطائفي والعرقي)، وغياب (للدولة/ الوطن) في كامل مكوناتها (الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، السياسية)، بمعنى آخر وبسيط بعيداً عن التعقيد (إدارة هذه المكونات).

والافتقار الثاني الأخطر هو عدم تشكل واضح لقوى اجتماعية مؤسساتية منظمة، وقادرة على فرض سيطرة ورؤية لأي اتجاه، وتيار (سياسي/ اقتصادي) ضمن إرادة حرّة وديموقراطية، فكانت مؤسسة الجيش هي البنية الجاهزة التي لجأت، (وأركز على لجأت) لها جميع القوى السياسية بلا استثناء لتحقيق غاياتها، وضمن خطاب سياسي عجيب (حرق السفن، أي تخطي المراحل)، فأُحرقت السفن ولم تطأ الأقدام أرضاً، وتتابعت الانقلابات والغربلة (بعضها كان مفتعلاً) منذ العام 1949 تحت مسميات شتى أغلبها الضغط الخارجي، إلى أن استقرّت الأمور لصالح الريفيين (عسكر وسياسة) كسلطة….! وليس كدولة مع العام 1970، وتتابعت النتائج بعده كسقوط أليم، تبددت الاتجاهات (آنفة الذكر)، ومزجت بين عقليتها والسياسة، وأدارت الاقتصاد وفق مصالح وأهواء البنية الرئيسية الحاكمة، مع هوامش لتابعيها المخلصين، والنتيجة كانت خليطاً عجيباً، لا رأسمالية، ولا اشتراكية، مجرّد ساق على الرصيف، وأخرى على الزفت (فتخيلوا كيف المسير) بصورة أدق مجرد اقتصاد سلطة.

يجب الإشارة أنه على الرغم من مظاهر القوة، لاستقرار السلطة، وتحييد الضغط الخارجي (الدولي/ الإقليمي) بمساعدة وجود مشاريع عربية برؤية قومية (ولو على ورق)، مع أداء السلطة الاستبدادي، والبناء الهرمي لها (المتماسك بصيغة القوة فقط)، إلا أن تحليل الوضع العام يُظهر هشاشته، وقد يدّعي بعضهم إن الأمور اختلفت بين الرئيسين، وفي ذلك شيء من الصحة، مع كثير من الخطأ، (أيضاً له حديث آخر). فالاستبداد المتحالف مع الفساد باشر بصنع بنيته الاقتصادية الخاصة به وحده، بعد العام 1974 وحرب تشرين التي كان للتحضير لها وخوضها شروط تفرض نوعاً ما اقتصاد دولة، وليس نظاماً سياسياً، ولم تتبدل صيغة هذه البنية إلا سطحياً، بتبدل الوجوه والأشخاص، أما الجوهر فما يزال هو، باستثناء أن مصدر (الارتزاق) تآكل، مع تآكل جغرافيا الوطن ودمار بنيته.

ثالثاً_ تمكن القسوة والصعوبة هنا؛ لأن التحليل العلمي يلزمني بتحييّد عقلي وعواطفي وأفكاري، وما أؤمن، وأخرج خارج بنية الألم السوريّ، وكأني من عالم آخر، وأطرح الأسئلة الفرعية للسؤال الأصل، ومحاولة الإجابة باختصار، ومن مدخل التنويه بخصوصها أشير: إن ما تُطلق عليه الأدبيات السياسية (اليوم التالي) أي ما يلي الكوارث (حروب أهلية وغير أهلية، زلازل….إلخ)، تقصد منه كيف يتم تجاوزها، وترميم خرابها في  جوانب الحياة كافة (اقصادية وغيرها)، أي افترضت مسبقاً توقف الكارثة (أو الصراع)، وانخفاض مستوى الوتيرة إلى الحدود الدنيا، بما يسمح لإنهائها، والبدء بترميم خرابها. وتفترض هذه الأدبيات تضافر القوى القادرة للتنفيذ، إن كان في الساحة الداخلية لبنية (الكارثة أو النزاع)، أو القوى المحيطة بها (الخارجية) ذات المصلحة بذلك. ما يعنيني هنا البنية الداخلية بكل قواها لحالة التمزّق السوري، مُنطلقاً من قناعة (وقد أكون على خطأ) أن من يريد أن يكون جزءاً من تغيير حضاري وإنساني جذري، في جميع جوانب الحياة، ويتحمل عبء نزاع التغيير بكل أشكاله؛ من أجل تحقيقه، عليه ألّا يتجاوز ضغط المحيط الدولي والإقليمي، فهو أمر يفرضه التطور، وتشابك العلاقات في نمط عيش الحداثة، ولكن أن نضع كل جهدنا وتفكيرنا في هذا المحيط هو الخطأ الجسيم والقاتل؛ لأن هذا المحيط، مهما كانت أخلاقياته، فله حساباته الخاصة ومصالحه. والأصل (عين على العلاقات الخارجية، وألف ألف عين على البنية الداخلية وبيئتها). لا حاجة هنا للشرح أكثر والأمثلة أمامنا كالمسامير في الرأس، منذ أن تسلًط المُنَصّبين أو المُنَصَبين (بجميع كتلهم التي طفت على السطح كفطر سام) على مصير السوريين خضع هذا المصير لإرادة الآخرين، والمقلب الآخر أكثر بؤساً وصفاقة.

نعود للأسئلة الفرعية:

     أ_ ماذا سيرمم الاقتصاد في سوريا..؟ أم الأفضل أن نبدأ بترميم الاقتصاد؛ ليرمم ما مزقته السياسة..؟ وفي سوريا من أين نبدأ: الدور، البنية التحتية، استرداد البنى الاقتصادية الموهوبة والمنهوبة كمناجم الفوسفات والمرافئ….إلخ. الإجابة هنا واضحة لا اقتصاد ليرمم ما مزقته السياسة. ومن مسلمات أغلب النظريات الاقتصادية (شرقها وغربها) تفترض وجود ادخار، لنشاط سابق يدفع باتجاه نشاط اقتصادي لاحق، فأيٌ هي البنى (الاقتصادية/الاجتماعية/السياسية) التي تستحوذ على هذا الادخار، وما مصادره، وأين استقرّ، وهل هذه الفئات في وارد التفكير (مجرد التفكير) بالترميم، وكيف ستكون نوعيته وأهدافه؟

     ب_ أغلب الدراسات، خصوصاً الدولية، التي كانت حول (اليوم التالي)، والتي سمحت لي الظروف الإطلاع على بعضها، تحلل الحالة السورية، وكأنها بنية مادية جامدة، وتتجنب الحديث المباشر عن البشر إلا كأرقام (أعداد المهجرين في الداخل والخارج، مشوهو الحرب، تسرب الأطفال من سلك التعليم، الأبنية المدمرة….إلخ) لكنها لم تكن تضع حلولاً جذرية، أو حتى مجرد رؤية واضحة لها، لدرجة أنني أشعر أن الهدف هو استمرار الوضع على ما هو عليه.

     ج_ السؤال الأخير: متى نرمم..؟ أو متى يتمكن الاقتصاد من ترميم ما مزقته السياسة…؟

الزمن السوريّ هو الآن (الآن.. لا ماضياً ولا مستقبلاً، والآن هذه قد تمتد عقداً أو أكثر) هي نزعٌ حضاريّ بين حقبتين في حالة التشابك الشائك تتطلب التفكيك، خصوصاً أن الحالة الأصل (أو الحقبة السابقة) امتدت عقوداً، وغير قابلة للإصلاح أو الترميم، لا في الثقافة، ولا الاقتصاد، ولا السياسة، أو المجتمع (والقصد هنا ليس الإلغاء، أو التحطيم، أو سيكون تحطيماً على حطام). البنى السورية بأكملها مزقتها، ما ذكره السؤال (السياسة)؛ لأنها لم تكن سياسة، فالسياسة، أياً كانت التعريفات تحوي في جانب منها الأخلاق.

الآن والإبداع… تعنيان في ما تعنيانه واقعاً هشاً غير مستقر خاضعاً، لتبدلات انعطافية حادة، تتطلب سوريين قادرين على قراءة هذا الواقع مرّة ومرّات، والتنبؤ بالتبدلات، والعمل على التكيف والتعامل معها. ليس أمام السوريين إلا الإبداع، للتغيير إلى الحقبة الأخرى، شرط أن يبقى الوطن السوري هو الهدف والأمل، ولا ندامة.

___________________________

من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى