حماة.. ذاكرة الدم والضغينة
العربي القديم – أكرم عثمان
بتعليقات تهكمية قابل المتحلقون، حول طاولة النرد إفصاح (أبو فايز)، بأن للتدخين مفعول المنوّم السريع لديه! لم يظهر أبو فايز امتعاضاً من ردود فعل أصحابه، باعتباره شخصاً هشاً “لا يحتمل غلوة”، بل رد بتأتأة اضطراب مزمن: “شو عرّفني”، أيام الأحداث اكتشفت أنه منوّم، حينها كنت أخدم عسكرية في قطعة بريف دمشق، وبلغنا أنهم أغلقوا حماة، وحارة أهلي تتعرض للقصف. عدة أيام لم يغمض لي جفن خلالها، كدت أصاب بالجنون، أريد معرفة أي خبر عنهم. أحد الرفاق أعطاني سيجارة حمراء، وهو يحاول تهدئتي، وما إن سحبت منها نفساً واحداً، حتى غبت عن الوعي، وغرقت في النوم، من حينها أدخن؛ استجداء للنوم! تلاشت الابتسامات عن الوجوه، وعلق أحدهم: إيه نعم، الأحداث أورثتنا أمراضاً لا يعلم بها سوى الله، تعرفون ابن أخي الذي هاجر إلى ألمانيا؟ علمت من أهله أنه يتلقى علاجاً نفسياً، فقد بلغ هوسه بالنظافة الشخصية حداً يمنعه من الزواج، فهو دائماً يقرف حد الغثيان، ولم نكن نعي أن هوسه بالنظافة مرض، وأنه أصيب به بسبب الأحداث، حينذاك كان طفلاً بعمر ست سنوات، رأى بعينيه والده، وشباب الحي يُعدمون بالرصاص، تبوّل في ملابسه من الرعب، وتواصلت هذه الحالة، وهم تحت الحصار عدة أيام، حيث خبأته أمه، ولم تفطن لتغيير ملابسه، من حينها فقد الشعور بالنظافة، حتى لو كان مدعوكاً بالصابون، تحت ماء الحمام، ويقول: إن رائحة البول، والدماء تطارده أينما اتجه.
حان موعد صلاة الظهر، انفضت اللعبة، ومضى كل إلى همومه وأوجاعه، في مدينة تختزن المرارة تحت أضراسها، فلا يطيب لها مذاق ولا تكتمل لها بهجة. تنكفئ على نفسها موغلة بالرهبة، تمنح الغريب طلبه بحياد، حيث لا زيادة ولا نقصان، فيما تصمّد الفائض من سخائها، ووفائها لعلاقات تمتد جذورها إلى أيام سوداء، ليورّث الحموي السبعيني أبناءه، وأحفاده الإخلاص لعائلة سيدة مسيحية مدت يدها، في لحظة توقف فيها الزمن، وسحبته من طابور الإعدام الميداني إلى خلف باب بيتها، ثم أخفته في غرفة المغارة متكتمة على وجوده رغم المداهمات، معرّضة حياة أسرتها لاحتمال موت محقق، إذا عُثر عليه، إلا أن رغبتها الجامحة بتحدي القتلة كانت أقوى، هكذا يخبر أبناءه عن تلك السيدة الحموية الشجاعة، ويذكر أنها بعد نحو أسبوع تمكنت من إرسال إشارة إلى ذويه، بأنه نجا.
السبعيني ينسب شجاعة تلك المرأة للحمويات الأصايل، ويوصي أبناءه بإكرام كل من يمت لها بصلة مدى الحياة، أما الشيخ المتشدد دينياً الذي اعتُقل ابنه؛ بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، فيظهر حرصاً شديداً على صداقة شيوعي قديم اعتُقل في الفترة ذاتها مع ابنه. فالشيوعي الذي ما زال يختلف معه جذرياً بالتوجه العقائدي، لم يوفر جهداً، في تسريب رسائل من ابن مدينته المتهم بالتشدد الديني. كان يتلقى منه الرسائل شفوياً، في اللقاءات العابرة السريعة بفسحة السجن، ثم يكتبها على أوراق السجائر، ويدسها بمشغولات من بزر الزيتون منتظراً زيارة زوجته؛ لتحملها إلى حماة. من عاش تلك التجربة القاسية وحده يقدّر معنى وصول رسائل، من معتقل مجهول المصير إلى ذويه تؤكد أنه مازال حياً. مرت السنوات وأُفرج عن الشيوعي، وأعدم المتهم بالانتماء للإخوان، لتستمر الصداقة بين متدين عجوز، وشيوعي كهل، يجمعهما الاهتمام بالموسيقى، والطيور، والنباتات، وتاريخ أسىً لا يُنسى.
يمر النهار سريعاً في حماة، ما إن يرتفع آذان العصر، حتى تتسارع وتيرة تسرب الوقت، لتعود مع حلول المغرب إلى التباطؤ، ساحبة معها ليلاً مظلماً ثقيلاً، يتحايل عليه بعضهم بزيارات عائلية وسهرات، حول موائد على “قدّ الحال”، وجلسات لا تخلو من موسيقى وطرب، فيما تدور على الهامش عجلة نمائم صغيرة، حول من باع، ومن اشترى، نشرة أسعار الذهب، والخضار ولحم الضاني، والسمن الشرقي، والمهور، وألواح الطاقة الشمسية، والأخيرة تكاد تطغى على كل الأحاديث في العام الأخير، لما حملته لأهالي حماة من انفراج يجنبهم ذل انتظار كهرباء لا تأتي، سوى نصف ساعة كل خمس ساعات، فما من حموي يشك، بأن الطاقة هي الحل، لولا وجود “الحميماتية”!
أحاديث يومية تُكرر، وتعاد مسببة الملل للأجيال الجديدة، من شباب وصبايا شبّوا عن طوق العادات والتقاليد المحافظة، وراحوا يقصدون أماكن ترفيه نشطت، خلال الحرب، حيث تسفح عدة ساعات من مساء مضجر، فتراهم يتقاسمون الطاولات، واحدة للذكور، وأخرى للإناث، لا اختلاط على طاولة واحدة، حتى لو كانوا زملاء في الدراسة، أو العمل، الاختلاط يقتصر على الأسر وعلاقات القرابة، وكأن عقد تفاهم اجتماعي، فرضه جيل جديد من النساء، احتل سوق العمل بغالبية ساحقة، خلال سنوات الحرب، مقابل تراجع أعداد الذكور، بسبب الملاحقات الأمنية، وتواري المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية، والاحتياط، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
حضور النساء في المطاعم والمقاهي مساءً، بات أمراً اعتيادياً، كما يبدو اعتيادياً التنافس على حجز المطاعم الفخمة؛ لإقامة حفلات نسائية كبيرة، استقبالات، مباركات زواج، أو ولادة، أو ارتداء الحجاب، احتفال بأعياد ميلاد، مباهج غرضها استعراض مظاهر الغنى والجاه، وتوثيقها من قبل فرق تصوير نسائية متخصصة بالإبهار، تنتج صوراً، ومقاطع فيديو للنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، أحد أهم ساحات الاستعراض والتنافس الذي يبلغ أوجه، بين زوجات أثرياء جدد، أو مسؤولين كبار، وبين سليلات عائلات عريقة يأبين إخلاء الساحة، لطارئات على الوجاهة، والعيش الرغيد.
إلا أن أماكن الترفيه في حماة ليست سوى جزر صغيرة مترفة بالإنارة، في محيط معتم، أما روادها، فهم ورغم صخبهم ليسوا سوى قلة قليلة في مدينة ترزح غالبيتها العظمى، تحت سطوة فقر متوحش لا يرحم. مدينة استقطبت نازحين من مختلف المناطق، بأعداد تبلغ ضعف ما تبقى من سكانها الأصليين الذين يؤثرون الصمت، حيال قلة تثير الريبة في حضورها، وتقسم مدينتهم إلى مدينتين: واحدة من خليط مهجن، مبهم، وأخرى تلتحف العتمة؛ لتنام على دمل في جنباتها موجع.
تحت جنح الظلام الدامس، وبينما يختزل سائق التاكسي الطريق؛ ليوصل الزائر الغريب إلى مطعم على ضفة العاصي عابراً منطقة موحشة، ينطق بجملة مقتضبة، لدى سؤال الراكب: أين نحن؟ هنا كان حي الزنبقي الذي سوّي بالأرض في الأحداث! ثم صمت، ليبادر الزائر بالقول: إنه من حمص، وأحداث حماة حية في ذاكرته، ابتسم السائق: يابووه الحماصنة على الرأس، لولا أنهم سدّوا العاصي بقشور البصل، “مفكرين يغلبونا.. أيه ما بيطلعلن”.
على ضفة العاصي يطل ما تبقى من حي الكيلانية أحد أجمل أحياء حماة التاريخية، هناك يربض أكبر فندق في المدينة، كجثة وحش إسمنتي منفّر، يتجمّل ليلاً بإنارة تنعكس على وجه الماء، وتظهر تطاير رذاذ النواعير، وخلفها ظلال تتمايل كأشباح أرواح دفنت حية في تلك الأرض. تصدح مئذنة جامع النوري بتشويقات صلاة العشاء، معانقة أنين النواعير، والأرواح، وأربعة عقود مرت.. كانت خلالها ذاكرة الدم تتدفق مع مياه العاصي، تجف حيناً، وتفيض أحياناً، ومعها كل أسباب الأسف والضغينة.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024