فنون وآداب

نصوص أدبية || الفهلوي.. فصل من رواية عن المستقبل السوري الأسود

يكتبها: فؤاد عزام

هو ليس خطرا عليه، ولم يشعرهم بذلك، فكنيته بمثابة جواز سفر دائم، إذ قبل نحو سنتين، أوقفه حاجز مركزي للحرس الثوري، وتفحصوا هويته، وقرؤوا اسمه: “جمال الفَهلَويّ”، فكان منهم ضابط فهلوي بمفهومنا العامي فعدَّ كنيته تعود لأصولهم، لأن الفهلويَّة أو البهلوية هي السلف اللغوي للفارسيّة الحديثة.

ومنذ ذلك الوقت أصبح مقربا منهم، يستخدم فهلويته في كل مرة يوقفوه فيها، ويقول لهم إنه ذاهب ليبحث عن شجرة العائلة وتحديد مكان قبر جده لإقامة ما يرغبون به، وهو إقامة مقام فارسي له، بعد أن استوفوا بناء مقامات لجميع من ينتمي لآل البيت والجيران والأقارب.

وآخر مرة أوقفوه فيها حين كان يسافر إلى مدينة تدمر حيث كان على موعد مع صديقته الروسية في فرع مطعم (ناش كراي) على تراس فندق (نخيلوف بالاس)، الواقع بين طريق الحشيش الدولي، القادم من ميناء إيراني عبر العراق وسوريا وصولا للمتوسط، ومدينة تدمر.

وأخبرهم الفهلوي أنه يسير مع جذر الشجرة وقد دلّه على واقعة الملك الساساني شابور الثاني الذي هزمته القبائل العربية في أميسيا “حمص”، وكانوا يبحثون آنذاك عن مكان تلك المعركة لإقامة مقام له بوصفه هزم مظلوماً.

إن نظرت لفندق (نخيلوف بالاس) من بعيد، فسترى الطريقين اللذين يؤديا إلى جسمه  يدين ممدودتين يمنة وشمالا، تمسك الأولى بطريق الحشيش الدولي والثانية بمدينة تدمر الأثرية.

ويريد الروس للفندق ذي النجوم الخمسة، أن يتمدد لتصل مبانيه تدمر حيث أقاموا فيها نصبا تذكاريا لضابط روسي يهودي يدعى ألكسندر بروخورينكو قتل عام 2016 خلال تحرير تدمر بحسب روايتهم إلا أن ما يعيقهم هو مطالب إيران في إقامة ذاك المقام.

وعلى حَبلَيّ الرغبتين تنط سيدة الأمانة السورية، التي تستحوذ على الوثائق التاريخية، فحين يضغط عليها الروس، أو يدفع لها مستثمر الفندق الخليجي أموالا تقول إن الوثائق تشير إلى أن المعركة لم تكن في تلك المنطقة، ما يسمح لهم بإقامة مباني جديدة ملحقة بالفندق، وحين يضغط عليها الإيرانيون تقول إن هناك شكوكاً، وتعتزم قطعها بيقين الحفريات.

ولكن بعد أن شد كل واحد حبله، تعثرت، إذ ذكرت في تقرير أن المعركة قد تكون جرت في المنطقة التي أقيمت عليها معامل الفوسفات شرقي حمص فأغضبت الجانبين، الروس لأن تلك المعامل تخضع لسيطرتهم، ولا يمكن إزالتها من لإقامة بناء لشابور،  والإيرانيون لأنه من غير اللائق أن يكون مقامه تحت السماد، لا بل ورطت العرب إذ قال الإيرانيون إن تدخل المستثمر الخليجي جاء بدافع المطامع العربية في سوريا، وللتغلغل فيها بحجة بناء فنادق ومنشآت، والقضية مازالت تتفاعل ولم تحسم بعد.  

قبل الوصول إلى الفندق شد انتباه الفهلوي مخيم شبيه بمخيم الركبان التاريخي الذي كانت سجلته اليونسكو في قائمة التراث العالمي المادي، دون أن تستطع سيدة الأمانة السورية تسجيله في قائمة التراث اللا مادي ما ضيع عليها ميزة استحواذ عقود مساعدات أممية إضافية، وضمها لعقود أخرى، إذ لا شيئ لا ماديا في المخيم، فلم يسمع منه صوت مهباج أو عزف ربابة أو قصيدة شعر.

والمخيم الشبيه هذا أقيم على أنقاض سجن تدمر الذي لم ينجح أحد بتسجيله في أية قائمة دولية كما حال سجن الباستيل، لا كرمز مادي للظلم الإنساني، ولا اللامادي، فلم يعثر على المقابر الجماعية ولم تسجل أصوات آلام المعذبين التي كانت خرجت منه، وذهبت مع أرواحهم وانتثرت في السماء. 

وعوضت الأمانة الأمانة في الشبيه ما فاتها في الركبان، وتمكنت من تسجيل المواويل الحزينة التي تسمع منه، ضمن قائمة التراث اللامادي لليونسكو تحت اسم ” نواح فلكلوري شعبي” ينسجم مع السلم والأمن والدوليين، بحسب معايير الأمم المتحدة.

أما لماذا النواح فيعود الفضل في اكتشافه لأحد نزلاء الفندق الأجانب إذ أخبرهم بأنه يسمع من المخيم كل ليلة تراتيل حزينة تذكره بالموسيقا التي صاغها تشايكوفسكي لحظة غرق أميرة بحيرة البجع بعد خيانة حبيبها، ولكن الفكرة لم تصل بداية لتلك الأمانة، وقالت سيدتها إنه لا يوجد في صحراء تدمر بجع ولا بحيرة، وأقرب شيئ للحدث والموسيقا هو الديك..

وطرحت الأمانة الأمر على الديك فحلف “بحياة بيو إنه يساوي بحيرة الديوك” نكاية ببجع تشايكوفسكي، فنجح وبحسب تعبيره فقد صاغ كلمات الأغنية ولحنها خلال عشرة دقائق حين كان يتصيد الحمام والعصافير، وسرعان ما تم بثها من إذاعة بلدية دمشق الكبرى، ولكن حين وصلت ألحانها التي أدتها ورشته الموسيقية، وجعيره إلى المخيم نقز الحمام وفر منه جزعا، وأطلق نواحا بدل الهديل.

ومن هنا تبلورت فكرة أن يكون التراث اللامادي تحت اسم نواح فلكلوري شعبي، على الرغم من أنه في البداية لم يصدق أحد من فريق اليونسكو أن الحمام في بلادنا يطلق النواح فهو رمز للمحبة والسلام والفرح وهذا مثبت في جدارية فسيفساء في الأمم المتحدة، قدمها البابا إلى كورت فالدهايم تحمل هذا الشعار.

وبالفعل اقتنعت اليونسكو أخيرا في اجتماع ضم خبراء كانت تكلفته تعادل بناء مساكن للرحل السوريين بدل الخيم التي يسكنونها، ولكن وصلوا إلى نتيجة بسبب إصرار الأمانة، وبفضل أحد الخبراء الذي قال مازحاً أمسكت بأحد شعرائكم ينشد: أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتي هل تشعرين بحالي، فأعجبوا بعد أن تعجبوا فقرروا.

وللأمانة أيضا فرحت قيادة الأمانة لصدور القرار وتشجعت، فصنعت مجسما لحمامة وضعوه بين خيم الرحل، فازداد النواح، خاصة خلال زيارة أحد مسؤوليها لافتتاح فرعا لسلسلة مراكز الصفوري، لأن قرار نواح الحمام فتح عليهم أفاقا أخرى، فلم تختر سوى مهنة الصفوري لتسجيلها في قائمة التراث اللامادي، مبررة ذلك بأنها تساهم في إعلاء سمة الذكورة والأنفة والمجد والعزة والكبرياء.

وغالبا ما يأتي كثير من أولئك الذكور أصحاب تلك الصفات، إلى محيط فندق نخيلوف بالاس بثيابهم الرثة يبحثون عن طعام أو خدمات يقدموها لقاء مقابل مادي في فرقة “اللطم الشعبي للفنون الإصطهاجية” التي تقدم عروضها على مسرح مدينة تدمر.

ينتظر هؤلاء بشكل دائم بجواره قدوم الفريق الإداري إليه وهو مكون فقط من معممين، يتعاملون معهم بفظاظة وفي حالات كثيرة يرفضون أسماء أشخاص ورطهم أهاليهم بنقلها إليهم من الأجداد، مثل عمر ومعاوية، إلا أن المحظوظين منهم يتزاحمون للتسجيل والأولوية تكون لمن أدى في السابق مثل هذه الأدوار، أما ما تبقى فيتكفل حراس الفندق بطردهم.

وحين نظر الفهلوي قبل أن يصل فندق نخيلوف بالاس، إلى وجوه أولئك الأشخاص لفته أن معظمها مشوهة بعلامات غير تلك التي تنجم عن اللطم، فالعيون مختلفة وكذلك الأنوف وحتى شكل الرأس، وكأنهم من عالم آخر، وحين سأل أحدهم أشار إلى رجل مسن يجلس بالقرب من خيمة فذهب إليه، وأخبره مباشرة دون تحفظ:

بها لزمان كنت أرعى الحلال بهالمكان فكانت هناك جماعة تجي بسيارات عسكرية يحفرون عند تلك التلة كان عليها سور وحرس، ويطالعون بشر أحياء من تحت الأرض، يحطونهم بخيمة كبيرة، وبعدين يختفون هم والخيمة.

وأردف الرجل المسن: لما سألت واحد من العسكر عن السالفة أخذ مني نعجة وكانت معشرة، أدخلها الخيمة، لكن بعد ساعة أعاد لي النعجة، قلت له ياعفو الله تحفرون يطلع بشر من لحم ودم، وبعدين يختفون، وتدخلون النعجة وتطلع حية.

جاوبني لا تقرب من هون أحسن ما تختفي متلهم، قلت له عجب كيف؟ قال: علي مهموك يستطيع فعل أي شيئ

على الرغم إني ما افتهمت عليه شي، لكن استغفرت رب العالمين، الوحيد القادر على فعل كل شيئ، وبقيت على هالحال كم يوم لحد ما نظرت للنعجة وكأنه عين وصابتها، كانت تنازع قلت ما في غير ملعون الوالدين ساوالها عمل.

قال له الفهلوي: “لحد الآن لم تجبني على سؤالي”

فرد عليه: “بدك تبيض فالك، لعل يا وال في عمل وآني ما أدري”

أعطاه الفهلوي بعض النقود.أجاب: “النعجة ولدت ثلاث حملان قبل ما تموت”

وهنا صمت. زاد له الفهلوي المبلغ  عندها قال:

 “الحملان كانت وجوههم مشوهة، مثل هالعجيان اللي تشوفهم.. وهم من اللي أهاليهم بقوا بهالمكان الملعون لأنهم قال ما يردم على الخرافات، وما يصدقون إنه  صابته لعنة، حدا ساواله عمل، أما نحنا ردينا وخفنا وابتعدنا سنين، لكن بعد ما اتعمر الفندق صار في ونس فرجعنا، لكن قبل ما تمشي أريد أسألك سؤال شاغل بالي لويش سمّوا الفندق نخيلوف بالاس”؟

حين دخل الفهلوي إلى الفندق بدت لوحة فسيفساء نادرة تشغل معظم أرضيته وهي كما مكتوب باللوحة التعريفية: لوحة فسيفساء من العصر الروماني تعود لمملكة أريتوزا طولها 20 مترًا وعرضها 6 أمتار، اكتشفت في مدينة الرستن في ريف حمص الشمالي عام 2023.

لوحة الفسيفساء كانت اختفت بعد اكتشافها بعدة أيام، إذ تبين من خلال صور تسربت  بأنها طمرت تحت التراب بإشراف وزير التربية، وأسلوب الطمر هذا منسوخ من العقائدية الإيرانية، أما ماعلاقة التربية بالطمر، فلأن الوزير كان عضوا في فريق الأمانة التي امتدحها الإيرانيون حين قضت على شيوخ كار صناع الحرير الدمشقيين ومنتجهم العالمي البروكار الذي ذاع صيته منذ ثلاثة آلاف عام، ولبست منه الملكة أنطوانيت، وكان لعنة عليها وعلى زوجها.

جلس الفهلوي على طاولة في فرع ناش كراي في الفندق وسكب قليلا في الكأس وارتشفه بانتظار صديقته الروسية، إذ لطالما ردد أنه ينظر إلى أي نسبة تكون في الكأس وليس فقط إلى نصفه الممتلئ، بل وأكثر يقول إنها الصبابة، و يفائل نفسه بأن الكأس وإن فرغ لكن المهم هو أنه مايزال في اليد.

وكذلك يرى حال البلد، فهي مازالت باليد، والكارثة هي بسبب الإرث الثقيل الذي تجمع ولم تعد اللحظة الزمنية تستوعبه وتتحمل تراكمه الهائل فانفجر واستنجد الحاكم بالخارج ليعيد البلاد إلى الماضي علها تتحمل الإرث من جديد ولكن هذا مستحيل، ولكن من “يأتي من برا بضل برا كما جاء على لسان شخصية في إحدى مسرحيات الرحابنة”.

ويترجم ذلك بأن مجتمعنا يعيش حقيقته لذلك هو صحي أكثر من مرحلة ماقبل الثورة، لأنه الآن كاشف فارز وما يحدث هو طبيعي في السياق التاريخي، بل يجب أن يحدث لأنه أفضل مما كانت عليه البلاد قبل الثورة، التي دائما تجدد ذاتها طال الزمن أو قصر، إنما هذا الرأي لا يشاطره فيه بعضهم.

تعليق واحد

  1. Hey would you mind letting me know which hosting company
    you’re working with? I’ve loaded your blog in 3 completely different
    internet browsers and I must say this blog loads a lot faster then most.
    Can you suggest a good hosting provider at a fair price?
    Thanks a lot, I appreciate it!

زر الذهاب إلى الأعلى