فنون وآداب

فؤاد شربجي العائد بلوازم (أبو كامل) في مسلسل (بيت أهلي): الإفلاس بجدارة!

العربي القديم – محمد منصور

بعد سنوات من الانقطاع عن الكتابة الدرامية يعود فؤاد شربجي مؤلف المسلسل الشهير (أبو كامل) للكتابة الدرامية عن الحارة الدمشقية مجدداً، في مسلسل يحمل عنوان (بيت أهلي)

مازلت أذكر عندما عرض الجزء الثاني من (أبو كامل) عام 1994 يومها أصدر عدد من النخب والشخصيات الدمشقية من أدباء ومحامين ومهتمين بالتاريخ وأساتذة جامعيين  أصدروا بيانا غاضبا ضد المسلسل اتهموا فيه الكاتب بالإساءة لدمشق، و”التشويه المريع للأخلاق والعادات والحوادث التاريخية والشخصيات”، بل ودفع هذا المسلسل بعضهم لإطلاق رواية تزعم أن والد فؤاد شربجي كان عميلا للفرنسيين أيام الانتداب.  كذلك  قدم ياسر العظمة لوحة درامية في (مرايا 95) انتقدت هذا المسلسل وسفهت مضمونه وطريقة تعاطيه مع التاريخ السوري. وأذكر أنني كتبت في استعراضي للحصاد الثقافي السوري عام 1994 في إحدى المجلات العربية أن هذه المعركة قضت على آمال كاتب المسلسل فؤاد شربجي بأن يستمر في كتابة أجزاء أخرى منه، كما كان يشيع… إذ توقف العمل عند الجزء الثاني وطويت صفحته إلى الأبد!

فؤاد شربجي: من (أبو كامل) إلى (بيت أهلي) ثلاثون عاما من الاجترار

بعد ثلاثين عاماً يعود فؤاد شربجي إلى التاريخ السوري والحارة الدمشقية مرة أخرى،  ليقدم مسلسلا يحاول الاستفادة فيه من خلطة مسلسل (أبو كامل) ولوازمه الدرامية وشبكة علاقاته، في مسلسل يخرجه تامر مروان إسحاق ويعاني منذ البداية من  خلل واضح في تواتر الأحداث، التي تسير ببطء شديد، في مشاهد وخطوط فيها الكثير من التكرار المموج والمشهديات المعادة بلا إفادة.

زاهي أفندي بثوب أخر

فالمسلسل الذي تنطلق أحداثه من اغتيال الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهنبدر في صيف عام 1940 يستغرق حوالي ست حلقات قبل أن ينتهي من مراسم الدفن والعزاء فقط… وهو يتخذ من اسم عبد الرحمن الشهنبدر وحدث اغتياله الموثق بالوقائع وأسماء الجناة وتداعيات ذلك… مادة لإحاطته بدراما شعبية، بنفس أدوات مسلسل (أبو كامل)، مستحضراً الممثل عبد الفتاح مزين الذي لمع نجمه في دور موظف الداخلية المتعامل مع الفرنسيين (زاهي أفندي) كي يقدم هنا شخصية شبيهة إلى حد ما. إنه صبحي بك، المقرب من الفرنسيين أيضا، والمتزوج من ابنة أسرة وطنية لها تاريخها المشهود في مقارعة المحتل… ليعيش الصراع ذاته بين عمالته واستقامة أسرة زوجته. لكن حضور زوجته الهادئ والرصين هنا، يفتقر إلى وجود شقيقة لها مثل “صالحة” التي كانت تمطر زاهي أفندي في (أبو كامل) بالشتائم والسخرية والسباب فتثير غضبه وتذكره بوضاعة مساره وسلوكه، مثلما يفتقر عبد الفتاح المزين هنا، إلى الأداء الكاريكاتوري الذي لم يكن يخلو من ظرف، لشخصية زاهي أفندي التي أداها بخفة وبراعة قبل ثلاثين عاماً، فيبدو وقد فعل الزمن فعله بالنكتة الغائبة والحضور الذي بردت حرارته في مقاربة أدوار العملاء!

عبد الفتاح: استحضار روح زاهي أفندي في ثياب صبحي بك

نساء فاجرات ورجال ضعفاء وعملاء!

إلا أن هذه العلاقة التناحرية بين زاهي أفندي وصالحة، سيرثها في هذا المسلسل موظف آخر في الداخلية مثله، هو (عزت أفندي) الذي يعاني من سلاطة لسان حماته (يسرى خانم) مثلما كان يعاني زاهي من سلاطة لسان (صالحة خانم)، نفس المشهديات والشتائم والردح، مع فارق أن العميل عزت مازلت رقبته بيد حماته السليطة، لأنه مازال خاطباً ولم يتم زواجه من ابنتها، فيما هي تنكل به وتحرمه من رؤيتها متى وكيف شاءت!

يستمرئ فؤاد شربجي عموماً حالات الردح النسائي والمشاحنات التي تستحضر قاموساً في البذاءة والابتذال وسلاطة اللسان والإهانات اللفظية، ومعظم نساء (بيت أهلي) كيسرا وحسنية ومديحة زوجة عدنان وسواهن، هن سليطات اللسان، ثرثرات، يتحكمن بأزواجهن أو بأصهرتهن أو بمن حولهن من رجال إما بالتسلط والمواجهة المباشر أو بالمكر والمداورة والدهاء. وبالمقابل معظم النماذج الرجالية مهزوزة وضعيفة وخاضعة لسلطة أولئك النساء الفاجرات المسترجلات رغم ما تبدو عليه أشكالهن وحركاتهن من أنوثة، يكرسها نوع من الأداء الاستعراضي المفتعل لدى صفاء سلطان وعبير شمس الدين وسواهن.

وبالطبع فهؤلاء الرجال “المماسح” سيبقون كذلك  حتى أمام النساء المحترمات… فنساء المسلسل اللواتي لا ينتمين إلى ذلك النمط السوقي الذي يستعيره شربجي من لوازم شخصية المعلمة في الأفلام المصرية، والذي لا يمثل روح البيئة الدمشقية لا من قريب ولا من بعيد، أولئك النساء المتزنات والمحترمات يسيطرن أيضا على أزواجهن وعشاقهن الضعفاء، ولو بالحسنى، كما تفعل (سمية) مع أبو عدنان… فيغدون أكثر من ملهمات بل شريكات وموجهات أحياناً كثيرة!

من شبح أبو كامل إلى شبح أبو عدنان!

 (أبو عدنان) الثائر الشريف الذي يجعل منه المؤلف صديقا لعبد الرحمن الشهبندر، والذي قيل إنه بطل المسلسل الذي سيخوض مباراة في الأداء أمام شخصية الألعبان  نوري بيك، القادم إلى الحارة في غيبته، حاملا علامة منه، ومخفيا وراءه غموضا وتقلباً مريباً، مازال أبو عدنان المنتظر هذا وقد انتهينا من الحلقة السادسة عشر مختفياً، ينسج حول غيابه القصص والروايات، وتعلق على عودته الآمال والأحلام… لكن فؤاد شربجي لم يعدم لتعويض هذه المشكلة وخصوصا أن من يقوم بالدور نجم بحجم سلوم حداد، أن يهرع إلى حلوله الخائبة التي سبق أن جربها في مسلسل (أبو كامل) حين جعل من أبي كامل الغائب شبحاً يظهر لشخصيات المسلسل ويجادلهم ويحدثهم بشحمه ولحمه، فعمد هنا إلى إظهار أبي عدنان الشبح الذي يهبط كالوحي على زوجته في لحظات الحيرة والأزمات وعلى حفيده المتحرق إلى الزواج ممن يحب منتظرا عودته!

لقد كتب فؤاد شربجي بيت أهلي، وهو يحلم باستعادة أمجاد مسلسل (أبو كامل) قبل ثلاثين عاماً، تلك الأمجاد التي صنعتها ملاسنات زاهي أفندي وصالحة، إلى الدرجة التي دفعت بالفنان عبد الفتاح المزين إلى ترشيح نفسه لانتخابات مجلس الشعب واضعاً في لافتاته الانتخابية عبارة (انتخبوا زاهي أفندي) قبل أن يصحو على سقوطه  في الاختيارات الأمنية لأعضاء هذا المجلس هو وزاهي أفندي معاً… وصنعت أمجاد أبو كامل حبكة درامية كان يتقن المخرج علاء الدين كوكش ضبطها وشحنها بالدلالات أحياناً، إلى جانب المعارك التي أثيرت حوله وحول إساءاته إلى البيئة الشامية التي أثارت النخب الدمشقية ودفعت بفؤاد شربجي ليقول في حوار في صحيفة الثورة مستجدياً: “لو أسأت لدمشق لانتحرت”… لكن مسلسل (بيت أهلي) جاء في زمن غير الزمن، وفي وسط لم يعد يعبأ بتلك اللوازم الدرامية القديمة ولا بشهوة الكاتب لاستعادتها والاستثمار فيها مرة أخرى!

لم يقدم (بيت أهلي) أي جديد لا على صعيد قراءة التاريخ السوري المعاصر، ولا على صعيد مسلسلات البيئة الشامية التي باتت محكومة بالسماجة والاجترار والافتعال الدرامي والأدائي… فهو مازال يتوه بين حدث اغتيال عبد الرحمن الشهنبدر وتداعياته والقبض على الجناة ومسار التحقيق دون أن يغني ذلك بأي إضاءة أو رؤية درامية تستحق التوقف والتأمل، خارج فكرة أن الفرنسيين استغلوا هذا الحدث للتنكيل بزعماء الكتلة الوطنية المناوئين للانتداب… وهو أمر بات معروفا ومكتوبا ومنشورا مئات المرات في مئات الكتب والمراجع والمقالات… وبين بيئة شعبية يصنعها حول هذا الحدث، يشكلها من شخصيات رجالية مهزوزة ومثيرة للاشمئزاز، وشخصيات نسائية فاجرة ومتسلطة ومثيرة للنفور، وما بينهما حكايات عن مجاذيب ودراويش لا يقلون سماجة من قبيل برهوم الذي يؤديه وائل زيدان وشخصية أندريه سكاف، التي ما تفتأ تكرر: “الله يحمي الشام وأهل الشام” وكأنها تتطير شرا مما تخبأه لها ثورات الربيع العربي ولحكامها المجرمين القتلة الطغاة، الذين يناصرهم فؤاد شربجي حتى العظم ويسميهم “الدولة السورية”!

إفلاس واضح في الحبكة، وبطئ قاتل في سير الأحداث مقابل الاستغراق في مشاهد المشاجرات والردح النسائي، ومشاهد غراميات رومانسية ساذجة حيناً، وتعريصية حينا آخر، يباركها مكر فرنسي مفضوح يلعب بهؤلاء الرجال المهزوزين الذين يسهل استغباؤهم وامتطاؤهم، والذين يظهر أمامهم أعضاء مجلس الشعب في عهد الأسد من حثالة المصفقين والمرتزقة، أساتذة في رجاحة العقل والتوازن السياسي والإنساني!

وأمام هذه الحال الدرامية البائسة مضافاً إليها انفلات الممثلين في أدائهم الرداح حيث تتربع صفاء سلطان على القمة التي لا تحسد عليها، أو في سماجتهم المفرطة التي يمكن أن نجد في أداء أيمن زيدان مثالاً معبراً عنها وشارحاً لتقنياتها، لا يجد المخرج تامر مروان اسحاق سوى جماليات التصوير يحاول أن يشغل بها نفسه، مستعرضا تفاصيل البيوت الدمشقية الباذخة بجمالية لم تعد جديدة أو استثنائية، مادام لا يستطيع أن يغير حرفاً في نص فؤاد شربجي، أو يعترض على خط أو شخصية أو مسار من مسارات دراما هذا العمل المفلس. المفلس بجدارة. 

زر الذهاب إلى الأعلى