أرشيف المجلة الشهرية

إدلب في سيرة التاريخ والأصدقاء

بقلم: حمزة رستناوي

عندما أنهيت اختصاصي كطبيب أعصاب 2004 وعدت إلى مسقط رأسي في بلدة مورك – محافظة حماة، وقع اختياري على مدينة خان شيخون – محافظة إدلب القريبة لكي أفتح عيادة وأبدأ حياتي المهنية. خلال السنوات السابقة كنتُ على صلة بالوسط الثقافي  في الرقة ودمشق وإلى حد ما في حلب بحكم خدمتي العسكرية فيها، ولم يكن لدي معرفة بمثقفيها، أو تصور مُسبق عنها  باستثناء صور نمطية شائعة عن المحافظة: إدلب الخضراء مدينة الزيتون، إدلب التي لا تحبُّ حافظ الأسد والتي قام بتهميشها بعد أن استقبلته برمي الأحذية في مطلع السبعينات، وكذلك بعض النكت التي يتداولها زملاء من أهل المدينة نفسها عن المثلية الجنسية بين الذكور، وأرجو من القارئ الكريم أن يعذرني على صراحتي في الإشارة إلى هذه النقطة.

***

 أهداني أحد الأصدقاء رواية (عائلة الحاج مبارك) للروائي الراحل، وعندما انتهيت من قراءتها شعرتُ بأنني أمام عمل  مدهش يختزل تاريخ القهر الانساني وطموحات السلطة في بيئة تُشبهنا. تمت الإشارة إلى عنوان الكاتب ورقم هاتفه  للتواصل في الصفحة الأخيرة للرواية،  ذاكرا أنه يعيش في مدينة كفرنبل المجاورة لخان شيخون. اتصلت بعبد العزيز الموسى وعرّفته على نفسي، وتناقشنا حول الرواية، أخبرني أنه تعرّض لكسر في فخذه عقب حادث سير، وأنه لا يستطيع الخروج ودعاني لزيارته. ركبتُ السيارة برفقة صديقي حسن الحجي واتجهت الى كفرنبل، وصلتُ إلى الحي الذي يسكنُ فيه، ولكنّي لم أستطع معرفة موقع البيت بالضبط، سألتُ أكثر من شخص عابر عن منزل عبد العزيز الموسى الروائي ومدرس الفلسفة وكانت إجاباتهم لا نعرفه! وأخيرا سألنا أحدهم هل تقصد عبد العزيز الشاكر الرجل الذي يشتغل في ضمان البطيخ الأصفر؟ قلت له لا أدري.

النقطة التي توقفتُ عندها هنا هي هامشية الثقافة وعدم تقدير المُجتمعات السورية خلال الحقبة الأسدية لمُبدعيها، خاصة أن عبد العزيز الموسى قد فاز بالمرتبة الثانية مؤخرا بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية، ولم  تنشر الجرائد السورية الثلاث الكبرى آنذاك أي خبر بخصوص ذلك. تكررت سهراتنا في منزله وتعرفتُ على مجموعة من الأدباء والمثقفين السوريين الرائعين وغير المعروفين كثيرا خارج محافظة إدلب. أتذكر في سهرة كنا جالسين في بيت عبد ودخل علينا رجل طويل القامة أشقر باسم المحيا وسلّم علينا وجلس، خاطبني وبعض الاصدقاء الذين كانوا برفقتي من حمص: الشاعر طالب هماش، والشاعر عباس حيروقة، والناقد هايل الطالب، والصحفي سلام مراد، هل تعرفونني؟!  قلنا له: لا. قال لنا أنا الشعب السوري يعرفني فأنا مشهور، وغالبا أنتم قد شاهدتموني على التلفزيون، هل تتابعون برنامج (سوريا اليوم)؟! عند ذلك تذكرت صورة الرجل، وقلت له أنت المذيع أحمد زعتور! قال نعم ، وأضاف غالب السوريين يعرفونني! فهم يسبّون الدين أو يغلقون التلفاز عندما أبدأ مُقدمتي مشيدا بسوريا اليوم وإنجازات سوريا الأسد! بعد ذلك أحببته بمقدار كرهي لبرنامج (سوريا اليوم)، فهو مثقف سارد لقصص التاريخ مع سخرية تهكمية يشمل بها نفسه قبل الآخرين!

لاحقا تعرفتُ إلى الشاعر ماجد الأسود والشاعر عبد الرحمن الابراهيم (شاعر الكحل) والشاعر محمد الشيخ علي، والصحفي غريب الرجب  والقاص أحمد جدعان الشايب وأحيانا القاص المرحوم تاج الدين الموسى.. وكثير غيرهم. شخصيات متمردة على الاستبداد السياسي والاجتماعي ولكنها مُحبة لمُجتمعاتها. كانت جلساتنا الدوريّة بمثابة نشاطات ومراكز ثقافية بديلة عن المراكز الثقافية الحكومية المُصممة على مَقاس ومُتطلبات سلطة مستبدة  اختزلت سوريا بالأسدية وصادرت مُستقبل السوريين في مقولة (الأسدية إلى الأبد) كنّا نقرأ قصائدنا وقصصنا الجديدة ونتناقش في أحوال الأدب والسياسة بحضور ليس كبيراً، ولكنه نوعي ومُهتم  وفي أحيان كثيرة بأصدقاء وأدباء ضيوف من خارج المحافظة.. في منازلنا أو في مزرعة الصديق ضياء عبد الحافظ في قرية معرشورين.

***

في صيف 200 دعاني أحد الأصدقاء لكي ألقي محاضرة في المركز الثقافي بمعرة النعمان تاركا لي اختيار موضوعها، فقدمتُ مُحاضرة بعنوان (المنظومة المعرفية للمعتزلة) وهم فرقة إسلامية منقرضة قدمت في عصرها منظورا مُختلفا في علم الكلام الإسلامي،  توقعتُ أن هكذا مواضيع ليست شعبية وينحصر الاهتمام بها ضمن النخبة القارئة والمثقفة، حاولت الإضاءة على تجربتهم من خلال عرض، يحاول أن يكون موضوعيا وبلغة هادئة. وللمفارقة تفاجأتُ بحضور كثيف على غير عادة الأمسيات الثقافية، كان يتقدمهم ثلاثة من رجال الدين الذين لا أعرفهم، حالما انتهيتُ من المُحاضرة وقام مدير المركز الثقافي بفتح باب الأسئلة والمُداخلات على أن لا تتجاوز 3 دقائق، قام أحد رجال الدين وألقى خطبة حمد الله سبحانه وتعالى فيها لمدة 3 دقائق قبل أن يُتحفنا بخطبة عصماء  في تبيان أنّ المُعتزلة من الفرق الضالة التي حذرنا منها النبي الكريم، وتساءل عن سبب وتوقيت عرض هذه المحاضرة؟! طلبَ منه مدير الندوة الاختصار فتجاهل طلبه، بعد ذلك قام رجل دين آخر بإلقاء خطبة ناريّة أخرى، قاطعتهُ قائلا: يا شيخ نحن هنا في ندوة حوارية، ولسنا في خطبة صلاة الجمعة، من فضلك اطرح سؤالاً مُحدّداً لنتحاور ونتناقش.. بعد ذلك عمّت الفوضى وتعذّر استمرار الحوار، وخرجتُ سالما مُعافى برفقة بعض الأصدقاء. في اليوم التالي زارني مندوبو المفارز الأمنية الثلاث  في العيادة مُستفسرين عن الحادث وللأمانة كان أسلوبهم مُهذب، بعد ذلك أطلعني أخبرني الصديق المرحوم نهاد اليوسف (استشهد مع زوجته وأولاده في مجزرة  الكيماوي لاحقا في خان شيخون 2017) أن مدير الثقافة أعلمهم بقائمة من الكتاب الذين يُحظر استضافتهم في المراكز الثقافي لكونهم يروجون للمُجتمع المدني!

ما ذكرتهُ هنا يطرح إشكالية حضور نمطين من ثقافة القصور في المجتمعات السورية خلال الحقبة الأسدية، الثقافة الرسمية البعثية التي يتم فرضها بأدوات السلطة مع رفض شعبي لها، وثقافة القصور الاجتماعي التي تستمدّ تعبيراتها من مؤسسات المجتمع الأهلي بشقه العائلي-العشائري وشقه الديني-التقليدي.  كانت مُجتمعات المثقفين السوريين الرافضين لأنماط الاستبداد السياسي- الاجتماعي- الديني هامشية الحضور والتأثير لأسباب مُختلفة ذاتية ومُوضوعية، كانت أشبه بصداقات وجماعات نخبوية تبحث لنفسها عن ملاذ آمن يعترف بها، وبما قد يُعينها على الكتابة ربّما. كانت أجندة السلطة تقوم على تعزيز صراع (إسلامي- علماني) تكون فيه هي بمثابة المُتفرج والحَكم، بدلا من حضور صراع مجتمعي  ضدها يتساءل عن مشروعية الحُكم والسلطة.

***

من العبارات الشائعة والمُتداولة “إدلب مدينة مُهمّشة من قبل الحكومة المركزية”، شخصيا أجد أن هذه المقولة غير دقيقة، فكثيرا ما يتداول السوريون على اختلاف انتماءاتهم المناطقية هكذا عبارات، وكثيرا ما سمعتُ مقولات مشابهة من أبناء محافظات الرقة ودير الزور والحسكة وكذلك نفس المقولات نسمعها من أبناء محافظة السويداء ومدينة حماة ومدينة القنيطرة غيرها! عمليّا كان التهميش لغالب الشعب السوري، وكان الباب مفتوحا لمن يثبتون ولاءهم للسلطة من كل المُحافظات، بالمقابل يمكن الحديث عن تمييز ضد السوريين من غير عائلة الأسد، وتميز طائفي  ضد السوريين من غير العلويين أو تمييز قومي ضد السوريين الكرد بشكل أكثر موثوقية. بالعودة لحال مُحافظة إدلب، كثير من الشخصيات الثقافية الفاعلة، وذات الحضور في الحقبة الأسدية كانوا من أبناء محافظة إدلب والذين يقيم أغلبهم في دمشق.

***

مع نهاية التسعينات و بداية الألفية الثالثة بدأت معالم تغيير اجتماعي مهم في المجتمعات الريفية في ادلب يتمثل في انتشار المد الديني السلفي/ المحافظ، وسأضرب مثالين على ذلك من واقع مُعايشتي لتلك المرحلة: معظم  الأعراس تحولت الى موالد واحتفالات دينية كبديل عن الشكل التقليدي للعرس حيث يحضر مطرب شعبي أو غناء عادي. أمّا الظاهرة الثانية فهي بداية انتشار النقاب بين النساء، حيث بدأت هذه الظاهرة مع النساء العائدات من السعودية برفقة أزواجهن والانتشار الكثيف للدعاة على الفضائيات الدينية، لم تكن ظاهرة النقاب موجودة مطلقا في الريف الأدلبي والحموي كذلك، وكانت العلاقة بين الرجال والنساء تتسم بالعفوية كأي مجتمع ريفي زراعي  بسيط، ولكن شيئا فشيئا بدأت علامات التشدد الديني في الانتشار، بالطبع يوجد أسباب مركبة ومتداخلة لهذه الظاهرة، فهي لا تخص محافظة إدلب أو حتى سوريا، بل هي شاملة للعالم العربي فيما أطلق عليه اسم (الصحوة الاسلامية) ولكنها كانت مؤشرا مهما في إمكانات الحال السوري آنذاك.

***

رغم أن محافظة إدلب من أصغر المحافظات السورية مساحة، ولكنها من أغناها من جهة الإرث الحضاري التاريخي المُمتد منذ عصر مملكة إيبلا في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد وحتى الحقبة العثمانية ممثلة في خان مراد باشا (متحف معرة النعمان)، حيث يقدر أن ثلث المواقع الأثرية في سوريا موجودة في محافظة إدلب وبما يزيد عن 700 موقع أثري مُسجل بالإضافة 200 تل أثري. عندما كان يزورني أصدقاء من خارج المُحافظة كنت حريصا على اصطحابهم في جولة سياحية ثقافية أثرية ترفيهية، تبدأ بتناول الفطور في منزل الصديق الشاعر ماجد الأسود وهو يُسمعنا جديده الشعري بفواصل من النكت الساخرة التي يُجيد روايتها، ومن ثم نتجهُ لزيارة قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز في قرية دير شرقي، ونتساءل هنا كيف لخليفة المسلمين أن يُدفن في دير مسيحي وفي ذلك قصة وعبرة عن العلاقة الودية التي كانت بين عمر بن عبد العزيز والراهب سمعان بما قد لا يتسع المجال لروايتها هنا، وللمفارقة تم هدم وتخريب الضريح من قبل المليشيات الشيعية 2020عقب دخول جيش النظام الأسدي إليها. بعد قراءة الفاتحة أو أبيات من الشعر الصوفي على ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز كنّا نتابع مسيرتنا باتجاه متحف معرة النعمان، حيث يوجد أكبر معرض للوحات الفسيفساء في الشرق الأوسط، لوحات  جدارية عملاقة تعود للحقبة الرومانية، وليس بعيداً عن المتحف يقع قبر الشاعر أبو العلاء المعري في المركز الثقافي، وقد أقيمت احتفالية بمناسبة مرور ألف عام على ميلاده عندما نظم المجمع العلمي العربي 1963 بحضور طه حسين وشكري القوتلي وبدوي الجبل وغيرهم، واستمر إيقاع  هذا المهرجان لما قبل اندلاع الثورة السورية، لقد كان تقليدا سنويّا وحدثا ثقافيا مُحببا حيث لعب  الصديق الشاعر ياسر الأطرش دورا مهما في تنظيمه.

 بعد ذلك كنّا نتجه لمدينة كفرنبل في جبل الزاوية قاصدين منزل الروائي عبد العزيز الموسى وهو يجلس تحت شجرة التين ليحدثنا حديثا يتداخل فيه التاريخ بالفلسفة بالأدب. كنتُ أصغي له ولا أرغب بالحديث فالاستماع لحديث عبد العزيز الموسى هو متعة بحد ذاته، كان الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم نديمنا في هذه الجلسات.. وغالبا ما ينتهي بنا المطاف إلى آثار البارة القريبة في جبل الزاوية (مدينة كابر وبيرا الرومانية) حيث يزدحم التاريخ بعشرة مواقع أثرية مسجلة في قائمة التراث العالمي من باعودا إلى ربيعة وشنشراح وليس انتهاء بسيرجيلا (سراج الله) حيث تتناثر الأضرحة الحجرية الضخمة  والمدافن الهرمية فوق سطح الأرض تحرسها ثلاث كنائس تصارع عاديات الزمن، وأقبية معاصر الزيتون وإلى جوار بقايا أعمدة تزينها نقوش لآلهة الخمر (باخوس)، كان من عادة الصديق عبد الرحمن الإبراهيم إلقاء الشعر من على منبر الأسوار الأثرية، مُخاطبا الأحياء منا ومستنهضاً عظام الأموات التي يعيد تشكيلها  في صيغة مكاحل تشتهيها أناقة النساء.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى