فنون وآداب

مسلسل (ولاد بديعة): دراما الافتراء والإسراف في العنف وإخراج بلا وعي!

العربي القديم – محمد منصور

للوهلة الأولى، يبدو الكاتبان يامن الحجلي وعلي وجيه، وكأنهما يطوفان في نصوص المسلسلات التي يكتبانها على الواقع السوري  لشرائح فقيرة أو مهمشة أو تعيش أجواء مهنية خاصة، فتارة يذهبان إلى من ينبشون القمامة في مسلسل (على صفيح ساخن) الذي أخرجه سيف السبيعي ليعاينان واقع من يعتاشون على لم القمامة وفرزها وبيعها، وأخرى يدخلون سوق الهال ليرصدوا صراعات الخضرجية والفاكهانية في مسلسل (مال القبان) مع المخرج ذاته، وثالثة يلجون مهنة دباغة الجلود، أو ما كان يعرف بالدباغات… وهي مهنة اتخذت من ريف دمشق مكاناً لها، ونازعت فلاحي الغوطة على مواردهم المائية على بردى، أيام كان يجري بسخاء ليسقي الضرع والزرع.

غلاف مهني لدراما مستعارة!

إلا أن المتأمل لواقع ما ينجزه هذان الكاتبان، يكتشف أن ما يقدمانه ليس هدفه تسليط الضوء على الواقع الاجتماعي الرث لهذه الشرائح، ولا النفاذ من خلالها نحو سبر أغوار المجتمع أو تشريح أزماته، فالأجواء المهنية ما هي إلا ديكور خارجي للحكاية، مجرد بحث عن زاوية غريبة وغير مستهلكة وغير مطروقة من أجل تغليف دراما العمل بغلاف مهني يقود المشاهد إلى شيء من المعرفة عن القواعد العامة لهذا الوسط المهني أو ذاك، ولا يخلو من عبارات تدل على أن الكاتبان قد بحثا واطلعا وجاءا إلينا ببعض هذه المعرفة، من قبيل أن ” المي روح المصلحة” والدباغ لا يمكن أن يستغني عنها، وأن الدولة سابقاً فكرت في إنشاء مضخة لتكرير المياه والتخلص من شكوى المزراعين بتلويث الدباغين لمياه النهر بمواد معالجة الجلود ودباغتها، لكن المشروع لم ينفذ… إلخ.  

لكن خلف هذه المعلومات العامة والبسيطة عن خصوصية المهنة، ثمة انصراف كلي عن معالجة الواقع الحقيقي لها، وثمة غوص في صراعات مفتعلة مستعارة من إرث الدراما المصرية، لا علاقة لها بالواقع السوري، ويمكن اتخاذ مسلسل (ولاد بديعة) كمثال على مدى سطحية وابتذال نصوص الثنائي الحجلي ووجيه، وبعدها الكلي عن الواقع الاجتماعي السوري، بل وتشويهه، ومحاولة جعله مادة للإثارة الدرامية التي تتوسل أساليب رخيصة مثل العنف والقتل والاغتصاب والخلاعة الكباريهاتية الماجنة، التي رغم أننا لا ننكر وجودها في سورية بالطبع، إلا أن التعامل معها كانعكاس لواقع اجتماعي له تقاليده المهنية الراسخة كما هو الحال في مصر، يبدو بعيدا عن الواقع في جوهره لا في مظهره. فلم تنتج سورية في كل تاريخها المعاصر نجمة في الرقص من وزن تحية كاريوكا أو نجوى فؤاد أو سهير زكي أو دينا أو فيفي عبده أو سواهن ممن أصبحن نجوم مجتمع وتعبير عن ثقافة سائدة… من منا يعرف مثلا شكل الراقصة ريم الخيام التي كان يرد اسمها في إعلانات الكازينوهات الطرقية أو التلفزيونية، أو يتذكر أن الممثلة إغراء نجمة السينما التجارية في السبعينات والثمانينات بدأت حياتها بثنائي راقص في الملاهي الليلية مع شقيقتها باسم (فتنة وإغراء)، وأن الممثلة السوقية الأداء غادة بشور كانت راقصة قبل أن تحترف التمثيل؟! أمثال هذه النماذج المحدودة الوجود والأثر، لا يمكن أن تشكل مادة لدراما تشرح واقع المجتمع، إلا إذا كانت الدافع وراء نبش هذه النماذج، والمزج بين مهنة الرقص الشرقي والدعارة، تقديم ودجبة درامية مثيرة بالمواصفات التجارية في وسط درامي سوري فقد عقله وبات يتحكم فيه منتجون أميون أو شبه أميين، ومخرجون عديمو الثقافة، ينبهرون بمثل هذه الأشياء ويظنون في لحظة إلهام ساذجة أنهم يسبرون أغوار المجتمع، ويحللون ظواهره بصدق وأمانة، مع كتاب شباب جريئين يلجون مناطق محرمة لم يسبقهم إليها أحد! 

قصة مفبركة بلا خصوصية اجتماعية

إذا حاولنا أن ندخل نسيج الدراما في (ولاد بديعة)  بعيداً عن الإطار المهني الخارجي المستعار، سنجد أنفسنا أمام حكاية تجمع كل توابل الدراما التجارية الرخيصة: حب وعنف وحمل غير شرعي وأولاد يرفض الأب الثري (المعلم) الاعتراف بنبوتهم ثم صراع على الميراث مع ابن معترف بنسبه، لكن يوصف على سبيل الهجاء بأنه “دلوع الماما” وسوى ذلك من التوابل التي استهلكتها الدراما المصرية في عشرات بل مئات الإفلام، منذ زمن الأبيض والأسود حتى اليوم!

 لاخصوصة اجتماعية في هذه القصة المفبركة من مخيلة متأثرة بالدراما المصرية والهندية وسطوة صراعات القتل والدم، فالنموذج الاجتماعي الحقيقي المرسوم بريشة مغمسة بالمعرفة بالواقع أو المنتمية له يظهر بوضوح على الشاشة، مثلما يظهر النموذج الزائف المركب المستعار، المنكّه بتوابل مصرية تارة وهندية تارة أخرى!

وقد يقول قائل أن كل القصص الدرامية هي مفبركة لأن الكاتب غير ملزم فيها بمرجعية تاريخية أو توثيقية ولكنه يصنع نماذجه من خياله… وهذا صحيح، يصنعها من أجل أن يقنعنا أنها تعبر عن شخصيات حقيقية تشبهنا، وهو ينجح في إقناعنا عندما يبلغ مرحلة الصدق الفني، فلا يبقى أثر الصنعة أو (الفابريكا) ظاهراً على شخصياته بمصادرها وأصولها المستنسخة من هنا وهناك.

ثمة انفلات حقيقي في (ولاد بديعة) من معايير الذوق والشرف والنبل الاجتماعي، مقابل حضور للقذارة والعنف والإجرام والنماذج الشاذة والعقد النفسية، بحيث يندر أن ترى في هذا العمل شخصية متوازنة وإيجابية.

مجتمع يبدع ثقافة التعذيب!

بالطبع سيصرخ صناع العمل في منابر الكذب والترويج وذر الرماد في العيون: وهل تريدوننا أن نقدم مجتمعا فاضلا كل أبنائه من الملائكة؟ بالطبع لا… ولكن نريد صورة مجتمع حقيقي، لا مجتمع مركب ومستعار  ومفبرك. صورة أناس فيهم الشرير والشرس والسافل والمريض، وفيهم المتوازن والخير والنبيل. مجتمع لا يتعامل مع بعضه كالوحوش… فيضرب ويعتدي ويخطف ويترك أبنائه يتبولون على الضحية ويصورها بالفيديو كي يهددها بالفضيحة، أو ينتزع الاعترافات تحت ضغط التعذيب الفردي والإدخال إلى آلة معالجة الجلود، أو يشنق القطط على سور ملعب كي يجلس ويتلذذ برسمها… وكأنه لا ينقص السوريين ثقافة التعذيب التي ينتهجها النظام الحاكم في سجونه ومعتقلاته وأفرع مخابراته، والتي جعلته يحوز مراتب متقدمة عالمياً، كي تأتي الدراما فتجعلها جزءا من ثقافة اجتماعية سائدة في وسط مهني ما… وبالطبع لابد أن ينتمي هذا الوسط المهني لدمشق، المدينة المستباحة ماضياً وحاضراً والمهدور دمها والمداسة قيمها على خارطة الدراما السورية، باعتبارها تمثل الصورة العامة التي لا يمكن الاعتراض على مرجعياتها الاجتماعية لأنها ملك الجميع بمن فيهم من يكرهونها!

وبالطبع ليست المشكلة أنهم يستهدفون دمشق، فالاستهداف الحقيقي هو للمجتمع السوري برمته، ولصناعة هذه الدراما التي آلت إلى أيدي الجهلة والأميين ومسطحي الفكر وعيدمي الثقافة، والمنبهرين بمثل هذه النصوص التجارية الرديئة، التي لا تجد من يقرأها بعين متبصرة ترى ما خلف تسارع الأحداث وبناء الشخصيات، وإيفيهات الطرافة أو السماجة التي عندما ستنتشر في الشارع، سيدرك القائمون على هذه الأعمال كم باتت منتشرة ومؤثرة!

إخراج بلا وعي درامي! 

ليس حال رشا شربتجي إزاء هذه الدراما بأفضل من حال كتابها، فهذه المخرجة التي تقدم براعة في الأداء وإدارة الكاميرا، وقدرة على تحقيق مشاهد العنف، وحرصاً على الإيقاع بلاشك، تقتفر للكثير من الدراية الدرامية في التمييز بين الغث والثمين. وقد تابعت لها العام الماضي ثلاثة أجزاء دفعة واحدة من مسلسل بيئة شامية بعنوان (حارة القبة) فوجدت فيها مثالا للغباء الإخراجي في قراءة نص مفبرك، مسموم، كل مصيبة فيه تلد وراءها مصيبة أخرى، ثم ينتهي كل هذا الشد والتوتر والصراع المحموم إلى عبث درامي لا يضيء واقعاً ولا يحاكي زمنا أو فترة تاريخية، ولا يرصد تحولات اجتماعية… مجموعة من الحكايات والخطوط القائمة على المكر والسذاجة والتورط والهبل والتي تسرق من الحارة روحها وهناءها ومعنى الشدة والفرج في حياتها المعاشة… تقوم رشا شربتجي بإخراج ثلاثة أجزاء منه دون أن تدرك أنها كمن يحرث في البحر!

في (ولاد بديعة) تشتغل رشا شربتجي على كل عناصر الإثارة متجردة من السعي الحقيقي لملامسة الواقع ومحاكاة مشكلاته الحقيقية وأزماته، ومحاكاة  الواقع السوري في هذا المسلسل مهمة مستحيلة بالطبع، لأنه فاقد الشيء في النص، لا يمكن أن يعطيه في الإخراج.

لكن رشا شربتجي بكل الخفة الدرامية تنساق وراء لعبة العنف المؤذي والمقزز بلا أي إحساس بالمسؤولية، فمشاهد القتل والدم والشجارات والاختطاف والتعذيب السادي لا تكاد تخلو منها حلقة من حلقات هذا العمل الذي يفبرك واقعاً مستعاراً ومجمعاً من هنا وهناك، يستثمر في أمراض شخصياته وأزماتهم كما يحلو له. نحن أمام مبغى كبير تمارس فيه كل الموبقات التي تهدر كرامة الإنسان السوري، في ظل غياب تام للسلطة إلا فيما ندر.

من يهدر كرامة الإنسان السوري هو السوري نفسه، ابن المجتمع الساقط لا ابن السلطة التي كل همها أن تحميه من شر نفسه. السلطة بريئة جداً، لا تكاد تظهر إلا في حالات الجرائم القانونية كالاتجار بالعملة الصعبة أو التطرف الذي يستدعي حضور أجهزة الأمن بناء على تقرير، حتى لو بدا كيدياً، لكنه بالنسبة للساهرين على أمن هذا الوطن لا يجوز إهماله.

ليس الإخراج توزيع أدوار على ممثلين واستطلاع أماكن تصوير مناسبة وإدارة كاميرا لا تخلو لقطاتها من جمالية وإدهاش وإثارة بصرية تصنعها لقطات علوية واسعة… هذا جزء من الإخراج، جزء شبهه يوسف شاهين ذات مرة بعمل شرطي السير، الذي يقول لهذا امش، ولذاك قف، ويفتح طريقاً هنا، ويغلق طريقاً هناك. أما جوهر الإخراج الحقيقي فهو الوعي. الوعي بدراما العمل ودلالات الصورة، وإلى أين تريد أن تصل بنا وليس الاستغراق في تتبع خطوط الحكاية دراميا وحسب، وهذا بالطبع يبقى غائبا عن رشا شربتجي في (ولاد بديعة) مهما بذلت من جهود في تصوير مشاهد عنف ونزف دماء وتهشيم وجوه وتكسير أسنان تضاهي العنف الهوليووودي… إذ يبقى هذا الوعي غائبا لدرجة أن رشا شربتجي صرحت ردا على إنتقادات مشهد شنق القطط، بأن القطط لم تصب بأذى أثناء التصوير… متجاهلة أن الفن ليس أن تصيب القطط بأذى أو لا تصيب، هذه مسألة تقنية بحتة وصاحب الصنعة ليس معنيا بشرح تقنيته أو الدفاع عنها، الفن هو الإيحاء البصري الذي يتركه على الشاشة وفي نفس المتلقي وفي قلب الدراما. وبلا شك كان الإيحاء البصري مؤذيا للغاية، ومشرعنا للعنف بشكل مجاني… فهل بمثل هذا الوعي تصنع الدراما؟!

إخفاء ملامح وإوجاع الناس

(ولاد بديعة) باختصار، تعبير حقيقي عن المدى الذي بلغته الدراما التلفزيونية السورية في تشويه الواقع وفبركته وتجميعه نماذجه من الشرق والغرب، من أجل إخفاء ملامح الناس وأوجاعهم الحقيقية في هذا الواقع المشغول بقضايا أخرى بعيدة عن البعد عن هذه الصراعات وهذا الهراء… المدى الذي يغيب فيه أي شعور بالذنب ليس داخل شخصيات العمل الدرامية، التي تنجرف وراء العنف والجريمة والتهتك مسكونة بأمراضها وهوسها وسخفها وحسب، بل داخل وعي صناع هذه الدراما الغائب عن المحاكمة النقدية والشعور بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية أيضا تجاه دور الفن ومعناه.

قيل الكثير من التأويلات السياسية الجاهزة حول أن (ولاد بديعة) هل يمكن أن يكونوا هم  (ولاد أنيسة) لكن برأيي أن (ولاد بديعة) هم أولاد هذا الفن المشوه والرديء وصناعه. الفن الذي يشعر السوريون يوما بعد يوم كم هو بعيد عن همومهم وآلامهم الحقيقية، وكم هو معاد لجوهر وجودهم الإنساني.    

‫3 تعليقات

  1. بصراحة ارى انه مدفوعا لك للقيام بهكذا نقد غير موضوعي وايضا عن قصد موجه …. ربما من منتجي الدراما المصرية او اي دراما أخرى … فهذا هجوم واصح مبرمج وليس له اساس مقبول .

    ليس من مهمة الدراما وضع حلول للمجتمع … الحلول بيد ممثلي المجتمع والبنية الفوقية … والسياسية .. والدينية الخ
    الدراما مهمتها تسليط ضوء بدون كذب ونفاق وتورية وتعميه وغش لمجرد اننا نختبئ خلف مسلمات وتقاليد قد تكون غير قائمة حاليا بعد حرب ١٣ عاما ..
    عالعموم الممثلين والمخرجين والمنتجين لهم باع طويل في عالم الفن لن يكسره رأي خارح السرب وقد يكون عن سابق نية وترصد

    1. هداك الله هو يحذر أنّ الدراما السورية تنحدر لتشابه المصرية وأنت تتحدث عن مؤامرة من منتجي الدراما المصرية!
      ياسيدي كل إنسان في هذه الدنيا مهمته الإصلاح والمساعدة في الإصلاح، إن لم يصلح من يدعي الثقافة والمعرفة والوعي وتلاعب بكاميرته نحو زوايا قاتمة دون وضع حلول أو نقض صريح وتصغير ولعن لمن ساهم ولو بشعرة في صنع هذه الظلام أو يعين على إستمراره فهو لايفرق بشعرة عن عاهرة تتاجر بمشاعرها وجسدها لأجل المال وفقط المال.

  2. من قرأ رواية )عكازات العتمة( للدكتور احمد حسون يعتقد بسهولة ان المسلسل مقتبس بكل وضوح من هذه الرواية وخصوصا الشخصيات والاماكن والعديد من التفاصيل والأحداث خصوصا فيما يتعلق بالمباريات وعالمه وزبائنه.
    ومع أن الحسون ابدع في تصوير هذا الجانب الصغير جدا من دمشق إلا أنه ربطه بالمشهد الكبير في العاصمة والدولة ومؤسسات الحكم وشخصيات الدولة العامة وأوضح سببه وأصله وفصله إلا أنه جاء في المسلسل مشوها ومبتذلا إلى حد ما ربما بسبب الممثلين الذين أفوروا في الأداء أو أن الحبكة ركزت على السياق الاثارة على حساب الفكرة والعبرة.
    أيضا الشخصيات في المسلسل بدت وكانها هبطت من الفضاء بلا تاريخ أو خلفية وكانها مقحمة بالمعهد الاجتماعي السوري وطارئة عليه فيما كانت في الرواية آخذة حقها في التأصيل والنبش في الماضي والبدايات كما جاءت نهاياتها عبقرية وفريدة من نوعها..
    ملاحظات كثيرة من المقارنة بين عكازات العتمة وأولاد بديعة لا يسعها مقام التعليق هذا وربما يتسنى لي كتابتها في منشور خاص في فيسبوك
    رمضان كريم عليكم.

زر الذهاب إلى الأعلى