سلقين التي صنعت نفسها
غزوان قرنفل – العربي القديم
قال لي صديقي التركي المقيم في مرسين منذ عقود، وهو بالأصل من قرى ولاية أنطاكية (هاتاي) المحاذية للحدود السورية: أنا ابن قرية متواضعة فقيرة حد الإدقاع، كنا في قريتنا ننظر بحسد كل مساء، نحو مدينة سلقين المقابلة المتلألئة بأنوار الكهرباء، ونحن قابعون في بيوتنا المتهالكة، ندرس ونكتب واجباتنا على ضوء الكاز، حيث لا كهرباء لدينا، ولا طرقات معبدة ونمشي كيلومترات عديدة؛ لنصل إلى مدارسنا، بينما سلقين قبالتنا لم تكتفِ بما لديها من مدارس، بل تفتتح داراً للسينما أيضا!
كان ذلك أوائل الستينيات من القرن الماضي، وكان افتتاح دار للسينما في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها آنذاك ثلاثين ألفاً يمثل فتحاً عظيماً، ويشي بسوية ثقافية وتعليمية مميزة تسم مجتمعها الصغير المتآلف.. واستطرد صديقي قائلاً: لطالما عبرت نهر العاصي، وتوجهت إلى سلقين؛ لحضور فيلم سينمائي مرات عدة، وأحياناً كل شهر، وقد بهرتني بتطورها، وانفتاح أهلها وثرائهم.
طفولتي السينمائية
قلت لمحدثي: أنا الابن الأصغر لصاحب تلك السينما، وقد عشت طفولتي كلها بين صفوف مقاعدها متنقلاً من فيلم إلى آخر، حيث قيّض لي حقاً مشاهدة مئات الأفلام العربية والسورية – اللبنانية والغربية، شكلت كلها بعضاً من ثقافتي المتواضعة.
سلقين مدينة صغيرة هادئة تتربع على بضع هضاب تتدرج في انحدارها، نحو وادٍ كثيف الأشجار، وتتوضع على ضفتيه مساحات من البساتين، وكروم الزيتون على مد الرؤية والبصر وصولاً إلى الأراضي التركية، وكان بيتنا ينتصب على جرف يحد هذا الوادي، ويشرف على تلك المساحات الخضراء الشاسعة؛ لتشاهد بالعين المجردة في الأفق بضع قرى تركية، أبرزها وأكبرها قرية (التنوز) المقابلة.
هذه المدينة المتواضعة تتميز بثراء أهلها، وانفتاحهم على مختلف الثقافات والانتماءات السياسية. لم تنتظر الحكومة؛ لتحصل على الكهرباء، فقد بادر ثلة من رجالاتها منذ العام 1947 (أي بعد الاستقلال بعام واحد فقط)، لتأسيس شركة أهلية للكهرباء (شركة مساهمة مغفلة برأسمال قدره 200 ألف ليرة سورية مدفوعة بالكامل)، وتم استيراد تجهيزاتها كافة من بريطانيا، وبالتالي حصل أهلها على الكهرباء، قبل مئات من البلدات والقرى السورية الفقيرة، أو تلك التي كانت انتظرت طويلاً، وبتلهف إنارتها من مشروع سد الفرات الذي لطالما أطنبت فيه سلطة البعث.
في أوائل ستينيات القرن الماضي أرسل كثير من الموسرين أبناءهم؛ للدراسة في أوروبا الغربية (بريطانيا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا وأسبانيا) على نفقتهم الشخصية، وبعد سنوات عادوا جميعاً، بعد تخرجهم أطباء، ومهندسين وصيادلة، وقدموا علمهم في خدمة مجتمعهم، وآخرون اكتفوا بالدراسة في جامعتي دمشق وحلب، فكان منهم المحامون، والقضاة، والأطباء والطبيبات والمهندسون والمهندسات، والمهندسون الزراعيون والصيادلة، بعضهم من شغل مقاعد الأستاذية في جامعات حلب ودمشق، وثلاثة منهم شغلوا وزارات أولهم الدكتور عبد الرحمن أكتع الذي كان وزيراً للصحة عام 1967، عندما فوجئ ببيان من إذاعة دمشق يعلن سقوط القنيطرة، بينما كان هو فيها يتفقد أوضاع مرافقها الصحية ومستلزماتها، خلال الحرب، فعاد إلى دمشق؛ لحضور جلسة الحكومة، وقال لوزير الدفاع آنذاك (حافظ الأسد): كيف تعلنون سقوط القنيطرة، وأنا كنت هناك، ولا يوجد أي جندي إسرائيلي فيها؟ فتلقى صفعة على وجهه من الأسد الذي طلب منه عدم التدخل في ما لا يعنيه! وعندما لم يرَ من الرئيس وحكومته أي رد فعل، تقدم باستقالته من فوره، وعاد لعيادته في حلب.
تصدير إنتاجها إلى دمشق وبيروت
في سلقين عشرات من معاصر الزيتون، وكان لموسريها أيضاً السبق في استبدال المعاصر القديمة، واستيراد المعاصر الإيطالية الحديثة، ما أسهم في تحسين الإنتاجية كماً ونوعاً، وهي من المدن التي تصدر كل فائض إنتاجها من الزيت والزيتون الأخضر والأسود إلى دمشق وبيروت، باعتبارهما من المدن التي تحب الزيت السلقيني، بخلاف حلب التي طالما فضلت زيت عفرين.
أما نوى الزيتون، فيتم سحقه وعصره؛ ليستخرج منه زيت، عادة ما يستخدم لصناعة صابون الغار، أما مسحوق النوى ويسمى (بيرين)، فكان يستخدم وقوداً؛ لتسخين ماء “حمام السوق التاريخي” الذي كان مقصداً للمجموعات الشبابية في ليل الشتاء الطويل، وهي فرصة ترفيهية أكثر من كونها للاغتسال، حيث تذهب تلك المجموعات بعد صلاة العشاء عادة للحمام، ويتخلف عن المجموعة اثنان أو ثلاثة منهم، تكون مهمتهم إحضار الطعام، والانضمام للمجموعة، وغالباً ما يكون الطعام (الكبة النية الحدة (الحارّة) والتبولة السلقينية الغارقة بالزيت، ودبس الرمان، والتي عادة ما تؤكل بورق العنب، أو الخس والتي هي أقرب لتبولة أنطاكية من تبولة لبنان، وأنواع مختلفة من المخلل، وخاصة مخلل اللفت والشمندر، وفي بعض الأحيان يضاف معها اللحم المشوي)، ولابد من الغناء، وقص القصص قبل جولة الاستحمام الأخيرة، والخروج للمصاطب الخارجية؛ لتناول الشاي تمهيداً للمغادرة بعد منتصف الليل.
يقول التاريخ عن سلقين: إنها كانت تابعة لأنطاكية في العصر الروماني البيزنطي، كما ذكر المؤرخ الغزي في كتابه (نهر الذهب في تاريخ حلب)، وتتناقل الأساطير أنها كانت مكان استيطان قديم للسلوقيين، حيث أقام فيها الملك (سلوقس الأول)، والذي اشتق اسمها منه، ويؤكد ذلك ما سجلته الرحالة الإنكليزية (غيرترود بيل) التي زارت سلقين عام 1905م، حيث نقلت لنا بأن سلقين كانت إحدى مواطن السلوقيين، وقد أوجدها سلوقس الأول، وكانت مصيفاً لأهل أنطاكية، وكثيراً ما شوهدت في البلدة أحجار تشير إلى ذلك.. وكان بالقرب منها (في قرية الجسر المكسور حالياً) جسر حديدي يعبر منه عبر العاصي إلى أنطاكية، وقد بلغ تعداد سكانها عام 1896 ميلادية 1826 نسمة، وفيها جامعان وحمام وقهوة، وخمسون دكاناً، وختمت بوصف المنطقة قائلة: (هذه المنطقة لن تنسى لجمالها وجمال طبيعتها، ولم أر مثل هذه الخصوبة الوافرة لأراضيها في جميع أنحاء سورية) .
يقال، ولا أستطيع الجزم بصحة القول إنه في العهد الإسلامي فتحها الصحابي أبو عبيدة بن الجراح سنة 638 ميلادية، بالإضافة إلى بلدة حارم القريبة.. وما يزال هناك على أطراف حارم حتى الآن مقام يطلق عليه العوام (مقام الشيخ عبيد) فيه أروقة، ونبع، وبحرة صغيرة على ضفتها شجرة معمرة ومجوّفة، كان البسطاء يذهبون في فصل الربيع للتخييم فيه يوماً أو يومين، يمضونها في اللهو والسباحة والطبخ، والابتهالات الدينية والحكايات الليلية التي لا تخلو بالطبع من المبالغات في (كرامات الصالحين).
ناصريون وشيوعيون وبعثيون
سكان المدينة متآلفون، ويربط معظم العائلات فيها شكل من أشكال القرابة، لم تفرقهم الانتماءات السياسية قط، ومع انقضاء مرحلة حزب الشعب، ثم مرحلة الاتحاد القومي أيام الوحدة، توزعت انتماءات الشباب فيها بين ناصريين، وشيوعيين، وبعثيين، وقلة قليلة من الإخوان المسلمين الذين وبالنظر لانفتاح المدينة وسكانها لم يجدوا فيها أرضاً تصلح لاستنباتهم.
سلقين، كما كل المدن والبلدات في محافظة إدلب المنسية عانت من التهميش والإهمال الحكومي من دولة البعث، ولم تحظ بما تستحقه من خدمات حكومية، لكنها رفضت الركون لهذا التهميش، وبقيت معتمدة على نفسها في تطوير زراعاتها، والصناعات الزراعية فيها، وتصدير منتجاتها إلى دمشق ولبنان، وللعديد من دول الخليج… هي منسية حقاً، لكنها صنعت نفسها.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024