الرأي العام

فيصل قاسم وحافظ أسد نموذجان مختلفان من صعود البروليتاريا في سوريا

د. مهنا بلال الرشيد- العربي القديم  

حلَّ الإعلاميُّ السُّوريُّ الشَّهير الدُّكتور فيصل قاسم مذيع قناة الجزيرة ومقدِّم برنامج الاتِّجاه المعاكس ضيفًا متميِّزًا جدًّا على برنامج (بودكاست- ضيف شعيب) في منصَّة أثير القطرية التابعة لقناة الجزيرة الَّتي تصنع محتواها بإشراف الجزيرة وتضعه في موقع يوتيوب، وقد وزوَّدتنا هذه المنصَّة بحوار شيِّق مع شخصيَّة سوريَّة جدليَّة ومتميَّزة ومثيرة وملهمة. وإن اتَّفقنا أو اختلفنا مع المحتوى الَّذي يصنعه القاسم أو الأسلوب الَّذي يقدِّمه فيه؛ لا بدَّ لنا من الاعتراف أنَّ أسلوبه في سرد قصَّة حياته وخروجه من رحم المعاناة والشَّقاء في الأرياف السُّوريَّة الفقيرة والمقموعة؛ ليثبِّت قدميه بين مشاهير الإعلام والشَّخصيَّات العربيَّة جذب المتلقِّي خلال ثلاث ساعات تقريبًا، وهو وقتٌ يعزُّ على معظم المتلقِّين أن يقضوه أمام أجمل البرامج في وقتنا الرَّاهن. ونحن في هذا المقال لن نلخِّص مضمون المقابلة؛ لأنَّها غنيَّة ومثيرة، ويصعب تلخيصها أو تجاوز أيِّ تفصيل فيها؛ فهي تعكس تجربة حياة متميَّزة؛ ومن هنا فضَّلتُ الوقوف عند بعض من دلالات صعود حافظ الأسد إلى حكم سوريا وصعود فيصل قاسم إلى سماء الإعلام العربيِّ وذلك بسبب تشابهات بيئة البروليتاريا الفقيرة الأولى، الَّتي صعد منها حافظ الأسد وفيصل القاسم وصولًا إلى جملة من التَّناقضات الحادَّة جدًّا في ردود الأفعال تجاه عقبات طريق الارتقاء وتجاه الأصدقاء من (رفاق الدَّرب) وطبقة البروليتاريا من فقراء المجتمع السُّوريِّ الثَّائرين لدى كلٍّ من الرَّجلين.

فيصل قاسم على منصة أثير القطرية: ثلاث ساعات ونيف من الحديث عن معاناته وخروجه من رحم المعاناة والشقاء

 وبرغم صعوبة الجلوس لمتابعة مقابلة مرئيَّة على مدار ثلاث ساعات إلَّا أنَّ تميُّز المحتوى من حيث (الكلمة والصَّوت والحركة) جعل متابعة المقابلة أفضل من تلخيصها، وإن لم تعد المعلومة ذاتها موضع اهتمام الإعلام الحديث بقدر اهتمام المتلقِّي بكيفيَّة تقديم المعلومة فإنَّ كيفيَّة (السَّهل الممتنع) في هذه المقابلة جعل منها مادَّة إعلاميَّة تعكس نجاح صانعيها بدءًا من التَّخطيط للمقابلة وتحديد ضيفها حتَّى الانطلاق فيها والاسترسال في أسئلتها الشَّيَّقة حتَّى نهايتها.

قبل البدايات: الاتِّجاه المعاكس صورة نمطيَّة وعلامة فارقة

كرَّس برنامج الاتِّجاه المعاكس الشَّهير على قناة الجزيرة صورة نمطيَّة لمقدِّمه فيصل قاسم بدا فيها شخصيَّة إشكاليَّة أو جدليَّة ذات (سِمة أو كاريزما) خاصَّة بها؛ هناك مَن يُعجب به وبأسلوبه في مقدِّمات برنامجه وبحواراته مع ضيوفه وأسئلته الموجَّهة لهم، وهناك مَن ينتقد هذا الأسلوب ذاته، وهناك مَن يُكيل الاتِّهامات للقاسم ذاته أو لبرنامجه؛ وهذا ما كرَّس هذه (السِّمة-الكاريزما) الخاصَّة بالقاسم إلى حدٍّ جعل من برنامج الاتِّجاه المعاكس برنامجًا جدليًّا وعلامة تجاريَّة فارقة وخاصَّة ليس بقناة الجزيرة وحسب بل بالقاسم ذاته، وسيكون من الصَّعب على أيِّ مذيع آخر أن يحلَّ مكان القاسم ولو في تقديم حلقة واحدة، وأذكر أنَّ مذيع الجزيرة الآخر محمَّد كريشان حلَّ مكان القاسم في تقديم حلقة من حلقات الاتِّجاه المعاكس، وأزعم أنَّ المتلقِّي العربيِّ وكريشان ذاته قد فضَّلوا إيقاف البرنامج بدل التَّعويض عن القاسم بمذيع آخر نتيجة للثِّقل الَّذي يخلِّفه ارتباط هذا البرنامج باسم القاسم على كلِّ من سيأتي بعده؛ وهذا ليس مدحًا للقاسم ولا ذمًّا لغيره بل هو دعوة صريحة لكي يتجاوز كلَّ شخص فكرة التَّقليد، ويبحث عن فرادته وفردانيَّه وسماته الخاصَّة. وبرغم اعتراف القاسم الصَّريح خلال المقابلة بعدم حياديَّة الإعلام بوصفه نوعًا من (البزنِس أو العمل الموجَّه أو البروبَّاغاندا المدروسة لصناعة أيديولوجيا أو توجُّهات محدَّدة) فإنَّ هذا الاعتراف لم يحمه من النَّقد، وإن كان منتقدو المقابلة أقلَّ بكثير من المعجبين بمحتواها، وقد تكون خبرة القاسم وقناعته بأنَّ إرضاء النَّاس غاية لا تُدرك دفعته إلى هذا النَّوع من الصَّراحة (المدروسة) الَّتي تقلِّص عدد المنتقدين، وتحصرهم في فئة يعرف القاسم أنَّ معظمها من المثقَّفين الَّذين لا يتابعون التِّلفاز، وبرغم ذلك يبحثون عن الفائدة وتجلّيِات المجتمع الفاضل في كلِّ شيء يتابعونه، وربَّما وصل القاسم إلى قناعة تامَّة قبل بثِّ هذه المقابلة يرى فيها أنَّ مصارحة هذه الفئة وغيرها من المتابعين وتقبَّل نقد المنتقدين أو مقاطعتهم أفضل من تخلِّي القاسم عن بعض طباعه محاولة لإرضائهم، الَّذي لا يُسمن ولا يغني من جوع؛ ومن هنا لم يتورَّع القاسم من صدمة المشاهد في مستهلِّ اللِّقاء بعدما شبَّه نفسه ببالبلو أسكوبار، الَّذي يتاجر بالمخدَّرات، ولا يتناول سمومها، وبمثل هذه الطَّريقة يعرض الإعلام الجيد والرَّديء، ويترك للمتلقِّي أن يختار ما يريده، برغم نزعة الطُّوباويِّين نحو إعلام فاضل يصنعه حكماء المدينة الفاضلة.

الاتجاه المعاكس: علامة تجاريَّة فارقة وخاصَّة ليس بقناة الجزيرة وحسب بل بالقاسم ذاته

مقارنة بين نشأة فصيل قاسم ونشأة حافظ الأسد

وُلد حافظ الأسد (الابن التَّاسع لعليِّ سليمان الأسد) في 6 تشرين الأوَّل سنة 1930 لأسرة سورية فقيرة أو مُعدمة أو متواضعة على أقلِّ تقدير، وعاش في بيت طينيٍّ صغير من غرفتين وسقف صخريٍّ غير مكسوٍّ بين أُسرة تتألَّف من 14 عشر شخصًا (ثلاث بنات، وثمانية أولاد، ووالده عليّ، وأمَّه ناعسة، وسعدى خالته أو زوجة أبيه)، وعلى جانب هذه الأسرة الكبيرة امتداد طينيٌّ خاصٌّ بالدَّجاج والحيوانات الَّتي تربِّيها ناعسة والدة حافظ الأسد. وهناك “كشف بالقبائل والعشائر العلويَّة أعدَّه ضابط سياسيٌّ بريطانيٌّ عام 1942 يوضَّح أنَّ عائلة عليّ سليمان الأسد والد حافظ أسد تترأَّس (بيت العيلة) أو (عشيرة العيلة) الفرعيَّة من قبيلة الكلبيَّة، وهو مركز متواضع لكنَّه حقيقيٌّ. ذلك أنَّ آل الأسد كانوا قد حقَّقوا لأنفسهم منزلة في قريتهم، ولكنَّهم كانوا لا يزالون أقلَّ تأثيرًا من أُسر القرداحة البارزة؛ مثل آل حسُّون وآل عثمان وآل الخيِّر). وتجوَّل حافظ الأسد في طفولته ومراهقته في شوارع مدينة اللَّاذقيَّة يبحث عن موقعه بين أغلبيَّة سكَّانها المختلفين عنه وفقًا لتفكيره الطَّائفيِّ، وتجوَّل قبلها في شوارع القرداحة، ويبدو لي أنَّه كان يسأل نفسه عن موقع (بيت العيلة من آل الوحش أو آل الأسد) بين عوائل القرداحة من آل العثمان وآل الخيِّر. وبعد ولادة حافظ الأسد بإحدى وثلاثين سنة وُلد فيصل قاسم سنة 1961 لأسرة فقيرة جدًّا في قرية ثَعلة في ريف السُّويداء، وعانى من ضَنَك العيش في طفولته داخل بيت طينيٍّ صغير تعيش فيه أسرة فقيرة تتألَّف من ثلاثة عشر شخصًا؛ أب وأمّ وتسعة ذكور أشقَّاء وأختان شقيقتان لهم، وداخل هذه الأسرة وفي شوارع قريته ثَعلة ثمَّ في (ساحة السَّير-ساحة الكرامة) في مدينة السَّويداء، عمل القاسم بنظام (الفاعل المستأجر للعمل على مدار يوم واحد)، وكان ينتظر في السَّاحة في أيِّ مجال مثل الكهرباء أو الإنشاءات أو التَّنظيف أو أيِّ شيء آخر؛ وخلال هذه المرحلة المريرة من مراحل الحياة كان يطرح على نفسه الأسئلة عن أسباب الفروق الطَّبقيَّة بين ابن الغنيِّ وابن الفقير، ابن المرابع وابن الآغا أو الإقطاعيِّ أو البيك، إن لم يسأل نفسه عن الفرق بين الرَّئيس القادم بانقلاب عسكريٍّ وابنه الوريث من جانب وأبناء المرؤوسين المقموعين من جانب آخر.

حافظ الأسد: عقدة النقص الطائفية والبحث عن الموقع

دخل حافظ الأسد المدرسة في ثلاثينات القرن الماضي عندما افتتحت السُّلطات الفرنسيَّة أوَّل مدرسة ابتدائيَّة في القرداحة، وأكمل دراسته الابتدائيَّة في اللَّاذقيَّة بعدما تقدَّم للحصول على شهادة التَّعليم الابتدائيِّ واستخرج لنفسه صورة بيومتريَّة بعدما غادر من القرداحة إلى جبلة مع ثلاثة من زملائه، وأخذوا صورًا فوتوغرافيَّة، وتقدَّم معهم بطلب كتبوه بخطِّ أيديهم على مدار يوم طويل، وقلَّدوا فيه مسوَّدة أستاذهم، وقدَّموه لوزير التَّربية في حكومة اللَّاذقيَّة سنة 1942، وبهذه الطَّريقة أُتيحت الفرصة لحافظ الأسد تاسع ولد من أولاد عليِّ الأسد بأن يتعلَّم في المدرسة كأوَّل ولد من أولاد هذه الأسرة، بعد ثمانية من أخوته لم يتمكَّنوا من الذَّهاب إلى اللَّاذقيَّة للتَّعلُّم مثل أولاد الأغنياء فيها، ويقول حافظ الأسد: (في تلك الأيَّام كانت الكيلومترات الثَّلاثون من القرداحة إلى اللَّاذقيَّة تبدو بضخامة المسافة الَّتي تفصل اليوم بين دمشق ولندن).

وبمثل هذه الطَّريقة كشف فيصل قاسم عن معاناته بعد ثلاثين سنة تقريبًا عندما سافر من قريته (ثَعْلَة) إلى مدينة السُّويداء لدراسة الثَّانويَّة العامَّة أو للانتساب إلى مدرسة الصِّناعة أو مدرسة التَّمريض، وبرغم الظُّروف القاسية حصل القاسم على المرتبة الأولى بين زملائه في ثانويَّة الثَّورة. لكنَّ المسافة الفاصلة بين دمشق ولندن اختزلها حافظ الأسد لابنه بشَّار، وأرسله لدراسة (الطِّبِّ) في لندن وفي فمه ملعقة من ذهب؛ ولأنَّه ابن الرَّئيس اختزل له والده حافظ الأسد طريق السُّلطة المحفوف بالمخاطر، وأدخله للقصر من الباب الخلفيِّ في غفلة من الجماهير المقموعة، بعدما عبَّد له درب الوصول للرِّئاسة بسيناريو غريب وفريد رسمه له مع حفنة من الأغبياء والمنتفعين في مكاتب حزب البعث قبل موته، وضمن له تعديل الدُّستور؛ ليتناسب مع عمر الوريث، ويلتفَّ على النِّظام الجمهوريِّ في سوريا، ويحوِّله إلى نظام وراثيٍّ بعدما ضمن ولاء الخائفين من البقيَّة الباقية من البعثيِّين المتَّعظين بمصير رفاق حافظ وباسل الأسد في السِّجن. أمَّا فيصل قاسم فلم يختزل له المسافة بين دمشق ولندن غير تفوِّقه وانتزاعه المرتبة الأولى بين زملائه في قسم الأدب الإنكليزيِّ داخل جامعة دمشق.

رفاق الدَّرب عند حافظ الأسد وفيصل قاسم

يَسْهُل على كثير من المؤرِّخين اتِّهام النِّظام الإقطاعيِّ العثمانيِّ وتحميله كثير من بؤس طبقة البروليتاريا المقموعة من فقراء العمَّال والفلَّاحين المُعدمين حتَّى نهاية الحرب العالميَّة الأولى سنة 1918، ولكن-وللإنصاف-سيكتشف كثير من السُّوريِّين بعد الخروج من عباءة الدَّولة العثمانيَّة إلى عباءة الاحتلال الفرنسيِّ وعباءة القوى السِّياسيَّة الوطنيَّة الَّتي استلمت قيادة سوريا بعد استقلال سوريا عن فرنسا في 17 نيسان 1946 أنَّ المجتمع يصنع بذاته طبقاته، ويُسهم في بؤس كثير من أفراده وشقاء طبقاته الاجتماعيَّة المسحوقة، ويصعب-في الظَّروف التَّقليديَّة-على أبناء البروليتاريا المُعدمين أن يرتقوا إلى الطَّبقة الاجتماعيَّة المتوسِّطة أو ما بعدها، ولولا انتساب كثير من شباب جبال العلويِّين في السَّاحل السُّوريِّ إلى جيش المشرق الفرنسيِّ في الظُّروف الاستثنائيّة بعد الحرب العالميَّة الأولى وخلال الحرب العالميَّة الثَّانية لما ظهرت فيما بعد الاستقلال طبقة الضُّبَّاط والمثقَّفين العلويِّين من جيل حافظ الأسد ورفاقه، الَّذين استخدمهم، وتسلَّق على أكتافهم، أو زجَّهم في السُّجون-كما فعل حافظ الأسد مع رفيق دربه صلاح جديد، وكما فعل ابنه باسل حافظ الأسد بزميله في نادي الفروسيَّة عدنان قصَّار. وبعد سنوات من نشأة جيش المشرق الفرنسيِّ؛ أي في ستِّينات القرن الماضي تمرَّس كثير من شباب البروليتاريا في جبال العلويِّين بالعمل السِّياسيِّ، وانتصروا على جاسم علوان والضُّبَّاط الوحدويِّين في 18 تمُّوز 1963، ثمَّ انتصر تيَّار حافظ أسد من تلاميذ الأرسوزي وجناحه على أعضاء اللَّجنة العسكريَّة في 23 شباط 1966، ثمَّ انتصر الضُّبَّاط العلويُّون على ضبَّاط الإسماعيليَّة وضبَّاط الدُّروز في نهاية 1969، وتكلَّل هذا الصَّراع بانتصار حافظ الأسد على رفيق دربه صلاح جديد عام 1970.

وزير الدفاع حافظ الأسد، متوسطا صلاح جديد ونور الدين الأتاسي اللذين انقلب عليهما وغدر بهما وسجنهما حتى الموت

برغم سقوط النِّظام الإقطاعيِّ والاستقلال عند الدَّولة العثمانيَّة 1918 ثمَّ الاستقلال عن الجمهوريَّة الفرنسيَّة 1946 عاشت الأغلبيَّة السَّاحقة من السُّوريِّين فقرًا مُدقعًا خلال ثمانين سنة تقريبًا بين 1918-2000، واعتمدت معظم الأُسر الرِّيفيَّة على الاكتفاء الذَّاتي بما تنتجه حقولهم من القمح والعدس والشَّعير والزَّيتون والعنب والتِّين بعد تأميم الأراضي وإعادة توزيعها، أو من خلال العمل (كمُرابعين يأخذون من الأغنياء رُبْعَ الموسم إذا عملوا معهم في الأرض موسمًا كاملًا أو أجرة تسدُّ رَمق الحياة إذا عملوا معهم بنظام الفاعل المُستأجر ليوم واحد)، واعتمد سكَّان المدن على الحِرف وتصنيع مواد الأرياف ومحاصيلها والتِّجارة بها في الأسواق بنظام (البيع المفرَّق أو البيع بالجملة)، وتَعْرِف الأغلبيَّة السَّاحقة من السُّوريِّين ممَّن وُلدوا قبل موت حافظ الأسد سنة 2000 مفردات الثَّورة الزِّراعيَّة الأولى ومصطلحاتها الَّتي استخدم فيصل قاسم بعضها في مقابلته؛ مثل: (الحصيدة: الأرض المحصودة)، و(الرَّجيدة: المواسم المنقولة إلى البيدر) وغيرها.

تشابهات كبيرة في خلفيَّة الحرمان وتناقضات كبيرة في ردَّة الفعل

        نشأ حافظ الأسد، وتفتَّح وعيه داخل مقاطعة علويَّة من 300000 ألف نسمة تقريبًا، رسمت فرنسا حدودها وخطوط حكومتها السَّياسيَّة الخاصَّة بها بين كثرة كثيرة من تركات الدَّولة العثمانيَّة بعد الحرب نهاية الحرب العالميَّة الأولى سنة 1918؛ لذلك ظلَّت جدليَّات: الوحدة والانفصال والأقلِّيَّة والأغلبيَّة والنَّزعة الهامشيَّة والتَّيَّار الرَّئيسيِّ والجزء والكلُّ تُشعل ارتياب حافظ الأسد بكلِّ مَن حوله، ويأتي في مقدِّمتهم رفاق دربه؛ لكنَّ الكيفيَّة الَّتي صار فيها حافظ الأسد بطلًا قوميًّا عربيًّا برغم نشأته الطَّائفيَّة الانفصاليَّة المنعزلة ظلَّت المفارقة المركزيَّة الكبرى في حياته، وفي هذه النُّقطة نلمح اختلافًا جوهريًّا بين ما قاله عن نفسه أو ما كتبه عنه باتريك سيل الصَّحفيُّ القريب جدًّا من عائلة الأسد، وما قاله، ويقوله، ويعبِّر به فيصل قاسم عن نفسه؛ فلطالما عبَّر القاسم عن انتمائه الوطنيِّ لحراك السُّوريِّين الثَّوريِّ؛ كلِّ السُّوريِّين المقموعين وثورتهم ضدَّ بشَّار الأسد بعيدًا عن التَّخندق لصالح فئة أو أيديولوجيَّة ثوريَّة مقابل فئة أخرى؛ وكشف أنَّ همَّه الأكبر هو مناصرة الشُّعوب المقموعة كلِّها ضدَّ مستعمريها ومستبدِّيها ومستغلِّها، وكشف في مقابلته في برنامج (ضيف شعيب) أنَّ هذه الوقفة قد تكون هي السَّبب الَّذي جعله يبدو قريبًا أو مقرَّبًا من صدَّام حسين ومعمَّر القذَّافي؛ وههنا سنقف مع تحليل لبعض أجوبته حول رأيه في مجموعة من مشاهير ضيوفه أو كبار الشَّخصيَّات الَّتي التقى بها أو أجرى معها بعض المقابلات.

عودة إلى الحركة وسُبحة فيصل قاسم

يبدو لي أنَّ فيصل قاسم قد حضَّر نفسه بشكل جيِّد للتَّأثير في المتلقِّي وجذبه للاستماع إليه أو متابعته برغم استطراده في الحديث عن تجربة حياته كلِّها في أكثر من ثلاث ساعات، وربَّما قرَّر سلفًا أن يستهلَّ حديثه بصدمة حيث شبَّه نفسه في بداية حديثه ببابلو إسكوبار جافيريا، الَّذي يتاجر بالمخدِّرات دون أن يتعاطاها، ومثل هذا التَّشبيه كفيل بإثارة المتلقِّي وجذبه مدَّة جيَّدة؛ ليتابع وهو يقول في نفسه: وماذا بعد؟ ويبدو لي أنَّ فيصل قاسم حرص أن يُظهرَ سُبْحَتَه خلال كلامه في دلالة على أُنْسِه بالحديث عن تجرته بعدما أمضى عمرًا، وهو يسأل الآخرين ويستمع إلى إجابات مقنعة لدى بعضهم، ويصبر على غوغائيَّة الكثيرين؛ وقد توافقت أقوال القاسم مع أفعاله حين قسَّم الإعلام، وأعطى 7 بالمئة للكلمة، و38 بالمئة للصَّوت، و55 بالمئة للحركة؛ ومن هنا فالسُّبحة أو الحركة تعكس-من وجهة نظري-كثيرًا من الأُلفة والرَّاحة والأُنس والسُّرور بين المرسل والمتلقِّي أو المشاهد، على نحو يصدق معها قول الشَّاعر توصيفًا لهذه المقابلة:

أحادثه إنَّ الحديث من القرى                       وتعلم نفسي أنَّه سوف يهجع

 تُعزِّز السُّبحة ثقة المتحدِّث بنفسه، وهو يُقَطَّع وقته بطقطقة حبَّاتها، وربَّما يقول قائل: إنَّ القاسم (نمرود) الإعلام أو ثعلب الأسئلة في الاتِّجاه المعاكس ليس بحاجة لمثل هذه السُّبحة للتَّدليل على الأريحيَّة؛ غير أنَّني أجد فيها تعويضًا عن بحث قديم عن الرَّاحة والطَّمأنينة والأنس بعد قهر شديد في مرحلة الطُّفولة، لا سيَّما أنَّ القاسم أمضى ثلاثين سنة في الإعلام، وهو يطرح الأسئلة، ويستمع إلى كثير من كلام الضُّيوف المستهلك والمعروف والمملُّ، وهو الَّذي كان ومازال يستحثُّهم على الحديث دون أن تسمح له طبيعة برنامجه (النَّاريَّة) أن يعدَّ حبَّات سُبحته خلال إدارته للحوار بين ضيفين كأنَّهما في حَلبة مصارعة، ولا أدلَّ من ذلك شيء عندي غير حديث القاسم عن ولَعه بالموسيقا الهادئة، بعد أن رقَّصَ أهل الأعراس على موسيقا شبَّابته عندما كان يافعًا، ورقَّصتْ مقدِّماته النَّاريَّة المستفزَّة وأسئلته المثيرة ضيوفه في حلقات برنامجه والمشاهدين خلف الشَّاشات، ورقَّصت ثوريَّته وانتفاضته البروليتاريَّة أهله الثَّائرين في سوريا وساحة الكرامة في السُّويداء على وجه التَّحديد، وبين هذا وذاك لا شكَّ عندي أنَّه رقَّص المجرم بشَّار الأسد واستخباراته قبل أن يدفعوا للقاسم بفيصل عبد السَّاتر مرَّة وشريف شحادة مرَّات، أو قبل أن يقطعوا الكهرباء عن سوريا-أيَّام الكهرباء-بالتَّزامن مع بثِّ برنامج الاتِّجاه المعاكس. وأذكر أنَّ أجهزة حافظ الأسد نشرت صورة شهيرة لحافظ الأسد؛ كان يحمل فيها سبحة، ويعلو وجهه ابتسامة، ويجلس على كرسيٍّ مرصَّع. وعلى المستوى الشَّخصيُّ تتبادر إلى ذهني-كلَّما شاهدت رجلًا يُطقطق بحجارة سُبحته مستأنسًا بالسَّمر مع رفاقه-صورة أبي معمَّر مقدَّم برنامج (مضايف أهلنا) على تلفزيون العراق.

ماذا لو كنتُ مكان فيصل قاسم في هذه المقابلة؟

أَطْرَحُ هذا السُّؤال لأنَّني سُئلت-مثل كثيرين من القرَّاء الكرام-عن رأيي بصدَّام حُسين ومعمَّر القذَّافي وحسن نصر الله وفيدل كاسترو وهوغو شافيز وغيرهم؛ فكيف بدا لي القاسم وماذا قلتُ أو كيف سأجاوب عن هذه الأسئلة؟

اعترف فيصل قاسم بسذاجة وعيه السِّياسيِّ القديم وموقفه من صدَّام حسين وتوصيفه إيَّاه بالدِّيكتاتور، وفي نهاية حديثه عنه بدا لي -وهذا رأيي الشَّخصيُّ- أنَّ القاسم كان ومازال معجبًا بصدَّام حسين برغم حديثه عن ديكتاتوريَّته؛ لأنَّ تغيير بعض القناعات صعب جدًّا، ويحتاج إلى شجاعة وجرأة وصراحة كبيرة، تحلَّى القاسم بكثير منها حين تحدَّث عن فقره المدقع وشخصيَّته المسحوقة في قاع المجتمع منذ طفولته المبكِّرة حتَّى لحظة التَّحوُّل الأولى في حياته بعد حصوله على المرتبة الأولى على مستوى مدرسته في اختبار الشَّهادة الثَّانويَّة؛ والحقُّ أنَّ هذه الجرأة والمكاشفة صارت رصيدًا شعبيًّا مضافًا ومهمًّا للقاسم، ولكنَّ حديث القاسم عن هيبة صدَّام حسين ومهابته في لقائه معه وتجاذب أطراف الحديث بينهما عن علاقة الشَّعب بالقائد أوحت بشيء من إعجاب القاسم بصدَّام حسين أو بعض صفاته على أقلِّ تقدير، ومهما يكن لا أهدف إلى التَّنبُّؤ بموقف القاسم الحقيقيِّ من صدَّام حسين لأنَّها ليست قضيَّة ذات أهمِّيَّة عندي، والحقُّ أنَّ لقاءات القاسم كلَّها مع صدَّام حسين والقذَّافي وكاسترو وشافيز وحسن نصر الله تمثِّل جزءًا صغيرًا من عمله الإعلاميِّ، وتعكس التَّوجُّهات الكبرى لدى قناة الجزيرة؛ لكنَّني لو سُئلت مرَّة أخرى عن رأيي بصدَّام حسين فلن أتحدَّث عن ديكتاتوريَّته أو مهابته بل سأقول: شخصيَّة تاريخيَّة لها ما لها، وعليها ما عليها، مثل كثير من شخصيَّات العالم الجدليَّة الأخرى. أمَّا لقاءات القذَّافي مع فيصل قاسم وقناة الجزيرة فقد شكَّلت-من وجهة نظري-سبقًا إعلاميًّا لقناة الجزيرة وبداية لمرحلة من مراحل التَّنسيق والتَّعاون بين القذَّافي وصُنَّاع الأيديولوجيا في قناة الجزيرة، وبرغم بعض التَّشابهات بين القذَّافي وصدَّام حسين من ناحية الانفعال الثَّوريِّ لم يكن القذَّافي من مفكِّري الطَّبقة الأولى ولا من قادة الطَّبقة الأولى، وقد وقع صيدًا سهلًا لخُبث آل الأسد، وسجَّلوا صوته في من خيمته خلال مشاركته في قمَّة دمشق 2008، ونشروا التَّسجيلات بعد موت القذَّافيِّ، وخلاصة الكلام سأقول عن القذَّافيِّ مثل قولي عن غيره: له ما له، وعليه ما عليه، ورصدتُ على القذَّافي انفعالات كثيرة جدًّا، والانفعال آفة رجل السِّياسة الكبرى، وهو القائل: (مَن أنتم؟)، و(زنقة زنقة) برغم تنبُّئه بمصيره المشابه لمصير صدَّام حسين في لمحة استشرافيَّة تشبه الجنون.

أمَّا عن حسن نصر الله فقد تمنَّيتُ لو أنَّ فيصل القاسم لم يمرَّ على ذكره مرورًا عابرًا بعد تركيزه على شكليَّات لقائه معه في استديو داخل خرابة بعد المرور في ممرٍّ وظلام دامس، وحديثه عن حرص نصر الله على مصافحة العمَّال وإظهار الودِّ والابتسام مع كلِّ مَن يتحدَّث معه، وتمنَّيتُ لو أن فيصل القاسم-وهو ابن الثَّورة السُّوريَّة-لو تحدَّث عن موقفه الشَّخصيِّ من جرائم حزب الله في سوريا وعمالته لإيران على حساب مصالح الثَّورة السُّوريَّة والعرب والإعلام العربيِّ كلِّه، ويلخِّص موقفي من حسن نصر الله قولي: لا يمكن لرجل يعيش في سرداب مجهول أن يقود مقاومة عربيَّة أو يتزعَّمها، وهو الَّذي يعلن انتمائه الأيديولوجيَّ الكامل لإيران وولاية الفقيه؛ فهذا الرَّجل ليس له شيء، وعليه أوزار الشُّهداء في سوريا ولبنان وفلسطين، وعليه أوزار الأوهام الَّتي يلوِّث بها أفكار كثير من الشَّباب العربيِّ.

لا أُخفي إعجابي بتجربة فيصل قاسم واستلهامي منها مثل كثير ممَّن أبدوا إعجابهم بها، لا سيَّما ثوريَّته ونضاله ضدَّ آل الأسد المجرمين، وإخلاصه لرفاق دربه بدءًا من زُملاء مرحلة امتحانات الثَّانويَّة ومرحلة المدينة الجامعيَّة في دمشق وصولًا إلى تعبيره عن ودِّه وامتنانه الكبير لأساتذته وزملائه في العمل في لندن والدَّوحة، بالإضافة إلى إشادته بأساتذته الدُّكتور الكبير يحيى العريضيِّ، وشكره لكلِّ من أحسن إليه أو ساعده برغم اختلافه السِّياسيِّ مع بعضهم في الوقت الرَّاهن؛ وفي المحصَّلة صنع فيصل قاسم نفسه بنفسه مع كثير الجهد والتَّوفيق والإصرار والعزيمة، ولم يتسلَّق على أكتاف زملائه، لم يغدر بأحد منهم كما فعل حافظ وباسل وبشَّار الأسد، وظلَّ مخلصًا لطبقة المقموعين والفقراء المعدمين برغم ارتقائه الكبير على سلَّم الطَّبقات الاجتماعيَّة في سوريا.   

‫4 تعليقات

  1. كم هو منعش ان نقرأ عن موضوع مقابلة الدكتور قاسم بعيداً عن غوغاء الشعور الشخصي بالإعجاب او عكسه تجاه هذا الإعلامي، وبرنامجه. قد نحب أشخاصاً ونكره آخرين، نتفق مع أفراد أو نعارضهم، لكن علينا ان نستطيع الوقوف بعيداُ عنهم وإلقاء نظرة موضوعية على حياتهم وأعمالهم، كما فعل د. مهنا في هذا المقال.

  2. اي بوليتاريا كل من ذكرهم القاسم من الزعماء لو ولدوا في الغرب كنا نقرأ عنهم اليوم في قصص القتلة المتسلسين …هذا في افضل أحوالهم

  3. كتير مهم انك تعرف انو اذا كنت متفوق لا يعني انك تاخد منحة على حساب الدولة على بريطانيا، فقط المقربين من السلطة واللي عندهم واسطات كانو يحصلو على منح من هذا الشكل. ما بعرف اديش كان دقيق بتوصيف هي النطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى