دلالات وقضايا | طروحات تكوين ووحدة شيخ الأزهر: المعركة والاستجابة
مهنا بلال الرشيد
أسهمت مركزيَّة الفكر الدِّينيِّ بشكل ملحوظ في تشكيل عقل الإنسان في الشَّرق الأوسط منذ ألفي سنة قبل الميلاد حتَّى وقتنا الرَّاهن، وارتبط مفهوم العقل بالثَّقافة، وأشار إلى الوعي، ودلَّ عليه وعلى طريقة التَّفكير أكثر من دلالته على المخِّ والدِّماغ والجملة العصبيَّة، الَّتي يتشابه بها البشرجميعهم برغم اختلاف وعيهم وتنوُّع ثقافاتهم؛ ومن هنا كان إيمانويل كانط محقًّا حين كتب (نقد العقل المحض) في إشارة واضحة إلى دور الدِّين وتأثير الثَّقافة والجانب الرُّوحيِّ في تشكيل الوعي وطريقة التَّفكير. ولم يمنع تشابه الجملة العصبيَّة بين البشر جميعهم مفكِّرًا مثل محمَّد عابد الجابريِّ من تشريح البنى الثَّقافيَّة والأخلاقيَّة والسِّياسيَّة للعقل العربيِّ في مجموعة من كُتبه؛ لأنَّه رغبب بفهم تشكيل الوعي وطرائق التَّفكير في الدِّماغ والخلايا العصبيَّة، ولم يدرس تلك الخلايا العصبيَّة ذاتها، وكانت دارسة الجابريِّ ودراسة كانط قبله دراستين مهمَّتين للوقوف على تأثير الدِّين والجانب الرُّوحيِّ في حياة البشر بعد تاريخ طويل من الحروب الدَّمويَّة، أسهم فيها الكهنة في تأجيج الصِّراع وإضرام نيرانه على أساس دينيٍّ في كثير من المراحل التَّاريخيَّة، الَّتي اقتتل فيها فراعنة مصر تحت راية آلهتهم (رَعْ) (وآمون) و(أتون) مع أكاديِّي بابل تحت راية (مردوخ) كبير آلهتهم، وحاول الطَّرفان في كثير من الأحيان استقطاب أموريِّي بلاد الشَّام والاعتراف بآلهتهم: بعل وأدد وعشتار وغيرها، ثمَّ ظهرت ديانات الحنفيَّة الإبراهيميَّة واليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، وكانت مراحل التَّعايش السِّلميِّ والتَّفاعل الثَّقافيِّ بين شعوب هذه المنطقة برغم اختلاف دياناتهم أكثر المراحل إشراقًا في تاريخ هذه المنطقة، فقد تبادل الفراعنة الهدايا مع أموريِّي إيبلا وفينيقيِّي السَّاحل السُّوريِّ، وعاش في بغداد أبو نواس الشَّاعر العبَّاسيُّ المتحرِّر بجوار أبي حنيفة النُّعمان كبير أئمة الدَّولة العبَّاسيَّة بعيدًا عن الحياة الشَّخصيَّة للشَّاعر والإمام، ولم يدلَّ هذا التَّعايش إلَّا على التَّفاعل الثَّقافيِّ والحوار الفكريِّ والازدهار الحضاريِّ في إطار الدَّولة الواحدة.
تكوين الفكر العربيِّ
عقد مجموعة من الكُتَّاب في الرَّابع من أيَّار مايو الجاري 2024 المؤتمر التَّأسيسيِّ لجماعة (تكوين الفكر العربيِّ) في المتحف المصريِّ الكبير في القاهرة، وقد اختار أعضاء هذه الجماعة كلًّا من إسلام البحيريِّ ويوسف زيدان وإبراهيم عيسى وفراس السَّوَّاح ونايلة أبي نادر وإلفة يوسف ليكونوا مجلس أمناء هذه المجموعة، الَّتي ينتمي إليها عدد من الكُتَّاب والباحثين المشهورين بجرأة طروحاتهم النَّقديَّة حول مسائل شهيرة في الدِّين والتُّراث، وبرغم توصيف هذه الجماعة نفسها بأنَّها جماعة علمانيَّة من خلال مقالات كُتَّابها ومحاضراتهم فقد تصدَّر هاشتاغ #إغلاق_مركز_تكوين تريند موقع إكس يوم الإربعاء الواقع في الثَّامن من أيَّار مايو الجاري 2024، ورصدنا منشورات وتعليقات كثيرة تتحدَّث عن لا دينيَّة بعض كُتَّاب هذه الجماعة أو إلحاد بعضهم الآخر، وكفَّر آخرون بعض كتَّاب هذه الجماعة، وتحدَّثواعن تمرُّدهم على التُّراث مرَّة أخرى، ولم يشفع لهذه الجماعة اسمها الجذَّاب (تكوين)، الَّذي ينمُّ عن رغبة كُتَّابها الضِّمنيَّة بالإسهمام في تكوين الفكر العربيِّ كما فعل الجابريُّ وغيره قبلهم حين نقدوا العقل العربيَّ، ولم يخفِّف حدَّة النَّقد تعريف هذه الجماعة عن ذاتها في موقعهاعلى الشَّابكة الإلكترونيَّة بقولها: (تعمل مؤسَّسة تكوين على تطوير خطاب التَّسامح وفتح آفاق الحوار والتَّحفيز على المراجعة النَّقديَّة وطَرْحِ الأسئلة حول المُسلَّمات الفكريَّة وإعادة النَّظر في الثَّغرات الَّتي حالت دون تحقيق المشروع النَّهضويِّ الَّذي انطلق منذ قرنين).
موقف مهمٌّ لشيخ الأزهر
لا نستغرب تلك البلبلة أو الضَّجَّة الإعلاميَّة، الَّتي أحدثها المؤتمر التَّأسيسيِّ لجماعة تكوين؛ نظرًا لجرأة معظم كُتَّاب هذه الجماعة وحساسيَّة معظم القضايا، الَّتي يطرحونها بشكل دائم، لكنَّني سعدتُ بردَّة فعل شيخ الأزهر الدُّكتور أحمد الطِّيِّب أو استجابته المختلفة لهذا النَّوع من التَّحدِّيات الفكريَّة هذه المرَّة، حيث أعلن عن تشكيل وحدة (بيان) التَّابعة لمؤسَّسة الأزهر للرَّدِّ على طروحات مؤسَّسة تكوين أو الرَّدِّ الرَّسميِّ على دُعاة الإلحاد أو الحوار الفكريِّ معهم بعيدًا عن مُهاترات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، الَّتي يتزعَّمها الغوغاء في معظم الأحيان، ويتصدَّرها الباحثون عن الشُّهرة وريادة المشهد من خلال ركوب موجات التَّريندات والمُتاجرة بهذا النَّوع من القضايا. وكذلك لم يكن ردُّ عبَّاس شومان أمين عامّ هيئة كبار علماء الأزهر مستغربًا حين كتب على صفحته في موقع فيسبوك: (تتابع الأمانة العامَّة لهيئة كبار العلماء حقيقة ما يُنشر عن تكوين للنَّيل من ثوابت الدِّين وأخلاقيَّات وقيم الأمَّة، وسيتَّخذ ما يلزم بعد الوقوف على الحقيقة). كما دعا وكيل الأزهر الدُّكتور محمَّد الضُّوينيُّ إلى التَّكاتف شعوبًا وحكومات لمواجهة التَّيَّار الجارف الَّذي يريد أن يفقد أبناؤنا فيه هويَّتهم، وأن يتحلَّلوا من قيم دينهم، وأن يتنكَّروا لمبادئه وقيمه وأخلاقه).
أين المشكلة في التَّعتيم أم في التَّنوير؟
إن شعرنا بالإعجاب تجاه ردَّة فعل شيخ الأزهر هذه المرَّة، وإن لم نستغرب ردِّ الشُّيوخ ومسارعة بعض أعضاء المؤسَّسات الدِّينيَّة للحديث عن إلحاد مؤسَّسة تكوين أو بعض كُتَّابها، فإنَّ تصدُّر علاء مبارك (ابن الرَّئيس المصريِّ الأسبق) المشهدَ للاصطفاف مع بعض رموز المؤسَّسة الدِّينيَّة في مناهضة مؤسَّسة تكوين منذ انطلاقتها الأولى، يكشف لنا -من جانب أوَّل- عن سيكولوجيَّة كثير ممَّن يتاجرون بالدِّين برغم بعدهم عنه، ويؤكِّد لنا -من جانب آخر- ما قاله محمَّد الماغوط بأنَّ مشكلة معظم شعوب هذه المنطقة ومنذ آلاف السِّنين حتَّى وقتنا الرَّاهن لم تكن مع الله -سبحانه وتعالى- أبدًا، وإنَّما مشكلة معظم النَّاس مع حُرَّاس الدِّين والعقيدة المزيِّفين؛ أولئك الباحثين عن الشُّهرة من خلال المتاجرة بالدِّين، والتَّكسُّب المادِّيِّ أو الجماهيريِّ من خلال دور الكاهن، الَّذي يعتاش أو يتكسَّب رزقه من خلال تأدية دور الوسيط بين الله والإنسان، وإن لم يوفِّر علاء مبارك هذه الفرصة للمتاجرة بها فقد رصدنا كثيرًا من غير المتديِّنين المعروفين بتعاطي بعض المشروبات المحرَّمةدينيًّا وهم يصيدون في المياه العكرة، ويظهرون بثوب المتديِّن الورع المدافع عن الدِّين والتُّراث معًا.
أين أنت وما موقفك قارئي الكريم؟!
عرضنا أشهر ردود الفعل المتباينة تجاه هذه المؤسَّسة لا للتَّشهير بها أو الاصطفاف مع فريق ضدَّ الآخر وإنَّما لنتجاوز مقولة: (للنَّاس فيما يعشقون ويعتنقون مذاهب) إلى تنبيه القارئ الكريم إلى جملة من القضايا الإشكاليَّة المرتبطة بنقد التُّراث وتدوين النُّصوص الدِّينيَّة ونقلها وتأويلها معًا؛ وسأختم هذا المقال بعد التَّنبيه إلى ذلك ببعض من الأسئلة: هل تُفضِّل قارئي الكريم إيمان العجائز على الإيمان بعد الجدل والحِجاج والنِّقاش؟ هل تميل إلى جماعة (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) أو ترغب بمعرفة الطَّريقة الَّتي دوَّن فيها قدماؤنا تراثنا؟ ماذا لو تأكَّد لك في يوم من الأيَّام أنَّ الكاتب الفلانيَّ كان كاتبًا كاذبًا أو راويًا مدلِّسًا باحثًا عن التِّريند والشُّهرة مثل بعض أدعياء الثَّقافة في وقتنا الرَّاهن؟ ماذا لو أكَّد لك عالم أو باحث بالدَّليل القاطع أنَّ ذاك الحديث الموضوع ما هو إلَّا قول مشهور وضعه فلان من النَّاس في مرحلة ما لأغراض محدَّدة؟ ماذا لو عرفت أنَّ ذاك التَّأويل المشهور تفسيرٌ غير صحيح ينطوي على خرافة إسرائيليَّة ما؟ هل ستحافظ على إيمانك بالخرافة أو تفضِّل الإيمان بالثَّابت الصَّحيح، الَّذي لا لُبْسَ فيه ولا مِرية حوله؟ أنا لا أقول هذا لدفعك في أيِّ اتِّجاه فأنت حرٌّ فيما تصبو أو ترنو إليه بقدر ما أدعوك إلى التَّأمُّل والتَّفكير، وفي المحصَّلة لا ضير عندي إن فكَّرتَ أو تأمَّلتَ أو رغبت بالحفاظ على ما وجدتَ عليه آباءك دون أيِّ رغبة بالتَّفكير، وسنبقى في المحصِّلة أخوة في الإنسانيَّة، وإن حرَّكت بعض هذه النِّقاشات المثيرة مياه أفكارنا الرَّاكدة منذ عقود!
بصراحة د مهنا أنا لم اتابع النقاشات حوّل هذه الهيئة بسبب المهاترات كما تفضلت والتي تنفر القارئ. ياريت لو تستمر بكتابتك الموضوعية لكي يتوفر لنا طريقة محايدة وغير عاطفية في متابعة هذا الأمر. وشكرا.