عقدة الحدود: عندما تتحول إلى أماكن رعب واعتقال لدى السوريين!
حواس محمود – العربي القديم
الحدود هذه الكلمة التي تحمل دلالات سياسية وتاريخية وجغرافية عديدة، الحدود التي يتمسك بها الطغاة لا حباً بالأرض التي تقع في إطارها، ولا بالشعب الذي يعيش في داخلها، إنما تستخدم كمزرعة للثروات الاقتصادية والبشرية، وكسجن كبير يعيش فيه الناس رعايا لا مواطنين في عرف الحاكم المستبد الأبدي. نعم إنها الحدود التي لي معها أكثر من قصة واقعية الى درجة بت ارتجف خوفاً كلما اقتربت من الحدود فهي التي توحي بكل معاني الخوف والقلق والرعب.
عندما ضاق بي المكان السوري – في مدينة القامشلي – على وسعه، مضايقات أمنية مستمرة، حرب إقتصادية ضد المهندسين ابتداء من عام 2008 عبر مرسوم العار المرسوم 49 بمنع الترخيص للعقارات الحدودية بدون موافقات أمنية – عندما ضاق بي المكان السوري على وسعه، قررت الرحيل إلى حيث المجهول تدفعني الحاجة الاقتصادية والحاجة النفسية لجزء ولو يسير من الديموقراطية والخروج من بوابة القمع المستدام، ففي أحد أيام الشهر العاشر من عام 2009 يممت شطر بوابة نصيبين / القامشلي الحدودية حاملاً معي حاجاتي الأساسية من ألبسة وغيرها و بضع كتب ودفتراًكنت قد دونت فيه بعض ما نشر لي في الصحف والدوريات العربية وذلك لغاية الارشفة والحفظ ، وقبل الوصول الى المكتب الذي يدقق في الجوازات كان هناك رجل أمن يفتش الحقائب المسافرة، فتش حقيبتي ووجد ذاك الدفتر الذي كان معي ما دفعه للسؤال عن مراسلاتي إلى المجلات والصحف الخليجية، منها كانت مجلة عسكرية عمانية (المجلات العسكرية غالبا تنشر مقالات ثقافية) هي مجلة أراسلها لأكسب منها بعض المال لأقاوم به تحديات وصعوبات المعيشة في سوريا، إلى جانب عملي الهندسي الذي توّقف بسبب قرارات الحكومة التعسفية التي أدت الى قطع رزقي واتخاذي قراري بالرحيل الصعب والمر في آن.
أقول جاوبت على السؤال بأنني أراسل هذه المجلات وأنا كاتب ولدي كتب مطبوعة في دمشق. وسألني عنصر الأمن أيضا إلى أين أنت ذاهب؟ أجبته خوفاً من توقيف أو منع من السفر: أنني سأسافر إلى تركيا وليس كردستان العراق – حيث وجهتي – وأكدت كلامي له بالإشارة الى بعض الأصدقاء الذين كانوا قد بدأوا الدخول للبوابة وهم حقيقة ذاهبون لتركيا، يبدو أنّ إشارتي له أنني سأذهب معهم إلى تركيا قد أقنعته، فتراخى عنصر الأمن وتوقف عن الأسئلة، فهممت- فرحاً بنفاذي من توقيف أو منع من السفر- واستعدت للمضي في المسير إلى المكتب المختص في التدقيق على الجوازات ويدي على قلبي كما يقولون، وقفت على الدور وخلصت التدقيق ودخلت مع تلك الجماعة من الأصدقاء الى الأراضي التركية مع شعور بالفرح الممزوج بالحزن والقلق، فرح بالتخلص ولو جزئياً من سجن كبير يخنقني فيه النظام ويحبس أنفاسي ويحصي حركاتي وسكناتي، وحزن على فراق الأهل والأحبة والأصدقاء، وقلق بذهابي إلى كردستان حيث مصيري غير معروف هل سألاقي عملاً؟هل سأتوفق في وظيفة ما؟ كيف ستكون المعاملة في الإقليم ومن من الأصدقاء سيتعاونون معي؟ و.. و..إلخ
التفت ورائي ووجدت طفلي الاثنين لازالا واقفين أمام البوابة ينتظران رحيلي. نظرت إليهما وقلبي يحترق ألما على فراقهما ومن ثم توجهت مع الأصدقاء إلى مدينة (نصيبين) التركية وأمضيت ساعات قليلة في تركيا ، ومن ثم إستعدت للرحيل إلى كردستان. ركبت حافلة وتوجهت إلى كردستان أمضيت سنة وأربعة اشهر تقريبا في كردستان وعانيت كثيراً في البداية في الحصول على عمل، إلى أن وجدته في مطبعة إسمها (آراس) وبعد إنضمام عائلتي إليّ عام 2010 الشهر التاسع، أمضيت معهم أربعة أشهر قبل قراري العودة إلى سورية ، وعندما أعددت للعودة مع العائلة إلى سورية توقعت أن أدخل السجن وفعلاً عندما إن دخلت الحدود السورية نصيبين / القامشلي بتاريخ 12-1- 2011 حتى تم توقيفي أمام عائلتي، وبخاصة أمام طفلي الصغير الذي كان بعمر أربع سنوات، وهو ينظر الي وأنا داخل غرفة النظارة الصغيرة، في جو كانوني بارد وقارس جداً، رغم أنني لا أحب فصل الشتاء بسبب البرد، وعندي ألم حاد في المفاصل.
أمضيت بضع ساعات بانتظار أن تأتي سيارة خاصة بالأمن الجنائي لاستلامي وزجي بمقرهم بالقامشلي. أثناء مرورنا بالسيارة رأيت أمي – التي غبت عنها حوالي سنة ونصف – وهي واقفة خارج بوابة الحدود وهي تلوح بيدها منزعجة من التصرف الأحمق للنظام السوري بتوقيفي، وبعد أن دخلت مقر الأمن الجنائي شعرت بالرعب والخوف الشديدين، لأن مجرد ذكر اسم الفرع كاف لإدخال القلق والرعب في نفس أي إنسان، فكيف الأمر وأنا أصبحت داخل جدرانه. عناصر الفرع قرروا إدخالي غرفة كان بها أحد الموقوفين بتهمة جنائية غير سياسية، عملية إدخالي للأمن الجنائي جاءت بعد رفض فرع الأمن السياسي بالقامشلي استقبالي لأنني مطلوب للأمن السياسي بالحسكة وليس القامشلي، أمضيت بضع ساعات في الأمن الجنائي وأنا أريد أن أخرج منه لأذهب للفرع الذي طلبني، لأرى ماذا سيطلبون مني، وعن ماذا سيتحدثون… وباختصار ما هي تهمتي الجرمية؟!
جاءت سيارة خاصة بالأمن الجنائي وأقلتني مع شخص آخر ربما كان مطلوباً لجهة أخرى، وعسكريين ربما منتميان للأمن الجنائي وبالطبع مع سائق السيارة. عندما وصلت إلى الأمن السياسي بالحسكة فُوجئت بصراخ المساعد علي، ومن ثم أدخلت الى زنزانة منفردة مع معتقلين آخرين من قامشلي. أحدهما كان متهما بتهريب البشر إلى أوروبا، والآخر بسبب مظاهرات قام بها أكراد سوريون في قبرص عام 2010 للمطالبة بإقامات هناك، وبسببها تم ترحيلهم إلى سوريا ومن ثم بعد فترة أودعوا السجون، وكان الذي معنا أحد هؤلاء. المهم تم التحقيق معي حول كتاباتي في الصحافة الانترنيتية، وبعد سبعة أيام في زنزانة منفردة مظلمة، تم تحويلي إلى قاضي الفرد العسكري بالقامشلي. حقق معي القاضي وإتهمني أنني أساهم في تخريب سورية أجبته أننا – أقصد أحرار سورية – نريد بناء سوريا، نريد بناء الإنسان السوري الحر، نريد وطناً حراً ديموقراطياً تصان فيه كل الحريات. وبعد التحقيق تم تحويلي إلى سجن القامشلي المركزي بمنطقة علاية، وهناك أمضيت شهراً ونصف وبعدها تم إطلاق صراحي في نهاية شباط 2011 لعدم كفاية الأدلة.
في هذا الأثناء كانت الثورات العربية في أوج إشتعالها ولهيبها، وبعد فترة قصيرة انطلقت الثورة السورية. أمضيت في القامشلي حوالي سنتين وبضعة أشهر بعد إطلاق سراحي، ومن ثم فكرت بالهجرة ثانية بعد أن تفاقمت الأوضاع الأمنية والاقتصادية في سورية… فقررت الهجرة هذه المرة إلى لبنان، أعددنا كعائلة للسفر إلى بيروت وانطلقنا نهاية آذار/ مارس 2013 إلى بيروت. إبتداء من القامشلي عبرنا – ونحن ذاهبون إلى الحدود السورية اللبنانية – العديد من الحواجز للمعارضة والنظام على حد سواء، إلى أن وصلنا أخيراً إلى حاجز الحدود السورية اللبنانية، عندها تم السماح لعائلتي بالعبور فيما تم منعي من السفر، وهنا اضطررت للعودة الى سوريا، طلبت جواز سفري الذي انتقل مع حقيبتي الى بيروت، عاد الي الجواز عبر أحد سائقي الباصات بين القامشلي وبيروت، فكرت أن أذهب إلى بيروت عبر بوابة تل أبيض ولكن وقعت في حيرة من أمري إذ أن هناك من قال لي أن الجيش الحر في تل أبيض يختم الجوازات بختمه، وفي بيروت قد تتعرض لمضايقة أو اعتقال من قبل موظفي المطار، الذي أشيع عنهم أنهم موالون لحزب الله ، هذا بحسب قولهم إذا تم ختم الجواز من قبل الجيش الحر، أما إذا لم يختم الجيش الحر الجواز فمن الممكن ألا أستطيع عمل خروج في مطار أتاتورك حين توجهي إلى بيروت.
هذا الأمر شكل لي مصدر حيرة وقلق كبيرين، لكنني عملت بنصيحة احد أصدقائي في القامشلي إذ قال لي توكل على الله : غامر وانطلق لتصل إلى عائلتك ببيروت ولا تتردد. توجهت في أحد صباحات نيسان الباكرة من ذاك العام 2013 إلى بوابة تل أبيض ومن ثم نمت ليلة بمدينة أورفة التركية ومنها بالطائرة الى مطار استنبول.
كان الفارق الزمني بين وصولي إلى مطار استنبول وموعد انطلاق طائرتي إلى بيروت ست ساعات، ولكي أنهي حيرتي حول ختم الخروج من عدمه قررت الاستعجال لمراجعة الموظف المختص بختم الجوازات، وكانت فرحتي الكبرى حين تم ختم جوازي فبقيت داخل المطار أنتظر قرب موعد الطائرة، وحين اقترب موعد إقلاع الطائرة التركية الى بيروت كانت المفاجأة المزعجة إذ تم التدقيق كثيراً في الجوازات عند بوابة الإقلاع وأزيح أربعة سوريين من طابور العبور. لا أعرف ماذا كانوا يريدون من السوريين الآخرين، أما بالنسبة لي ففهمت أن عدم ختم الجواز في تل أبيض هو ربما يكون السبب، كان هناك ثلاثة شبان لبنانيون حاولوا مساعدتي، ومع رجائي المتكرر من موظف المطار بأن يتم تسهيل أمري، تم غض الطرف عني وركبت الطائرة وأنا أشعر بسعادة الذهاب لبيروت حيث عائلتي تنتظرني، وقبل انطلاق الطائرة بدقائق دخل نفس الموظفين -الذين حاولوا منعي من السفر – إلى الطائرة فأصبت بخوف شديد وأنا أعد الدقائق والثواني لانطلاق الطائرة بسلام، وأقول في نفسي – خلي الطائرة تقلع من المطار وبعدها شو ما يصير خلي يصير –! وكأنني سأهرب إلى دولة أوربية وتنجح عملية هروبي من الشرق الأوسط كله!
وصلت بيروت ليلاً ولم تحصل أي مضايقة لي في المطار كانت الإجراءات سلسة جداً ، وإتصلت بالعائلة لأخذ العنوان وأخذت سيارة الى حيث عائلتي. أمضيت سنة وشهرين في بيروت قبل أن أنطلق إلى النرويج في صيف 2014 مودعاً بيروت الجميلة والرائعة بحق، وذلك بعد أن وافقت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة UN على سفري إلى النرويج.
كانت رحلتي عبر الحدود خلال خمس سنوات من 2009 الى 2014 رحلة شاقة ومتعبة بكل المعايير عبر تنقلي وعائلتي من بلد الى بلد وبخاصة أثناء خروجي ودخولي سوريا حيث القمع والمضايقة والرعب الكبير .
أحيانا أقول إن المعجزات البشرية كثيرة ، قصتي لا تشكل شيئا أمام الاهوال التي تعرض لها غيري وهم يقطعون الحدود ويتعرضون للضرب والإهانات ويركبون البحار، منهم من يصل الى سبيل النجاة ومنهم من يغرق !
أعتقد أن الشعب السوري سيسجل ملاحم إبداعية ضخمة، وسيتشكل لديه أدب المعاناة، وأدب الثورة، وأدب المقاومة، بشكل قل مثيله في التاريخ الإبداعي العالمي.