نوافذ الإثنين: إسطنبول وامتزاج الحضارات
سألني أحد الأصدقاء وأنا أستعد للسفر إلى تركيا: ما هي الأشياء التي تخطر ببالك عن تركيا وأنت تصعد الطائرة؟
فكرت قليلا قبل الإجابة على سؤال الصديق وقلت: يخطر على بالي مدينة ماردين وأورفا وغازي عنتاب وديار بكر وانطاكية والريحانية وانطاليا وقونية، وقبل كل ذلك لا أستطيع أن أتجاوز مدينة إسطنبول، المدينة المشتهاة من قبل كل العالم.
قال صديقي: فصّل لي ما أوجزت.
قلت: كانت إسطنبول عاصمة العالم مرتين؛ مرة عندما كانت عاصمة المسيحيين، وكانت تحمل اسم القسطنطينية، ومرة أخرى عندما أصبحت عاصمة المسلمين، وحملت اسم إسطنبول، وفي الحالتين كانت مركز العالم.
وتابعت قائلا لصديقي: سأذكر ثلاثة أشياء موجودة في إسطنبول، وتحضر في ذهني مباشرة في كل مرة أسمع فيها اسم تركيا.
أولا: جامع السلطان أحمد، أو الجامع الأزق:
في عام ٢٠١٣ كنت في إسطنبول للمرة الأولى لحضور أحد مؤتمرات المعارضة السورية، خرجت من الاجتماعات والأسى يغلف قلبي. وتشاء الصدف أن ألتقي بأصدقاء سوريين في زيارة سياحية للمدينة، فقال لي أحدهم: ماذا تعرف عن إسطنبول؟ قلت له: لا شيء. قال: يجب أن ترى الجامع الأزق. ذهبنا إلى الجامع، وكانت دهشتي تفوق الوصف فقد وقفت جامدا أتأمل جمال الأزق، وأحسست كأني أغرق في المحيط، وأحتاج إلى منقذ، وكان المنقذ أمامي: امرأة أوروبية شقراء في عمر الخمسين ربما، تركع قرب أحد أعمدة الجامع وعيناه تتأملان المحيط، ورأيتها تتمتم وترسم شارة الصليب على صدرها، فعرفت وقتها أن هيبة الجمال تجاوزت الحدود ووحدت الأديان، كما الموجة التي تنفصل عن المحيط لعدد من الثواني ثم تعود لتذوب في مياه المحيط.
بنى الجامع المهندس الشهير صدفكار محمد آغا، بأمر من السلطان أحمد الأول عام ١٦١٦م، في ساحة ميدان الخيل البيزنطي، التي تعرف الآن بساحة السلطان أحمد. وقد اشتهر بعمارته المميزة، حيث يعد من أهم المساجد في العالم الإسلامي. ونرى في بناء الجامع ٢٠٠ عام من الخبرة العثمانية في بناء الجوامع، يضاف إلى ذلك الأثر البيزنطي المستمد من عمارة آيا صوفيا، التي تقع قريبا منه، كما نلاحظ فيه الأثر الفارسي.
هذا المزيج من الحضارة هو ما يدفع الإنسان إلى الأمام، وما حركة السيدة الأوربية في رسمها للصليب وهي تركع في الجامع الأزق إلا مثال على هذا التكامل والاندماج الحضاري.
ثانيا: مسجد آيا صوفيا:
اعتبارا من عام ٢٠١٤، قررت أن أزور تركيا سنويا، ففيها الكثير الذي يجب أن أراه من عناصر ومكونات ثقافتي الاسلامية وتراث أجدادي المسيحيين، فوضعت خارطة طريق تقودني إلى أشهر الآثار، وكانت المحطة الأولى لي كنيسة أو متحف أو مسجد آية صوفيا، وتغير الأسماء لم يؤثر على المعنى الحضاري الذي يمثله الموقع.
بنيت آيا صوفيا عام ٧٣٧م لتكون كاتدرائية مسيحية، في عد الامبراطور جستينيان الأول، وكان البناء في ذلك الوقت أكبر مبنى في العالم، وأول من استخدم قبة معلقة بالكامل. أُعتبر المبنى ”جوهرة العمارة البيزنطية“، وقِيل أنه ”غير تاريخ العمارة“. ويشير بعض المؤرخين أن آيا صوفيا اعتُبرت رمزا ثقافيا ومعماريا وأيقونة للحضارة البيزنطية، والحضارة المسيحية الارثوذكسية. وكان البناء مصدر إلهام لبناء العديد من المساجد العثمانية، ويُنسب إلى المعمار الأشهر في الدولة العثمانية سنان باشا أنه أعتبر عمارة آيا صوفيا تحديا عليه تجاوزه، وقد فعل ذلك أثناء بنائه مسجد السلطان سليمان القانوني. كما فعل ذلك تلميذه محمد آغا عند بناء الجامع الأزرق.
بعد فتح القسطنطينية عام ١٤٥٣م، حول محمد الفاتح الكنيسة إلى جامع وأضاف بعض الملامح الإسلامية كالمئذنتين والمحراب، وفي عام ١٩٣٥ حولها كمال أتاتورك إلى متحف، ثم أعادها الرئيس أردوغان إلى جامع عام ٢٠٢٠م
أخيرا يمكن القول:” ما بين كنيسة ومسجد ومتحف تظل لبناء “آيا صوفيا” في مدينة اسطنبول رمزية تاريخية ودينية وسياسية كبرى على مدار عمرها الممتد لما يقرب من 1500 عام، فضلاً عن كونها تحفة معمارية فريدة وأحد أهم الآثار الفنية في العالم” ومثالا حي على تمازج الحضارات.
ثالثا: برج غلطة:
برج غلطة، والمسمى أيضا برج ”المسيح“، هو بناية على شكل أسطوانة عالية ذات سقف مخروطي، مكونة من تسع طوابق، ارتفاعها ٦٦،٩٠م، وقطر البرج ١٦،٤٥م عند القاعدة، وقطره الداخلي ٨،٩٥م، وسماكة الجدران ٣،٧٥م. في طوابقه العليا مطعم ومقهى.
تم بناء البرج المصمم على الطراز المعماري ”الرومانسكي“ الذي يعني (روماني+بيزنطي)، في عام ٥٠٧م ، وفي عام ١٣٤٨م، أثناء توسع مستعمرة جمهورية ”جنوة“ في القسطنطينية تم بناء البرج ليحل محل برج غلطة البيزنطي القديم. وتم ترميمه من قبل العثمانيين عام ١٥٠٩م، بعد الزلزال الذي ضرب إسطنبول.
استخدم البرج لأغراض متعددة في العصرين البيزنطي والعثماني، فكان برجا لمراقبة السفن والحرايق، وسجنا لعزل المرضى الخطيرين، ومرصدا، وكان المكان الذي طار منه العثماني هزارفن أحمد شلبي عام ١٦٣٢م، من برج غلطة حتى اسكودار، قاطعا ٦ كيلو متر، كما تقول الأسطورة التركية.
يمكنني تكرار القول الذي كتبته عن آيا صوفيا، عن برج غلطة: على مدار عمره الممتد لما يقرب من 1500 بقي البرج أحد أهم الآثار الفنية في العالم” ومثالا حي على تمازج الحضارات.
في الخاتمة لا بد من القول إن الحضارات هي فعل بشري تراكمي، وكل حضارة مبنية على ما سبقها، ومؤسِسة لما يليها، وتبقي الفروق هي سمات خاصة لكل شعب، دون أن تفصلها عن تطور قصة الحضارة الإنسانية.
ماردين في ١-١٠- ٢٠٢٣