اللاذقية بين أهلها وجيرانها
محمد منصور
رغم تعدد المدن الساحلية في سورية، لم يرتبط البحر في ذاكرة السوريين بمدينة أو ناحية، مثلما ارتبط باللاذقية، فقد كانت اللاذقية على الدوام معشوقتنا البحرية، ونافذتنا الأكبر والأجمل على دفء المتوسط، وعنوان شغفنا بالرمال الذهبية وزرقة الشاطئ، وعلو الجبل حين يحتضن الغابات كاحتضانه القرى والبشر، ثم يمضي ليلتقي بالبحر وكأنه يهفو إليه… وحتى أدب البحر، لم يرتبط في الرواية السورية بمدينة، مثلما ارتبط باللاذقية، مدينة حنا مينة التي أتاها نازحاً من لواء إسكندرون، ثم ذاب بحبها، فكتب لها وعنها.
لا أدري من أطلق عليها (لاذقية العرب)، لكن الكتاب الذي وضعه إلياس صالح اللاذقي في أواخر القرن التاسع عشر، تحت عنوان: (آثار الحقب في لاذقية العرب)، يوضح أن اللقب يعود إلى العهد العثماني، كما أنني خلال بحثي، وجدت أن هذا اللقب كان متداولاً في صحافة القرن العشرين، وقد ورد -مثلاً- في رسالة مراسل بانياس، حول زيارة الموسيقار محمود عجان للمدينة عام 1935، والتي نشرنا صورة ضوئية عنها ص(33)، قبل أن يأتينا ناصري مهووس، فيقول لنا: “لاذقية العرب.. هذه تسمية جمال عبد الناصر دون شك”.
لكن ربما أخفى هذا اللقب صراعاً حول الهوية، هوية المدينة التي كانت دوماً عرضة للتجاذبات، شأنها شأن كل المدن التي نُكبت بحب الناس لها وتنازعهم عليها، وخصوصاً أن المدينة تحولت أيام تقسيم سورية إلى خمس دويلات على يد الانتداب الفرنسي، إلى عاصمة لدولة رفض قسم من أهلها العودة إلى حضن الوطن السوري، بعد توقيع معاهدة الاستقلال مع فرنسا، فنشأ صراع بين دعاة الوحدة، ودعاة التقسيم، والتمترس الطائفي، لكن بدوي الجبل الذي كان من أنصار التقسيم، ثم انقلب عليه، جعل من اللاذقية مفتاحاً للروح السورية في قصيدته الذائعة الصيت، والمغناة بلحن سيد مكاوي، والتي مطلعها: “سقى الله عند اللاذقية شاطئاً مراحاً لأحلامي ومغنى وملعبا”، فقد افتتح باللاذقية، لكنه مرّ على ذكر كل المدن، والأقاليم السورية وحيّاها.
في كل الأحوال، سنجد في هذا العدد الخاص عن اللاذقية وتاريخها، الكثير من الوثائق والدراسات والتحليلات حول صراع الهوية والطوائف الذي عاشته المدينة في غير حقبة من تاريخها، حتى صارت “عزيز قوم ذُل”، في زمن حكم الحثالة الأسدية، لكن ما لا يمكن لأي سوري أن ينساه، عندما تُذكر اللاذقية: أهلها. فأهل اللاذقية لؤلؤة بحرها، ومَعلم من أبهى معالمها، بحر من الحنو، والدفء والكرم، والتسامي الذي لا يخطئ زائر المدينة عبقه. وقد عرفت الكثير من أبناء اللاذقية الكرام في زمن الشتات السوري، فما رأيت فيهم غير ما رأيته، عندما كنا نقصد المدينة في سنوات الطفولة والمراهقة؛ لنسبح في بحرها، ونأكل مما يصطاده صيادوها، فهم الأبعد تعصباً وطائفية، رغم ما مُورس عليهم، وما عانوه من سوء الجيرة والجوار في الحقبة الأسدية السوداء.
يأتي هذا العدد الخاص من (العربي القديم) عن “اللاذقية معشوقتنا البحرية”، وهي تتم عامها الأول من الصدور الشهري المنتظم الذي لم تخلف فيه مع قرائها من عشاق التاريخ موعداً. لقد استمرت (العربي القديم)، عبر جهد سوري مستقل، جمعته روح التكاتف الجماعي ونبل التطوع، وبالتأكيد فاختتام عامنا الأول بـ”اللاذقية” هو ختام مسكٍ لمدينة، طالما علّمتنا الصبر والتسامي على الجراح، وطالما أهدتنا الجمال والعراقة والمعرفة والأبجدية الأولى، وطالما اتسع صدرها اتساع البحر الذي جاورته لكل هموم الوطن السوري، فكانت مرآة صادقة لخلجات الروح الوطنية، مرآة أبنائها من كل الطوائف، كل حسب درجة ولائه للوطن والأرض، ولقيم الحرية التي كتب عنها ابن اللاذقية ميشيل كيلو يوماً: “الحرية هي النقطة التي فصل السوريون أنفسهم بواسطتها عن إجرام الأسدية وبؤسها، وشتلة المستقبل اليانعة التي تتنامى كل يوم، وفي كل خطوة يخطونها، حيثما كانوا”.
___________________________________
زاوية رئيس التحرير في العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا