الأدب العالمي يودع إسماعيل كادرايه: الروائي الألباني الذي أبهر العالم وخانته نوبل!
كتب: محمد منصور
رغم العزلة التي عاشت فيها ألبانيا لعقود، غدت فيها بلدا منغلقاً نادرا ما يرد ذكره في نشرات الأخبار، وخصوصا في ظل ديكتاتورها الأوحد أنور خوجة الذي حكمها نحو ثلاثة عقود بين منتصف أربعينيات وثمانينات القرن العشرين، إلا أن اسماعيل كادرايه الأديب والروائي الألباني الذي ترجمت أعماله لعشرات اللغات الأجنبية، استطاع أن يحمل اسم بلده عالياً في عالم الأدب والثقافة وتاليا السياسة، وتمكن بفضل المكانة التي تبوأها في الرواية العالمية والتي أهلته ليكون أحد مرشحي جائزة نوبل لسنوات، من أن يغدو عنوانا من عناوين ألبانيا سواء في مرحلة الحكم الشيوعي أوما بعده… بل حتى يمكن القول أنه عاصر كل التحولات السياسية التي صنعت ألبانيا في العصر الحديث. ولهذا يبدو رحيله عن عمر يناهز 88 عاماً يوم أمس الأثنين في الأول من تموز/ يوليو الجاري، حدثاً يعيد اسم ألبانيا الغائبة إلى سجل الأخبار.
من الملكية إلى الفاشية فالحكم الشيوعي
ولد اسماعيل كاداريه في 28 يناير 1936 في مدينة (جيروكاستر) الجبلية التاريخية الحصينة في الجنوب الألباني، خلال العهد الملكي، إبان حكم الملك زوغ الأول لمملكة ألبانيا، وبعد ثلاث سنوات من ولادته، غزت قوات موسوليني ألبانيا وأطاحت بالملك، لتحكم إيطاليا الفاشية بلاده لمدة ست سنوات، وتتأسس جمهورية ألبانيا الاشتراكية الشعبية بقيادة الشيوعيين، وفي تلك الفترة التحق كاداريه بالمدارس الابتدائية والثانوية في مدينته، ودرس بعد ذلك اللغات والأدب في كلية التاريخ وفقه اللغة بجامعة العاصمة تيرانا، وحصل سنة 1956 على شهادة المعلم، وتزوج من الكاتبة الألبانية هيلينا جوشي، ثم حصل على منحة دراسية لمتابعة دراسته في معهد غوركي للأدب العالمي. واطلع على الثقافة الغربية.
عاش إسماعيل كادرايه في العاصمة الألبانية تيرانا حتى سنة 1990، لينتقل إلى فرنسا، وصار منذ سنة 1996 عضواً مدى الحياة في أكاديمية العلوم السياسيّة والأخلاقيّة الفرنسيّة، وفي سنة 2016 حصل على وسام جوقة الشرف الفرنسي، وفي سنة 2019 تم تحويل شقته في تيرانا إلى متحف يعرض أعماله وحياته، ومنذ التسعينيات ظل الحزبان السياسيان الرئيسيان في ألبانيا يطالبانه أن يصبح رئيساً توافقياً للبلاد، ولكنه أصرّ على رفض لذلك.
روايات أكسبته شهرة عالمية
بدأ كاداريه في الكتابة منتصف الخمسينيات، فكان روائياً وشاعراً وكاتب مقالات وسيناريو ومسرحيات، ركز في بداياته على الشعر، ونَشْر بعض القصص القصيرة، حتى نَشَر روايته الأولى «جنرال الجيش الميت» سنة 1963، التي لفتت الأنظار إلى تجربته الأدبية، وأكسبته شهرة عالمية، وهي رواية تحكي قصة جنرال إيطالي في مهمة قاسية يحاول خلالها العثور على رفات جنود بلاده، الذين لقوا حتفهم في ألبانيا خلال الحرب العالمية الثانية وإعادتهم إلى إيطاليا، لتتوالى أعماله الروائية، مثل: رواية (الحصار) الصادرة سنة 1970، والتي تتناول التاريخ الألباني، وتروي بأسلوب ملحمي مبهر قصة المقاومة المسلحة للشعب الألباني ضد العثمانيين في القرن الخامس عشر، ورواية (قصة مدينة الحجارة) الصادرة سنة 1971، التي استلهم وقائعها من تاريخ مدينته جيروكاسترا، وكذلك رواية (الشتاء العظيم)، الصادرة سنة 1977 وتصور الأحداث التي أدت إلى الانفصال بين ألبانيا والاتحاد السوفييتي.
وتعتبر روايته (نيسان المكسور) أو (نيسان المهشم) الصادرة سنة 1980، والتي كتبها باللغة الألبانية وترجمت إلى الإنجليزية من أهم أعماله، وهي رواية ذات ملمح إنساني مذهل بالدرجة الأولى رغم صلتها الملحمية بالتاريخ الألباني، لكونها تتناول قضية الثأر بأسلوب نفسي غير تقليدي، يزيح النقاب عما يعتمل في نفوس أبطاله من أفكار ومشاعر، ويذكر أن الرواية قد حُوِّلَت إلى فلمين سنمائيين الأول عام 1984م بعنوان (غير المدعوين) للمخرج الألباني كوجيم تشاشكو، والثاني بعنوان (وراء الشمس) للمخرج البرازيلي والتر ساليس.
السوريون أول من ترجم أعماله إلى العربية
اهتم السوريون بترجمة أدب إسماعيل كاداريه إلى العربية، وكانوا سباقين في ذلك منذ ثمانينات القرن العشرين، ففي عام 1982 صدرت لكاداريه ترجمة عربية لأشعاره (حصان طروادة يلقى حتفه)، عن وزارة الثقافة السورية، ونقلها إلى العربية عبد اللطيف الأرناؤوط… وقبل ذلك بعام أصدرت له وزارة الثقافة السورية أيضاً الترجمة العربية الأولى لرواية “جنرال الجيش الميت”، وهي الرواية التي فتحت أمامه طريق الشهرة، ثم أتبع المترجم ذاته اهتمامه بأدب كادرايه بترجمة رواية “الحصن” التي صدرت ضمن سلسلة روايات عالمية التي كانت تصدرها وزارة الثقافة السورية عام 1986… وبعد كل هذه الأعمال التي ترجمت له في سورية، بدأ العرب بالالتفات إلى أعماله فترجم وديع سعادة روايته (نيسان مقصوف) التي صدرت عن الدار الشرقية في لبنان عام 1986. كما صدرت الرواية الشهيرة “قصر الأحلام” بترجمة حياة الحويك عن دار الآداب؟
رئيس “جبهة وطنية تقدمية” على الطريقة الألبانية
ويرى النقاد أن رواية (قصر الأحلام) أفضت بكاداريه إلى مواجهة مع بعض تيارات السُّلطة الشمولية داخل بلاده حينها، لكنه رغم ذلك لم تحظر أعماله بسبب صداقته مع ديكتاتور ألبانيا أنور خوجا الذي كشفت الوثائق أن علاقة شخصية قويّة جمعته به، وتستدل على ذلك بتقلده منصباً رفيعاًهو (نائب رئيس الجبهة الديمقراطية)، وكانت تلك الواجهة الشكليّة لحُكم “الحزب الشيوعي” وهي تشبه “الجبهة الوطنية التقدمية” التي اخترعها مستشارو الديكتاتور حافظ الأسد في السبعينيات. لكن كاداريه الذي شم روائح عاصفة البرويسترويكا الهادئة التي أطلقها من موسكو ثم تحولت إلى عواصف هبت على المعسكر الاشتراكي كله وفرطت قلاع حكم الشمولية الصدئة، تمكن من إعلان “انشقاقه” في أواخر أيام الحُكم الشيوعي عام 1990، وقدم طلب لجوء إلى باريس، ثم حيث نال الجنسية الفرنسية تقديرا لمكانته الأدبية وكتابته باللغة الفرنسية.
وبتقديري لو قدر لكادريه أن ينشق عن المعسكر الشيوعي في عز سطوة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لكان وقع انشقاقه أقوى، ولأهلّه ذلك للفوز بنوبل التي فاز بها بوريس باسترناك بعد انشقاقه عن الاتحاد السوفييتي في ستينيات القرن العشرين… لكن انشقاق كادريه جاء في الوقع المستقطع الأخير… فخانته نوبل كما خانه الاهتمام العالمي بحدث انشقاقه.
كتب كاداريه بلغة بلاده الألبانية وبالفرنسية، وحاز العديد من الجوائز الرفيعة في حياته منها، جائزة مان بوكر الدولية للرواية في العام 2005، وجائزة استورياس عام 2009، وجائزة نويستان الأمريكية الأدبية عام 2020 وبحلول عام 2020، كانت معظم أعمال كاداريه التي يبلغ عددها نحو 80 مُؤلفاً قد ترجمت ونشرت إلى أكثر من 45 لغة.
في حوار أخير له مع وكالة فرانس في خريف عام 2023، قال الكاتب لوكالة فرانس برس، إن “الجحيم الشيوعي، مثل أي جحيم آخر، خانق… لكن في الأدب يتحوّل إلى قوة حياة، قوة تساعدك على البقاء والتغلّب مرفوع الرأس على الدكتاتورية”. وقد استخدم كاداريه التاريخ والأساطير من أجل أن يحاكم واقعاً يرزح تحت حكم الديكتاتورية… وقد استطاع أن يسجل في أدبه موقفاً، أكثر نبلا وديمومة مما فعل في حياته السياسية وفي بعض المناصب الشرفية التي تولاها أثناء حكم الديكتاتورية. لكنه قدم مثالا في النهاية عن الأديب الكبير الذي تسجنه الأيديولوجيا لفترة من الزمن، قبل أن يكسر قيوده ويسجل موقفا في اللحظات الأخيرة.