مذكرات أكرم الحوراني: أدان الجميع وبرّأ نفسه
سعد فنصة – العربي القديم
دون أدنى ريب، نشأ أكرم الحوراني في دار من دور الأسر المتوسطة، التي تتصف بالحس العروبي الوطني في مدينته حماة. توفي والده وهو لم يزل طفلاً صغيراً في سنواته الخمس الأولى، وكان عمه مصطفى الحوراني أحد الشخصيات الرئيسة في تكوّن وعيه السياسي المبكر، عندما كان يدرس في تجهيز مكتب عنبر دمشق في بلاد يتنفس أهلها السياسة والكفاح الوطني في رغيف الخبر.
كان عمه مصطفى يدرس الحقوق في دمشق، وأحد أعضاء الكتلة الوطنية، ويَؤمّه عدد من رفاقه وزملاء دراسته، منهم الشاعران أمين نخلة، ومحمد البزم، واللذان كانا يصحبانه إلى الحفلات السياسية والجماهيرية للزعامات الوطنية: فوزي الغزي، وهاشم بك الأتاسي، وإبراهيم هنانو، وغيرهم الذين شكلوا بخطبهم وحماسهم الوطني تاريخ القضية العربية والسورية، وتطورها في وعي جماهير عريضة، اخترقت حدود الجغرافية السورية، وكان تأثر الجماهير العريضة بها كبيراً، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي.
في سابق الأيام تعرّف على عثمان الحوراني، أحد أبرز الشخصيات الوطنية الشهيرة، وصدف أن كان أحد أقربائه الأبعد، قد عمل على إذكاء التمرد ضد سلطات الاحتلال الفرنسي في سوريا. كانت تلك الشخصية ذات شهرة، ليس في سوريا وحدها، إذ كان لقبه يسبقه والمكنّى بـ “أبو الثورات” شارك في ثورة عام 1925، وفي جميع الانتفاضات الشعبية المسلحة التي كانت تشتعل بين الفينة والأخرى في سوريا والعراق، وليكون في مقدمة الثائرين العرب، حتى حُكم بالإعدام، وفرّ إلى العراق، إلى حين أبعدته السلطات العراقية التي لجأ اليها، إلى البحرين، بعد صدامه مع البريطانيين.
عثمان الحوراني أحد الرموز البارزة لمؤسسي حركة القوميين العرب، مع رفيق دربه الطبيب توفيق الشيشكلي وغيرهم من رجالات تلك الحركة، إضافة إلى أنه مؤسس حزب (الشباب)، والذي انتسب إليه أكرم الحوراني في مطلع شبابه، ومن خلاله بدأ اتصاله بالعمل السياسي، ويرجح كثر من رفاق تلك المرحلة أن الزعامة الوطنية والفعلية الحقيقية كانت لعثمان الحوراني، وبالرغم من غياب عثمان الحوراني عن المشهد السياسي، في ما بعد، اختطف أكرم الحوراني الراية الوطنية، بعد أن راوده طموحه أن يكون رائداً وطنياً وسياسياً، مثل قريبه عثمان الحوراني الذي يكبره بعشر سنوات، ولأن يكون ملهماً للكثير من الشباب المتحمس بالشعارات القومية والتحررية.
وقبل انتسابه لحزب الشباب كان أكرم الحوراني منتسباً للحزب السوري القومي، وقد أتى باقتضاب على ذكر تاريخ انتسابه لحزب أنطون سعادة عام 1936، وإنه غادره بعد عام واحد، إثر لقاء تم بينه وبين مؤسس الحزب في منزل صلاح الشيشكلي المنتمي إلى الحزب، لينضم إلى حزب الشباب في حماة، باعتباره بديلاً أو منافساً للكتلة الوطنية برموزها السياسية التقليدية آنذاك. وفي سطر واحد، ودون إيراد أي تفاصيل إضافية، وبقفزة واحدة من نهاية الثلاثينات إلى مطلع الخمسينات، أورد فكرة تحول حزب الشباب من مؤسسه عثمان الحوراني إلى أكرم الحوراني بعد تغيير اسم الحزب.
فخلال نهاية ثلاثينات القرن الماضي، وخلال زيارة موكب شعبي لقبور الشهداء، تكريساً لفكرة حزب الشباب على التضحية في سبيل الحرية والمُثل الوطنية العليا، كتب يقول: “كانت الجولة على قبور الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في ثورات سورية المتعاقبة خير فاتحة لميلاد حزب شعبي تحرري، سمّي في ما بعد بداية الخمسينات (الحزب العربي الاشتراكي).
وقد فسّر بعض كتاب المذكرات والشهود العارفين ببواطن الأمور، أن أصول الزعامة الفكرية المؤسسة في حماة، كانت لشخصية فريدة في العائلة، هو عثمان الحوراني، وقام هو بحياة عينه، ليس باستلام شعلة الحزب أو الفكر للتأسيس عليه، بل نسب حزب الشباب في ما بعد إليه، وأصبح الحزب العربي الاشتراكي عام 1950. والواقع أن هناك خللاً بيّناً في شهادة أكرم الحوراني التي قفز عليها وتجاوزها في مذكراته، فهو يقول إنه غادر الحزب السوري القومي نهائياً في العام 1937، بينما يدعي عليه الحزب، بأنه فُصل من الحزب باعتباره “عضواً غير جيد”، كونه أعطى اهتمامه لحزب الشباب، المختلف فكرياً وإيديولوجياً عن الحزب السوري القومي.
ويذكر هذا المصدر في الحزب السوري القومي، إن أكرم الحوراني قد دعاه إلى جولة في ريف حماة، وأراه خلالها أراضي العوائل الكبيرة المتنفذه في حماة، وأقسم له بأن يقضي عليها، معترفاً بصعوبة جذب المنتسبين للحزب القومي السوري، مضيفاً بأنه من الأفضل أن ينشئ حزباً خاصاً به، يكون مناسباً للتوجه الشعبي في حماة، وبعد أن تترسخ قواعد هذا الحزب، ويبدأ بالنمو فإن الحوراني سينقله إلى الحزب السوري القومي (أكرم الحوراني – دراسة حول السياسة السورية بين 1943/1954 جوناثان أوين – ص31).
في نهاية الثلاثينات انهمك أكرم الحوراني بالعمل في (حزب الشباب)، مع قريبه عثمان الحوراني، وصعد إلى موقع القيادة بسرعة كبيرة، فالحزب بالأصل تنظيم صدامي يفتقر إلى الإيديولوجيا السياسية، إلا محاربة الانتداب والحكومات الموالية له، واستطاع أن ينظم مظاهرات احتجاجية كبيرة، وفي السنوات التالية أنعش اندلاع الحرب العالمية الثانية آمال العرب القومية، ورأى بعض الساسة العرب أن انتصار دول المحور (ألمانيا -إيطاليا – اليابان)، سيحقق حلمهم بالاستقلال، فساندوا المحور، وكان أكرم الحوراني قد التقى مندوب ألمانيا مرتين في عام 1941، بحسب تقارير استخباراتية فرنسية، وصفته بأنه مساند بارز لألمانيا النازية، ولم تكن هناك أدلة تبرهن أن اتصالات الحوراني مع المندوبين الألمان كانت أكثر من مجرد لقاءات.
وقد ترجم الحوراني معاداته للانتداب، وتأييده للقومية العربية بانضمامه إلى ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق عام1941، تلك الثورة التي كان مردها الانتكاسات العسكرية البريطانية، ودخول هتلر باريس منتصراً دون حرب، ظناً منهم بأن انتصار دول المحور على البريطانيين والفرنسيين أصبح أمراً وشيكاً.
انتُخب أكرم الحوراني لمجلس النواب في العام 1943، وهو لم يتجاوز الثانية والثلاثين، ويذكر محمد معروف في مذكراته (أيام عشتها) ص96 أنه قام بنفسه بتزوير أرقام المنتخِبين لأكرم الحوراني في ذلك العام، دون أن يقدم أي تفاصيل عن السبب والدافع، ولكنه عندما سئل أجاب محمد معروف إن ذلك كان بناء على طلب شخصيتين عسكريتين بريطانيتين نافذتين، كانتا تعملان كمستشارَين عسكريَين في وزارة الدفاع السورية.
ويفسر الصحافي مطيع النونو في مقال طويل دوّنه عن مذكرات أكرم الحوراني، قال فيه: “إن حرص أكرم الحوراني على الظهور السريع في الحقل السياسي، دفعه للتقلب خلال هذه السنوات القليلة بين اتجاهات حزبية ومبادئ ثورية، وبما أن وضعه كان لا يساعده على الفوز بالانتخابات؛ بسبب قوة ونفوذ الأسر الكبيرة في حماة، مدينة وريفاً، فعمل الحوراني على إطلاق مبادئه الاشتراكية، في محاولة لضرب العائلات النافذة في مدينته حماة، وكان الرئيس القوتلي قد اقترح على رجال السياسة تشكيل قوائم موحدة للمرشحين في كل المدن والمناطق، واتفق على إيفاد الزعيم الوطني الحلبي سعد الله الجابري، الذي أخذ على عاتقه الضغط على زعيم حماة فريد العظم، ليرجوه وضع اسم أكرم الحوراني في قائمته الموحدة، وهكذا كان، عندما أُحرِجَ فريد العظم، نفذ طلب الجابري، واستطاع الحوراني الفوز بالنيابة، ولكنه ظهر في ما بعد العدو اللدود للرئيس القوتلي، ولفريد العظم وأثرياء حماة، من العائلات التقليدية النافذة، وقد عُرِفَ عنه أنه دفع طلاب المدارس الثانوية والمعاهد للانخراط في الجيش؛ بهدف تهيئة قيادات عسكرية لمساندته في طموحه لبلوغ منصب رئاسة الجمهورية”.
وخلال حملاته البرلمانية على مُلّاك الأراضي نصرة للفقراء والفلاحين، سعى أكرم الحوراني للتغيير الراديكالي في العام 1947 خلال الانتخابات البرلمانية، استطاع أن يقلص نفوذ العائلات الإقطاعية، وإظهار الفلاحين كقوة مؤثرة في الحياة السياسية السورية”، وكان ذلك أحد العوامل المؤثرة في بروز انتصاره الانتخابي، وتأسيس قاعدة انتخابية تؤيده بعد الاستقلال. ولم يعد الحوراني بحاجة إلى التحالف مع الحزب الوطني لضمان دخوله البرلمان، فكان توجهه المباشر نحو الفلاحين وشعبيته كفيلة بإنجاحه هذه المرة في انتخابات العام 1947.
وعندما قام حسني الزعيم بانقلابه في الحادي والثلاثين من آذار عام 1949، كان أكرم الحوراني إلى جانبه في مركز قيادة الشرطة بدمشق صبيحة الانقلاب، يكتب بيانات الانقلاب، بحسب الرواية الرسمية للانقلاب بشهادة العقيد بهيج الكلاس، والصحافي نذير فنصة، عديل الزعيم، وكاتم أسراره في ما بعد، خلال تنصيب الزعيم نفسه لرئاسة الجمهورية، ولكن حسني الزعيم استبعد الحوراني، وقرّب منه الدكتور محسن البرازي الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وأستاذ أكرم الحوراني في كلية الحقوق، فنقم الحوراني على الاثنين، فقد كان يطمح إلى لعب دور سياسي أكبر، مما ظنه لنفسه في عهد حسني الزعيم، واستثمر في خطئهما بتسليم أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي إلى رياض الصلح في لبنان، الذي حاكمه وأعدمه في يوم واحد، كما هو معروف؛ لذلك بدأ يحرّض ضباط الجيش الشباب على حسني الزعيم، ويوجه الحملات ضده قائلاً: “لن يترك حسني الزعيم كرامة ولا شرفاً للسوريين إلا وينتهكه، فرد عليه بعض الضباط المتحمسين: لعيونك يا أبا رشيد”، ولن تتأخر حركة الانقلاب التالية بزعامة اللواء سامي الحناوي، إلا وكان أكرم الحوراني بطلها الظليل… وهكذا دواليك، تكرر الأمر مع أديب الشيشكلي، والذي كان يطمح أن يقدم إليه صديق طفولته ونضاله رئاسة الوزارة أو الجمهورية، ولكن أديب الشيشكلي عاد إلى موقعه السابق نائباً لرئيس الأركان وسلّم الرئاسة إلى متقدمه العسكري الزعيم فوزي سلو، واحتفظ أكرم الحوراني بوزارة الدفاع، حتى دبّت الخلافات بينه وبين أديب الشيشكلي، وأصبح مع زعماء حزب البعث (عفلق والبيطار)، بعد اندماج الحزبين، منفيين، بعد فشل أحلامه بتنفيذ سياساته (التقدمية)، بحسب رؤيته ورؤية حزبه الاشتراكي، التي سرعان ما كانت تصطدم بصخرة الوقائع المغايرة عن طموحه السياسي بالتغيير المجتمعي العميق، كما في تركيا الأتاتوركية، أو روسيا الشيوعية، أو الصين (الشعبية).
وأمام تدخل الحوراني في صفوف القيادات العسكرية، أصدر الزعيم أنور بنود رئيس أركان حرب الجيش السوري آنذاك بلاغاً، حذّر فيه العسكريين من التدخل في أي شأن من شؤون البلاد، وذكر البلاغ المواطنين بأن قانون العقوبات العسكري الجديد ينص صراحة في مادتَيه 149/150على ملاحقة كل مدني (يشوّق) أحد العسكريين للانضمام إلى حزب، أو جمعية أو مؤسسة ذات هدف سياسي، وإذا قبل المسؤولون عن إداراتها بين الأعضاء شخصاً عسكرياً، تُسحب منه رخصة الحزب نهائيا، وتُغلق مكاتبه، وأماكن اجتماعاته.
لقد كان هذا البلاغ موجهاً بشكل خاص إلى السياسي أكرم الحوراني، الذي حاول استغلال وجوده في منصب وزارة الدفاع، ليشوّق العسكريين على الانخراط في حزبه، وتحذيراً للقيادات العسكرية وخصوصاً من بينهم صغار الضباط.
وكان ذلك السبب الرئيس المباشر لتأزم العلاقة بين أديب الشيشكلي، وأكرم الحوراني، والذي أدى بالنهاية إلى فراق سياسي بين الزعيمين.
ما يؤكد هذا التوجه للحوراني ما نشره جوناثان أوين في كتابه عن أكرم الحوراني ص(92) نقلاً عن الدبلوماسي الأمريكي فان دوسن، إذ كتب يقول: “كان الحوراني بالنسبة إلى الساسة المدنيين السوريين أهم شخص، يتحمل مسؤولية تسييس الجيش بعد الاستقلال”.
يُجمع عديد من العسكريين والساسة والصحفيين في شهاداتهم المسجلة في كتب أو مقالات، أو في لقاءات حوارية متلفزة عن مذكرات أكرم الحوراني، بأنها لم تكن موضوعية، ناهيك عن إساءاتها المتعمدة لشخصيات تاريخية وطنية. كان في مقدمة من أُسيء إليهم الرئيس شكري القوتلي، وخالد العظم، وأديب الشيشكلي وغيرهم، إذ كتب الأمين العام السابق لرئاسة الجمهورية عبد الله الخاني مقالاً مطولاً شديد اللهجة، بعنوان (الحوراني في كل انقلاب، ومع كل انقلاب، وعلى كل انقلاب) مقتبساً من الصحافي كامل مروة هذا العنوان العريض لمسيرة الشيشكلي السياسية، مع عسكر سورية، إذ كتب الخاني في صحيفة الحياة الصادرة بلندن في العدد 6812 بتاريخ 23/7/1997 يقول: “وقد راعني ما وجدت فيها من مغالطات واتهامات وتجنٍّ فاضح – يقصد مذكرات أكرم الحوراني – على الرئيس شكري القوتلي، وعلى التاريخ، والوطنيين الأحرار في سورية…”.
أما أديب سورية الكبير عبد السلام العجيلي، فكتب في (ذكريات أيام السياسة ص 169) ما نصّه عن رأيه في مذكرات الحوراني: “وأما ما آخذه عليه كان تشككه في كل مايراه بعيداً قيد شعرة عما يراه هو صواباً، وعنفه في حكمه على الآخرين وسهولة طعنه بمن لا يرضيه، متهماً إياه في كثير من الأحيان بالرجعية، وربما بالعمالة أو بالخيانة والجاسوسية، هذه الجوانب الأخيرة من طباع أكرم الحوراني أكثرت من أعدائه الكارهين له، كما ساقته إلى ارتكاب أخطاء جسيمة عانى منها هو شخصياً الكثير، وعانى وطننا وشعبنا الكثير أيضاً..”.
ويتابع العجيلي في الصفحة ذاتها عتباً على أكرم الحوراني، بأنه أسقط من مذكراته: “وقائع كثيرة أظن أنه كان يحسن بأكرم أن يرويها في مذكراته”،
ويشير الى روايتين شهدهما بصحبة الحوراني، تعمد الأخير عدم إيرادهما، منها على سبيل المثال، عندما قدم الرئيس القوتلي إليهما مظروفاً فيه مبلغ من المال، قبيل ذهابهما إلى فلسطين كمتطوعَين في معارك جيش الإنقاذ، وكيف اعتذر العجيلي عن قبول المبلغ، فطمأنه الرئيس بقوله إن هذه المساعدة هي من ماله الخاص، وليست من مخصصات الدولة؛ لأنهما نائبان برلمانيان يقومان بالتضحية بروحهما في سبيل مبادئهما ووطنهما ومُثله العليا، وقد يحتاجان إلى نفقات خلال وجودهما في فلسطين وتنقلاتهما، مع ذلك أصر العجيلي على رفض المبلغ، وعندما خرجا من مقابلة الرئيس عاتبه أكرم الحوراني على رفض المبلغ وإضاعة هذه الفرصة، والذي لم يعرفه العجيلي كم كان يخفيه المغلف المغلق من الجنيهات الفلسطينية، فعاتبه العجيلي على ملاحظته قائلاً له: “ما الذي سيقوله التاريخ عنا، هل ترغب بأن يقال عنا أننا قبضنا مالاً ثمناً لنضالنا الوطني، ولم يأتِ على ذكر هذه الحادثة نهائياً، كما فعل في قضايا أقل أهمية، وأقل دلالة، عن طيب طوية الرئيس القوتلي”.
أختم هذه القراءة في مذكرات أكرم الحوراني بشهادة السيد صفوح البرازي، كما دونها في ذاكرته عام 199١، والتي تحدث بها الدكتور محسن الشيشكلي الحجة العلمية والقانونية، وأستاذ الدراسات الحقوقية في عدد من جامعات العالم العربي، وهو ابن شقيقة أكرم الحوراني، عندما أصر كاتب المذكرات على ابن شقيقته الدكتور محسن الشيشكلي لسعة اطلاعه، ومعرفته بتاريخ سورية، بمراجعة ما دوّنه الحوراني في المخطوطة، وكلّفه بكتابة توطئة المذكرات، التي نافت عن الأربعة آلاف صفحة، قبل دفعها للطباعة، وكان ذلك اللقاء بينهما في عمان بالأردن، ففعل وقرأها كاملة وأعادها إليه معتذراً عن تقديمها بقلمه، وعندما استفسر أكرم الحوراني عن سبب مقنع لاعتذار الدكتور محسن، أجابه بالحرف: “يا خالي العزيز.. لقد دونت في مذكراتك الذي لك، وأغفلت الذي عليك”.
ويقصد أن أكرم الحوراني أدان الجميع ونسي نفسه، في الأحداث التاريخية التي حصلت في سورية، وخصوصاً تلك التي شهدها أو كان المتسبب الرئيس في صراعاتها ومآسيها.
فأجابه أكرم الحوراني:” إذن اعمل على مراجعتها وتصحيحيها، كما ترغب وتعلم، ولك بذلك الفضل والخير”.
اعتذر الدكتور محسن للمرة الثانية قائلاً لخاله أكرم: “لا.. ليس أنا من يجب أن يراجعها ويصححها، بل أنت الذي يدرك قيمة الموضوعية التاريخية، والتي تقتضي بأن تكتب الذي لك والذي عليك”.
***
تكمن إشكالية مذكرات الحوراني الكبرى بعد دراستي لها، ومقارنتها بشهادات قافلة طويلة من كتّاب المذكرات، من ساسة وعسكريين ووزراء سابقين، أنهم أجمعوا على أن أكرم الحوراني أدان الجميع وبرّأ نفسه، ولم تكن براءته في مذكراته حقيقة يمكن أن يتقبلها أحد من الشهود الكثر على تلاعبه السياسي الفج في تاريخ سوريا الحديث، فقد لعب الحوراني أدواراً عميقة في تغيير الوجه المعتدل لسورية قبل وبعد الاستقلال، وفي تنمية الأحقاد الاجتماعية والسياسية بين مكونات المجتمع، وقد لا يتحمل هو وحده هذه المثلبة العميقة؛ لأن هناك غيره اشتركوا معه في جلب الطائفية السياسية المشوهة إلى سدة الحكم في سورية إضافة إلى الحقد الطبقي، الذي ساهم في دك أسافين عميقة بين مكونات الشعب السوري المتنوع، والذي هو بالأصل خليط اجتماعي، ومذهبي وطائفي، وعرقي ومناطقي وعشائري مـتأخر، في رداء شفاف من التحضر، وحتى إذا لم يكن هو المسؤول الوحيد، فإنه على الأقل كان في المقدمة، حين أخرج من عباءته كل هذه الشعارات التي استبقت الريف فقيراً، بل ازداد فقره، وتدهورت الزراعة، وهُجرت الأرض ليعمل فلاحوها، إما في وظائف الدولة أو جنوداً وعسكريين في معركة التحرير تحت رايات من الحماس للشعارات الكبرى، التي لم تأتِ أبداً، إلا باحتلالات وهزائم جديدة، ولم تؤسس لتعليم، أو صحة سليمة، أو نظيفة للشعب السوري، أو ترسخ لحرية رأي، أو ديمقراطية حقيقية يمكنها أن تكون في يوم من الأيام بارقة أمل لتصحيح رؤيته ورؤية من التبست عليه أفكار حزبه الاشتراكي، وحزب رفاقه بأحلام البعث، حين رَوَّجها تلامذته وأتباعه مستثمرو الشعارات بخطبهم الجوفاء الطويلة، في زمن الاشتراكية، وجمعوا الأموال الطائلة، من إفقار الناس، ثم قاموا باستثمارها في الدول الرأسمالية.
إنها باختصار قضية السوريين التي تسبب بها أكرم الحوراني وصحبه، ولم يعترف بها يوماً.
المفارقة المرعبة أنه قضى الردح الأكبر من حياته، يدين الحكم الملكي الهاشمي في العراق والأردن طوال أكثر من نصف قرن، وليقضي الردح الأخير من حياته بضيافة الملك حسين، والذي زاره الملك بذاته في منزله، ليطمئن عليه ويروي له صراعه لطرد الحاكم العسكري البريطاني غلوب باشا من الأردن.
وعندما توفي في الرابع والعشرين من شهر شباط عام 1996، حاولت أسرته الاتصال بالرئاسة السورية، ليدفن في مسقط رأسه في حماة، كما أوصى أولاده بذلك، فجاء الرفض قاطعاً من أحد تلامذته (الأبرار) الخريجين من مدرسته السياسية، ممن أصبح رئيساً بفضل حكمة معلمه، وأستاذه أكرم الحوراني، وكان اسمه حافظ الأسد.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024