الرأي العام

هل يتغيّر الشبيح إذا أصبح مثقفاً؟

يمان دابقي*

ثورةٌ عظيمة بحجم الألم السوري، هي فوق طموح العابثين، وأبعد من مخيال المثقفين. لسنا من المعصومين وقد تخوننا أفكارنا، ونقع بزلات الألسن والنسيان،  بسوء تقدير أو بغيره، وهنا يُفتح باب النقد على مصراعيه، وتتوجّه الأقلام نحو التصويب بهدف تصحيح المسار، من باب النقد البناء، تحديداً عند هذا المقام من المفترض أن نَفخر بالاحترام المتبادل لنقدنا وتقبلنا لبعضنا، وأنّ تتحوّل الانتقادات إلى حوارات راقية وندوات، تتباهى بنا نخبٌ أخريات من عرب وجاليات وكُتّاب ونُقّاد، كمشهدٍ يعكس سوية الوعي من إرثنا الثوري وألمنا المتواصل منذ 13 عاماً.

من المفترض أيضاً، – أو كنا ننتظر- أن نقطف ثمرة نخبنا لتراكماتٍ ينتج عنها احترام مضاعف لمشاعر السوريين، من شهداء ومعتقلين ومهجرين ومعذبين، فهؤلاء لولاهم لما كان للإعلام رسالة ولا قضية ولا هدف، ولا وصلوا إلى أعالي القمم ولا طافوا دولاً وسفارات، ولا حصلوا على تكريمات وشهادات. هناك من راقب المشهد وانتظر رسالة اعتذار احتراماً لجراح السوريين، حتى يُقابل ذلك برحب صدر وأخلاق المكلومين، وما أكثرهم حتى الآن، فهل كانت عيون النخب تراهم أو تسمعهم؟، كم كان عظيماً لو أننا لم نتعرّض للتهميش والتخويين من أبناء جلدتنا، بل زاد عليها احتقار لمنتقدي النخب بعبارة سوقية “تهويش الكرجاتي”جاءت كحلٍ ودفاع مستميت على منهجية علمية بحثية، ومفردات خاصة بالمجتمع الدولي في تصنيفه لدول النزاعات بجمل ومصطلحات لا تمسنا لا من قريب ولا من بعيد.

لستم فوق النقد!

مناسبة هذا التقديم لما جرى قبل أيام من عاصفة انتقادات من قبل حصون سورية ثورية انتفضت مدافعة عن أعظم ثورة في العصر الحديث بعد نعت ثورتهم “بحرب أهلية” من قبل كاتب سوري يدعى “سامر بكور” والذي كان على موعدٍ تمّ تأجيله، لإجراء مراسيم احتفال لتوقيع كتابه برعاية مركز “حرمون” للدراسات، لستُ هنا بصدد الحديث عن المراكز والقنوات الإعلامية السورية والتي لا أخفي أنني كنت من المتقدمين لأحدها كأي صحفي يبحث عن فرصة جديدة، بعد فقدان عمله السابق، واستبق في هذا الصدد على الكثيرين في التأكيد قبل حديثهم القادم عن سبب كتابتي لهذا المقال كأن يقولوا “لأننا رفضناه فذهب لمهاجمتنا” اطمئنوا فليست غايتي تلك علماً أنكم لستم فوق النقد، ومن حق أي صحفي سوري أن يعمل في مؤسسات إعلامية سورية من المفترض أنّها تحتضن الكوادر السورية، بعد تلقيها دعماً مالياً على ذلك، وإتاحتها المجال والفرص للعاملين في الوسط الإعلامي، بدلاً من أساليب الاحتكار والإقصاء واعتماد المزاجية في التوظيف بدلاً عن الكفاءات، وكأنّ تلك المؤسسات قد جلبوها معهم أثناء خروجهم من سورية، أو أنها إرثٌ شخصي وعائلي متوارث لبعض النخب السورية، ولا يحق لغيرهم الدخول أو الخروج منها.

بطبيعة الحال ما يهمني كسوري قبل كل شيء الثورة التي أعتزبها ولا أسمح كغيري من الأحرار السوريين التعدّي على ثوابتها، لذلك فإنّ لب الحديث وأصله عن المدعو “بكور” وتبريراته التي أطلقها عبر صفحته الشخصية لمسمى كتابه التغريبة السورية الحرب الأهلية وتداعياتها، وعن الفيديو الفاضح الذي سبّب له أزمة نفسية لم ينجح بسبب سيل الانتقادات، أن يقنع بها حتى العوام من السوريين، لما له من أثر تشبيحي على سلوكه الفاضح، هذا الفيديو الذي نبشه أحدهم، يعود لتاريخ شهر نيسان من العام 2011، أي حينما بدأ النظام باستخدام الرصاص الحي في مواجهة المتظاهرين، وقتله السوريين عمداً في مناطق متفرقة من درعا وريف دمشق وبانياس، هنا كان البكور يقود مسيرة مؤيدة في مدينة فرانكفورت بألمانيا، يصف فيها بشار الأسد بالأب الحنون، وسورية هي بشار، ليُقدم اليوم في العام 2024 أي بعد “ترند” كتابه الجديد تبريراً للسوريين بأنّه كان مضطراً لتلك المسيرة، بذريعة تهديده وعائلته من قبل النظام السوري. وهنا يأتي السؤال لماذا الآن قدم هذا التبرير عن فيديو التشبيح ولم يقدمه في وقتها أو كما يدعي عندما امتلك وعياً سياسياً بعد العام 2012؟

الاعتذار والاضطرار

في واقع الأمر قدّم “بكور” اعتذارا عن فيديو التشبيح مضطراً الآن، أي بعد وقوعه في فخ هذا الرفض والاستهجان الشعبي الهائل لمصطلحاته، وإصراره – كما نصحه بعضهم- على إحداث صدمة داخل الأوساط السورية، مع ذلك جاء التبرير محاولة لإيجاد مخرج عن الصدمة التي تلقاها، لأنه لم يكن في حسبانه أن يخرج الفيديو أمامه من جديد بعد كل هذه السنوات، ويطارده في مكان غربته.

 بالمقابل ربما اعتذاره عن تسمية الكتاب واعترافه بأنّ ذلك كان خطأً وسوء تقدير منه، والأصح هي “ثورة سورية” وليست حرباً أهلية ربما هذه في نظر البعض تُحسب له، لكن تبريره عن الفيديو وحياكته قصة خرافية لم يكن موفقاً بها، ولا يمكن أن تمر على أي إنسان عاقل، بتقديري في ذلك الوقت أي في شهر 4 من 2011 كان مقتنعاً بما يفعل عن سبق إصرار بمعنى كان شبيحاً بامتياز، ولو كان غير ذلك الآن، فهو قطعاً ليس مع الثورة، بل استخدمها كوسيلة للوصول إلى أهدافه الشخصية والتي حصرها في إنتاجات تأليفية موجّهة ومسيّسة وممولة أيضاً.

رغم كل ذلك وبقناعة الغالبية من السوريين الأحرار، لا يمكن تقبّل أو حتى التصديق، بأنّ شخصاً كبكور الذي لم يتخذ موقفاً سريعاً في العامين الأولييّن من عمر الثورة، وفي وقت اتضح فيه سلوك النظام الإجرامي أنذاك بحق السوريين، لا يمكن التصديق بسهولة بأنّ الصحوة الثورية أصابته، ونضج وعيه السياسي بين ليلة وضحاها، وتحوّل بسرعة قياسية إلى ضفة النخب السورية، وأصبح من المنتجين لكتب تنظيرية وتفكيكية بدأ يُقدّمها كمراجع للسوريين عن ثورتهم، التي لحق بها أكاديمياً بعد سنوات من إجرام النظام. بكور الذي اتضح حقيقةً أنّه يُعاني من عقدة المثقف الشبيح رأى في ثورة السوريين وسيلة وأداة وصولية، لمغانم شخصية، ولوكانت هذه المغانم في بيت النظام السوري لما تنازل عنها، بيدا أنّ النظام أصبح مفلساً، وبات بكور بحاجة إلى مصادر أخرى، فرأى ضالته عند نخب سورية  متصدّرة المشهد العام، وتدعي مناصرتها لقضية السوريين، وتدعي أيضاً أنّ التفكير والعمل السياسي والبحثي والأكاديمي محكوم بها دون غيرها من بقية السوريين، من هنا كان خطاب التعالي وشتم السوريين بألفاظ سوقية منطلقات دفاعية عن برجها العاجي، بسبب وضعهم على مشرحة النقد السوري، ورقابة ثورية مجتمعية محقة أثبتت مرةً أخرى أنّ لا أحد يقف أمام التعدّي على الثوابت الثورية، ومن يطعن ويدس السم بالعسل في محرماتها.

عمل مقصود وموجه

أخيراً لا اعتقد بأي شكل من الأشكال أنّ بكور وقع في سوء تقدير بتسمية كتابه “بحرب أهلية” بل كان عملاً مقصوداً وموجّهاً، وهو نتاج عمل جماعي لا فردي، هدفه العبث بمسمى الثورة السورية وتوصيفها، وتكريس إفلات النظام من المساءلة القانونية الدولية عن جرائمه ومجازره التي ارتكبها بحق السوريين، وإزالة عقبة أخرى من أمامه في مسار التطبيع، بعد شطب مسمى الثورة الذي يزعجه، وإعادة إنتاجه وتعويمه.

ومن وجهة نظرنا فإن هذا الهدف غير قابل للتحقيق مهما حلم الحالمون وعمل عليه المشغلّون. فكل ما قالوه لا ينطبق البتة على الثورة السورية، والتي انتفضت فيها كل الشرائح المجتمعية ضد النظام لإزالته من الجذور، والتوجّه نحو إحداث تغيير في كافة مجالات الحياة العامة التي يحتكرها النظام، محققة بذلك كافة معايير الثورة بكل ما تحمله من معاني وأهداف، فيما النظام ذهب لتدميرها مستخدماً كل أساليب حرب الإبادة الجماعية والأهلية التي تحدث بين فريقين متنازعين داخل نطاق جغرافي واحد، حركتهما الكراهية واختلاف العرقيات، والأيديولوجيات، هذا باختصار وبكل بساطة الفرق بين الثورة والحرب الأهلية أيها المثقف الشبيح.

__________________________________

* صحفي وكاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى