أرشيف المجلة الشهرية

سوريا ما بعد العائلة

همام البني – العربي القديم

“كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة”، بهذه الكلمات الشهيرة يبدأ تشارلز ديكنز روايته الخالدة “قصة مدينتين”، الرواية التي تأخذنا في رحلة نفسية عميقة لشخصيات عاشت بين لندن وباريس، مآلات الثورة الفرنسية.

لوحة فنية متقنة داخل النفس البشرية، يرسمها ديكنز، ويصور بها محنة الطبقة العاملة الفرنسية، تحت القمع الوحشي للعائلات الأرستقراطية الفرنسية، خلال السنوات التي قادت إلى الثورة، والوحشية المقابلة التي مارسها الثوريون ضد الأرستقراطيين في السنوات الأولى للثورة.

تتشابه الأمكنة، حتى باختلاف الأزمان وأناسها، ويكون التشابه أعمق في ظل الاضطرابات السياسية والاجتماعية، في سوريا. كان العقد الأخير، إن لم نقل القرن الماضي، أحسن الأزمان وأسوأها، كان زمن الحكماء والحمقى، زمن المشاريع الوطنية الكبرى،

والانقسامات الطائفية الخانقة، والصراع المفتوح في البحث عن الدولة، بكل صعوبات قيامتها، وإشكالات العائلة الوارثة المُتوارثة، بنطاق مصالحها وعلاقتها.

نموذج العائلة السياسية الأول في الأمة السورية شكّله وعي السوريين بفكرة الزعامات الأخلاقية، المال كان داعماً رئيسياً، وأساساً لذلك الجانب الأخلاقي. العائلات السياسية في زمن ما بعد الانهيار العثماني لا تشبه العائلات الحاكمة اليوم، مستوى الإجرام المنفلت داخل حدود البلد الواحد، بلا ضوابط ولا مراجعات، فكرة مستحدثة في منطقتنا، مارس النازيون القمع ضد كل الشعوب إلا الألمان، مثلهم فعلت الكثير من الأمم، الأزمات الداخلية، عادة، لا تستخدم فيها الدول العاقلة القوة المفّرطة، إلا إذا اعتبر النظام المسيطر نفسه لا ينتمي للمكان، سوريا كانت ضمن هذه المعادلة، أحداث الانقلابات التي شهدتها البلاد، شاهد ملك.

يروي كتاب “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب”، للمؤلفة إليزابيث تومبسون، تجربة المؤتمر السوري في عام 1920، وكيف تم تدمير فكرة كان نجاحها قد يغير وجه المنطقة، حاول السوريون حينها تأسيس ديمقراطية تمثيلية، شبيهة بديموقراطية راسخة، كتلك التي في بريطانيا العظمى. اللحظات تلك لخصت عقلية زعامات العائلات السياسية السورية، يمكن دراستها منذ  إعلان المؤتمر السوري استقلال سورية، وتتوَّيج فيصل بن الحسين ملكاً لـ “ملكية تمثيلية مدنية”، وإشراف محمد رشيد رضا من بعدها على صياغة دستور، أرسى أول ديمقراطية عربية، تضمّن حقوقاً متساوية لجميع المواطنين،  بعدها اتُخذ قرار الغزو الفرنسي لسوريا، وسحق الدولة الوليدة. كل ما جرى بعده إلى يومنا الراهن، نتاج اللاءات الغربية الثلاثة: “لا دول سيادية”، “لا ديموقراطية” و”لا مشاريع وطنية”، في تلك البقعة من الكوكب، مشاريع تخديمية لمشاريع أكبر، فقط هذا أكثر ما يمكن أن يكون، فكتاب “كيف سرق الغرب الديموقراطية من العرب”، ينسف تلقائياً مسلمات فشل مشاريع التغيير السورية التي اعتدنا ترديدها، ويشرح كيف فكرت العائلات الوطنية السورية في أخطر مراحل تأسيس الوطن.

كان عمي الوحيد رجلاً حكيماً، لا تكتشف عادة، مواضع الحكمة إلا بعد تجاوزك الأربعين، باعد الرجل العاقل بين عائلته وسلطته، حين عمل وزيراً لسنين طوال. “اصنع

طريقك بنفسك”، كان شعاره لشباب العائلة، دخل أغنى الوزارات، وخرج منها كرجل من زمن آخر، يد نظيفة وراتب تقاعدي، جينٌ أناني واحد، واصطفاء طبيعي خاطئ قد يدمر السياسة، العائلة والبلاد.

شكّلت فكرة حكم العائلة في تاريخنا العربي – الإسلامي فتيل قنبلة موقوتة، لا أحد يعرف لحظة الانفجار، لكن الجميع مدرك أنه قادم لا محالة، لم يعرف ماضينا عقود استقرار راسخة، طمع العائلة دائماً كان السبب، ومازال سيفها تحت مخدتها، والسيف بالسيف يذكر، يقول الرسول الكريم: “إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل، والمقتول في النار”، مقاربة تجعل السّواد الأعظم من المسلمين، بلاداً وعباداً، خارج جِنان الدنيا والآخرة، إذا لم يصلوا يوماً لأوطان ما بعد العائلة.

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

تعليق واحد

  1. صدقت… العنف الموجه ضد شعب الوطن لم يكن له مثيل في تاريخ المنطقة ولعله العالم … واعتقد ان القوة النارية التي وجهت نحو صدور السوريين من جنود العصابة الحاكمة وصل الى قيمة مطلقة يمكن ان تكون سابقة تاريخية للصنف البشري.

زر الذهاب إلى الأعلى