خنق الإعلام السوري المستقل: بين نقص التمويل وسوء الإدارة
تحقيق: رزق العبي *
ظهرت عدد من وسائل الإعلام المستقلة في أعقاب الربيع العربي ولكن نقص التمويل وسوء الإدارة أدى إلى انهيارها
لقد أدى صعود حزب البعث العربي الاشتراكي وانقلاب حافظ الأسد في عام 1970 إلى هيمنة الدولة على كافة مؤسساتها، مما أدى إلى احتكار وسائل الإعلام التي تدعم النظام. لقد سيطرت التلفزة الحكومية والعديد من الصحف اليومية الرسمية على المشهد الإعلامي لأكثر من 41 عامًا. وكان هناك استثناء نادر يتمثل في إطلاق خدمة الأخبار الإلكترونية “كلنا شركاء” كمشروع تطوعي في عام 2003. وفي عام 2006، توسعت الخدمة بفضل التبرعات من الشخصيات السورية ورجال الأعمال وبعض المنح.
حرية قصيرة الأجل
أدى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا في مارس/آذار 2011 إلى تحسن نادر في المشهد الإعلامي في البلاد مع ظهور مجموعة من الصحف المحلية البديلة مثل عين المدينة، وتمدن، وكلنا سوريون، وزيتون، وسورياتنا، وعنب بلدي، والتي تم تمويلها في المقام الأول من خلال التبرعات والدعم المالي من المنظمات الدولية.
لقد سمح ظهور مجموعة من المصادر الإعلامية والصحفية غير الخاضعة لسيطرة الدولة للسوريين لأول مرة منذ عقود بالوصول إلى الأخبار التي سعى نظام الأسد إلى تعتيمها ومنع بثها. لقد كانت حرية وسائل الإعلام قصيرة الأجل.
أيمن عبد النور: شروط قاسية لسحب التمويل
على مدى السنوات الثماني الماضية، شهد المشهد الإعلامي السوري إغلاق معظم هذه المنافذ الإعلامية المستقلة بسبب نقص التمويل – ومن بين تلك المنافذ المذكورة أعلاه، فقط عنب بلدي تواصل النشر بانتظام، بدعم من العديد من التبرعات الفردية.
بدأ الوضع المالي لـ “كلنا شركاء” في التدهور في عام 2016، مما أجبر الموقع على أن يصبح تحت إدارة متطوعين مرة أخرى. وفي نهاية المطاف، أغلق الموقع في عام 2018، على الرغم من أن قنوات التواصل الاجتماعي الخاصة به لا تزال تُدار بواسطة متطوعين.
ويشير أيمن عبد النور، المدير السابق لموقع كلنا شركاء، إلى أن جهات التمويل الخارجية في أوروبا والولايات المتحدة وكندا تقدم الدعم عادة بموجب عقود صريحة، ما يعني أنه يمكن سحب التمويل في كثير من الأحيان في غضون مهلة قصيرة. وفي حديث مع صندوق الرصد، أوضح عبد النور أن بعض الجهات الممولة تعطي إشعارًا بوقف التمويل قبل شهر واحد فقط وحتى 24 ساعة فقط في بعض الحالات. وهذا وضع العديد من وسائل الإعلام السورية في ظروف صعبة، حيث وجد الصحفيون أنفسهم فجأة عاطلين عن العمل على الرغم من الالتزامات المالية المستمرة.
حسين برو: الدعم محدود أساساً
واجهت صحيفة (كلنا سوريون) نقصاً مشابهاً في التمويل، حيث انطلقت في البداية من خلال تبرعات فردية ودعم من جهة لجمع التبرعات تحمل الاسم نفسه، وتوقف التمويل عندما طالبت هذه الجهة الصحيفة بالعمل ناطقاً رسمياً باسمها، وفقًا للصحافي حسين برو، الذي أدارها لعدة سنوات. لاحقاً، تلقت كلنا سوريون تمويلًا من منظمة دنماركية لتغطية تكاليف الطباعة وبعض النفقات، وكان هذا الدعم محدوداً ويركز على الطباعة ورواتب بعض الصحفيين في تركيا وسوريا.
وأشار برو إلى أن العمل استمر لفترة طويلة مع عدد من الزملاء الذين يعملون دون أجر، وأعلى أجر حصل عليه كان 450 يورو. وتوقفت الصحيفة عن الصدور في عام 2018 بسبب نقص الدعم المالي بعد تحولها من نشر نصف شهري إلى مجلة شهرية، وهو واقع عايشته العديد من وسائل الإعلام السورية التي واجهت تحديات مماثلة.
علاء محمد: قلق دائم بشأن المستقبل
يقول الصحفي والناشط السوري علاء محمد إن تجفيف التمويل يجبر المؤسسات على تقليص أعداد موظفيها بشكل كبير، مما يؤدي إلى تسريح عدد كبير من الصحفيين في وقت واحد، مما يؤثر على قدرة المنظمات على إنتاج تقارير صحفية عالية الجودة ومعلومات دقيقة، حتى لو استمرت العمليات ولم تغلق أبوابها.
ويرى محمد أن هذا يشكل مصدر قلق لكثيرين، حيث يعيشون حالة من عدم الاستقرار المالي والقلق الدائم بشأن المستقبل، مما يؤثر على أدائهم وقدرتهم على الابتكار والتطوير. وتقول: “قد يدفع هذا الفقدان للتمويل المؤسسات إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، قد تكون مرتبطة بأجندات محددة، مما يجعلها تعمل وفقًا لهذه الأجندات بدلاً من الاستفادة من استقلاليتها”. يضيف أن هذا الأمر له أيضًا تأثير نفسي، إذ يواجه الصحفيون ضغوطًا هائلة للوفاء بواجباتهم في ظل نقص الموارد وعدم الاستقرار الوظيفي، مما يؤثر سلبًا على صحتهم العقلية.
ولم يحصل العديد من العاملين في المؤسسات الإعلامية المغلقة على أي تعويضات مالية عندما تم تسريحهم وتعرضوا للفصل التعسفي، وأكد العديد منهم لـ«إمؤشر الرقابة» أن هناك رواتب مستحقة لم يتم دفعها.
خالد عبد الرحمن: نفس المعاناة!
ويروي الصحافي خالد عبد الرحمن الذي عمل في مؤسسة إعلامية سورية مرموقة أنه بعد إغلاق المؤسسة تم منعه من دفع مستحقاته التي تزيد عن 1600 دولار، ويقول عبد الرحمن إن العديد من زملائه يعانون نفس المعاناة.
كان الناشط الإعلامي أنس يعمل في قناة الجسر الفضائية التي تبث من تركيا لسنوات طويلة، وعندما أغلقت القناة تم إبلاغ فريق العمل مسبقاً وتعويضهم عن سنوات خدمتهم، لكن هذا أمر نادر في المشهد الإعلامي السوري.
رودي حسو: فقدان الأصوات الناقدة!
كما لاحظ الصحافي السوري رودي حسو تراجعاً ملحوظاً في عدد ونوعية المشاريع الإعلامية المستقلة، وهو قلق من فقدان هذه الأصوات الناقدة. ويرى الحسو أن هذه الوسائل الإعلامية شكلت ركائز أساسية للثورة السورية وقنوات للتواصل بين المجتمع الدولي والسوريين.
ويقول إن توقف التمويل لم يكن خسارة مالية فحسب، بل كان أيضًا خسارة للأصوات التي تعكس حقائق وتحليلات الثورة، والتي تعمل على توثيق التاريخ للأجيال القادمة. إن إغلاق قناة أورينت التلفزيونية وموقع كلنا شركاء يعني خسارة أصوات مهمة نقلت معاناة السوريين، ويقول: “لقد شهدت هذه المنافذ وشاركت في سرد قصة نضال الشعب السوري ضد القمع، وغطت بشجاعة أحداث الثورة منذ البداية”. ويرى الحسو أن فقدان هذه الوسائل الإعلامية يشكل نقطة تحول في المشهد الإعلامي السوري، حيث أصبح صوت الشعب السوري خافتاً بشكل متزايد.
_________________________________
* ينشر بإذن خاص من موقع (مؤشر الرقابة) البريطاني