معضلة التَّسمية.. سوريا أم الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة
ليس تشبُّثًا بالاسم ذاته، إنَّما من أجل تحصين سوريا من تحريضات إسرائيل وإيران

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
تقوم الدَّولة -بمفهومها الحديث- على مجموعة من الأسس والمرتكزات، وتنقسم هذه الأسس إلى أسس ومرتكزات ضروريَّة جدًّا؛ كالجغرافية أو الأرض الَّتي تقوم عليها الدَّولة؛ فلا دولة دون جغرافية أو أرض يعيش عليها السُّكَّان، ولا دولة دون شعب أو شعوب متعايشة ومتفاعلة إيجابًا على أرض الدَّولة. وفي غالب الأحيان تشكِّل أرض الدَّولة إقليمًا جغرافيًّا واحدًا أو مجموعة من الأقاليم الجغرافيَّة المتِّصلة أو شبه المتَّصلة؛ أي لا يفصل بينها إلَّا أنهار أو مرتفعات لا تشكِّل حدودًا طبيعيَّة تفصل بينها كلِّيًّا؛ لتعلن بداية أقاليم أو دول جديدة. وفي مرحلة حروب الفرس والرُّوم التَّاريخيَّة الطَّويلة شكَّلت أنهار الفرات ودجلة والخابور حدودًا جزئيَّة فاصلة وغير ثابتة بين هاتين الدَّولتين على مرِّ التَّاريخ، فإن قويت شوكة الفرس تقدَّموا غربًا حتَّى نهر الفرات، وربَّما عبروه غربًا، وإن قوي الرُّوم تمدَّدوا نحو دجلة شرقًا، وربَّما عبروه. وأيضًا شكَّل الخليج العربيُّ حدًّا بحريًّا فاصلًا بين العرب والفرس، مثلما شكَّلت جبال طوروس وزاغروس حدودًا طبيعيَّة بين العرب والأتراك قديمًا. أمَّا الجزر داخل البحار فغالبًا ما خضعت للدَّولة الأقوى أو كانت جزءًا منها بين جوارها في الأقاليم البرِّيَّة؛ لذلك تعطي وحدة الإقليم البرِّيِّ واتِّصاله الجغرافيُّ استقرارًا نسبيًّا تبحث عنه كلُّ سلطة حاكمة؛ لأنَّ الانفصال أو شبه الانفصال البرِّيَّ قد يفتح مجالًا للتَّنازع على الحدود أو الانفصال السِّياسيِّ أو التَّبعيَّة للطَّامع الإقليميِّ أو الطَّامع البعيد الأقوى.
وكما أنَّه لا دولة دون أرض أو جغرافية يقوم عليها الكيان، فلا دولة دون شعب أو شعوب تسكن هذه الجغرافية، وتُعمر هذه الأرض، وهناك فرق بين قولنا: (شعب) و(شعوب)، فقد تسكن الجغرافية الواحدة مجموعة من الأقوام والأعراق والقوميَّات والأديان والملل والنِّحل، وتتعايش هذه الأقوام سلميًّا مع بعضها، وتتفاعل إيجابيًّا، وتشكِّل وحدة بشريَّة صلبة تحمي الجغرافية، وتدافع عن الأرض، وتتجاوز الاختلافات العرقيَّة والدِّينيَّة لصالح وحدة الدَّولة أو الكيان الَّتي نشأت عليه هذه الشُّعوب؛ ويصبح الولاء لوحدة مكوِّنات الدَّولة مقدَّمًا على مطلب خاصٍّ بفئة أو طائفة أو قوميَّة؛ وهنا تظهر بعض المعضلات من نوع (السَّهل الممتنع)؛ أي يجب على هذه الشُّعوب أن تتجاوز عن بعض تمايزاتها العرقيَّة أو الطَّائفيَّة أو الدِّينيَّة لصالح وحدة الكيان وقوَّته، وإن لم تتجاوز هذه النُّقطة ستتفتَّتُ الدَّولة، وتكون عرضة لهيمنة الطَّامعين الإقليميِّين أو الطَّامعين الأبعد ممَّن يملكون القوَّة العسكريَّة أو السِّياسيَّة؛ ليمتدَّ نفوذهم أو هيمنتهم إلى الكيانات المجاورة لهم أو البعيدة عنهم. ويكون التَّجاوز عن بعض المطالب والتَّمايزات العرقيَّة والطَّائفيَّة والدِّينيَّة بين شعوب الدَّولة الواحدة إمَّا تجاوزًا كلِّيًّا أو جزئيًّا من أجل وحدة الدَّولة أو من أجل مصلحتها العليا، ويعني التَّجاوز الجزئيُّ أن تغيِّر بعض المكوِّنات الشَّعبيَّة الجزئيَّة الصَّغيرة والأصغر منها لُغتها أو دينها أو كليهما معًا، ويتعلَّم أبناء المكوِّنات الأخرى لغة الأكثريَّة، ويعتنقون مذهبها ودينها؛ لأنَّ هذه اللُّغة وهذا الدِّين يشكِّلان لغة الدَّولة ودينها الرَّسميِّ أو يقعان في المرتبة الأولى بين لغات شعوب الدَّولة وأديان طوائفها أو مكوِّناتها، وقد يكون التَّجاوز جزئيًّا؛ أي تقبل المكوِّنات الجزئيَّة بلغة الدَّولة ودينها واسمها الَّذي اختارته الأكثريَّة بالتَّصويت الدِّيمقراطيِّ للحفاظ على كينونة الدَّولة وحماية وحدتها من الطَّامعين بها، وتحافظ هذه المكوِّنات على لغتها ودينها وطقوسها ومجمل ثقافتها في بيئتها الَّتي تعيش فيها، ويضمن الدُّستور لها حرِّيَّة حديثها بلغتها وممارسة طقوسها وثقافتها مع احترامها لثقافة الدَّولة الرَّسميَّة؛ فلا تدمغ الأكثريَّة ثقافة الأقلِّيَّة، ولا تشكِّل خصوصيَّة ثقافة الأقلِّيَّة تهديدًا لكيان الدَّولة كلِّها.

مع مرور الزَّمن بالتَّعايش السِّلميِّ والتَّفاعل الإيجابيِّ بين مكوِّنات الدَّولة الكبرى والصُّغرى تصنع شعوب هذه الدَّولة تاريخًا مشتركًا، يحمل أفراحهم وإنجازاتهم القديمة، كما يضمُّ أتراحهم أو أحزانهم بسبب بعض انتكاستهم السَّالفة، الَّتي آذتهم جميعًا، وتأتي الأجيال الجديدة فتعتزُّ بالتَّاريخ المشترك القديم بأفراحه وأتراحه معًا؛ ومن هنا يشكِّل التَّاريخ المشترك القديم بأفراحه وأتراحه ثالثة الأثافي بين مكوِّنات الدَّولة الثَّلاثة الرَّئيسة: (الشَّعب أو الشُّعوب والجغرافية أو الأرض والتَّاريخ المشترك)، ويتفرَّع عن هذه المكوِّنات الثَّلاثة الرَّئيسة مكوِّنات جزئيَّة؛ مثل (العرق واللُّغة والدِّين) أي عِرق الشَّعب أو أعراق شعوب الدَّولة ولغتها أو لغاتها ودينها أو أديانها؛ وهذه المكوِّنات الجزئيَّة ليست ذات أهمِّيَّة كبيرة إن استطاعت شعوب الدَّولة أن تتعايش سلميًّا، وتتفاعل فيما بينها تفاعلًا ثقافيًّا إيجابيًّا. ويُعدُّ النِّظام العلمانيُّ النَّاجح تنظيرًا وتطبيقًا نظامًا جيِّدًا من أنظمة الحكم، الَّتي تضمن التَّفاعل الثَّقافيَّ الإيجابيَّ والتَّعايش السِّلميَّ بين شعوب الدَّولة بغضِّ النَّظر عن خصوصيَّاتهم الثَّقافيَّة الجزئيَّة، وإن تقنَّعت القوميَّة أو العرقيَّة مع الطَّائفيَّة الدِّينيَّة أو المذهبيَّة بالقناع العلمانيِّ دون تطبيقه تطبيقًا سليمًا بما يضمن حرِّيَّة الجزئيَّة دون إساءتها لوحدة الدَّولة فستغدو هذه العوامل الجزئيَّة (الدِّين والعرق واللُّغة) عوامل تناحر، تسيء لوحدة الوطن، وسوف تتحوَّل إلى (طائفيَّة أو طائفيَّات وعشائريَّة أو عشائريَّات ومذهبيَّة أو مذهبيَّات وعرقيَّة أو عرقيَّات) تتناحر فيها بينها حتَّى تُدمِّر الدَّولة، وتجعله كيانات جزئيَّة قابلة للسُّقوط تحت هيمنة الطَّامعين القريبين أو الأكثر بعدًا.
وقد يعاند بعض القادة الدِّينيِّين أو العرقيِّيين لدى بعض الكيانات الجزئيَّة، ويرفضون التَّجاوز الكلِّيَّ أو التَّجاوز الجزئيَّ عن بعض خصوصيَّاتهم طمعًا بالحصول على بعض المكاسب الشَّخصيَّة بهذا العناد، أو انسياقًا وراء الأقوياء الطَّامعين بالدَّولة من الجيران الإقليميِّين، أو رغبة بالانضمام إلى كيانات الطَّامعين ذاتها في المستقبل إذا استطاعوا تفتيت وحدة الدَّولة، الَّتي يعيشون فيها، ويُعزِّز مثل هذا العناد ومثل هذه المطامع إذا شاهدوا تجربة لبعض أقربائهم في العرق أو المذهب أو الدِّين أو الطَّائفة أو اللُّغة، وهم منضوون تحت كيانات إقليميَّة مجاورة، وإن كانت كيانات عدوانيَّة مغتصِبة؛ وفي الحال السُّوريَّة قد يعاند بعض الدُّروز على بعض القضايا الجزئيَّة البسيطة، ويعيش في مخيَّلة هذا البعض وَهْمُ الانضمام لإسرائيل، وربَّما يُعاند كرديٌّ على قضيَّة ثانويَّة أخرى، وفي ذهنه وهم الانضمام لإيران أو الحصول على دعمها أو دعم (عَدِيقتها أو صديقتها وعدوِّها إسرائيل) بسبب (اللُّغة والتَّاريخ المشترك القديم) بين الشُّعوب الكرديَّة والفارسيَّة في إيران خلال مرحلة تنازع الرُّوم مع الفرس، حين كان يتمدَّد قدماء الفرس شرق الفرات وغربه أثناء قوَّتهم، وينشرون لغتهم وثقافتهم ودينهم ومعتقداتهم حينًا، ويتراجعون أمام الرُّوم واليونان عندما تقوى شوكتهم حينًا آخر.
كيف تجاوزت الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة هذه المعضلة؟
بدأت تظهر مشكلات الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة منذ بداية اتِّساع رقعتها وامتدادها من مكَّة المكرَّمة حتَّى المدينة المنوَّرة، وحتَّى لا تقضي العشائريَّة على الدَّولة، وكيلا تدمِّرها في مهد نشأتها الأولى آخى الرَّسول الكريم-محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم-بين المهاجرين والأنصار. وحين رفض بعض اليهود والمسيحيِّين اعتناق الإسلام أو دين الدَّولة الجديد حفظ لهم الرَّسول الكريم حرِّيَّتهم الدِّينيَّة، وكما ميَّز المسلمون آل بيت رسول الله، وأكرموهم لأنَّهم أهل البيت، حفظ الرَّسول لليهود والنَّصارى حرِّيَّة المعتقد في الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة، وعدَّ لهم ذمَّة أو عهدًا في رقاب المسلمين كلِّهم من أجل حمايتهم وحماية حرِّيَّة معتقدهم؛ فصاروا أهلًا للذِّمَّة، ولم يُجبَروا على خوض المعارك مع الملسلمين لحماية الدَّولة في حين ضحَّى المسلمون بأولادهم وفلذات أكبادهم من أجل حماية الدَّولة النَّاشئة من الطَّامعين بها، وقال الرَّسول الكريم: (من آذى ذمِّيًّا فقد آذاني)، وأقرَّ عمر بن الخطَّاب-رضي الله عنه- (586-644.م) في وثيقة المدينة حقوق الحرِّيَّة الدِّينيَّة في إطار الحفاظ على عروبة الدَّولة؛ فالعربيَّة لغة الدَّولة الرَّسميَّة والإسلام دينها، ولم تنازع لغة الابتهالات الدِّينيَّة لليهود والمسيحيِّين الدَّولةَ العربيَّة الإسلاميَّة على اسمها، فحرِّيَّة المبتهلين لم تصبح أداة تنازِع الدَّولة على اسمها. وكذلك اعتنق الإسلامَ بعضُ الأعاجم من الفُرس والرُّوم والأمم والأعراق والقوميَّات الأخرى، ولم ينازعوا الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة على اسمها؛ لتكون (الدَّولة الإسلاميَّة) أو (دولة المسلمين) دون توصيفها بصفة (العربيَّة)، وفرحوا بحقوق المواطنة والمساواة حين نصَّ لهم دستور الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة على حقوق المساواة بالحديث الشَّريف: (لا فرق بين عربيٍّ أو أعجميٍّ إلَّا بالتَّقوى)؛ فالنَّاس أمام القانون متساوون عربًا وأعاجم، أمَّا شأنُ التَّمييز بين النَّاس حسب الدِّين والتَّقوى وعبادة الخالق فهو شأن متروك للخالق ذاته وليس للدَّولة.
عالج الرَّسول الكريم محمَّد-صلَّى الله عليه وسلَّم-مشكلات العشائريَّة والطَّائفيَّة والمكوِّنات القوميَّة الأخرى بمنحها حرِّيَّاتها الثَّقافيَّة والدِّينيَّة، ولم تنازع هذه القوميَّات الدَّولة على عروبتها أو دينها. ثمَّ ظهرت الملامح الأولى للحفاظ على عروبة الدَّولة بتعريب النَّقد؛ أي التَّعامل بالنُّقود العربيَّة بدلًا من الدَّراهم الفضيِّيَّة الفارسيَّة أو الدَّنانير الذَّهبيَّة اليونانيَّة في عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، عندما طلب من دور سكِّ النُّقود أن تسكَّ درهمًا فضيًّا وسطًا بين نوعين من الدَّراهم السَّاسانيَّة المسكوكة في عهد يزدجرد السَّاسانيِّ بزنة ثلاثة غرامات فضِّيَّة لا بزنة غرامين أو أربعة غرامات، وأمر بالكتابة العربيَّة على المسكوكات تأكيدًا على عروبة الدَّولة ولغتها الرَّسميَّة، فكتب السَّكَّاكون اسم (الله) جلَّ وعلى أو واحدة من عبارتي: (بسم الله) أو (بسم الله ربِّي) باللُّغة العربيَّة على هامش الدِّرهم الفضِّيِّ الجديد. ثمَّ جاء الخليفة الأمويُّ عبد الملك بن مروان (646-705.م) وعرَّب النُّقود كلَّها؛ دراهمها الفضِّيَّة الفارسيَّة السَّاسانيَّة ودنانيرها الذَّهبيَّة اليونانيَّة والرُّوميَّة لإزاحة جميع الرَّواسب القوميَّة الأخرى (اليونانيَّة والفارسيَّة) الَّتي قد تسيء لعروبة الدَّولة الإسلاميَّة، وبقي حقوق القوميَّات والأقلِّيَّات الدِّينيَّة محفوظة في الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة، ولم يطالب المسلمون الجدد بتعديل اسم الدَّولة-ما داموا قد حصلوا على حقِّ المواطنة والمساواة بنصوص الأحاديث والعهدة العمريَّة السَّابقة-حفاظًا على تميُّزهم القوميِّ أو العرقيِّ؛ لأنَّهم يدركون أنَّهم يعيشون في دولة مسلمة ذات أغلبيَّة عرقيَّة عربيَّة كبيرة، ولم يشعر المسلمون الجدد بأيِّ نقص في المساواة ما دامت النُّصوص تضمن مساواتهم برغم أسمائهم الفارسيَّة أو الكُرديَّة أو السَّاسانيَّة؛ مثل: يزجرد أو فريدون أو روزبة أو داذويه، بل على العكس من ذلك فقد بادر كثير منهم إلى تغيير اسمه الكرديَّ أو الفارسيَّ ليصبح اسمًا عربيًّا كما فعل مترجم كتاب كليلة ودِمنة حين جعل اسمه الجديد (عبد الله بن المقفَّع) (724-759.م) بدلًا من اسمه الفارسيِّ القديم (روذبة بن داذويه)، ومع أنَّه كان كاتبًا إسلاميًّا مرموقًا سار مع مصالح الدَّولة، وعرَّب اسمه بدلًا من مطالبته الدَّولة أن تتخلَّى عمَّا يشير إلى عروبتها في اسمها.
كيف تصرَّف الكُرد المسلمون؟
اعتنق الإسلامَ كثيرٌ من الكُرد من أصول فارسيَّة خلال الفتوحات الإسلاميَّة في الجزيرة الفراتيَّة وبلاد فارس وما وراء نهري سيحون وجيحون، وكانت لغتهم الكرديَّة أو لهجتهم الفارسيَّة لغتهم الأمَّ أو لغتهم الأصليَّة، وشكَّلوا مع الأتراك والكرد والفرس رافعة عسكريَّة للدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة حين صاروا جنودًا مقاتلين في جيش المسلمين، وبدأ دور العرب يتراجع لصالح ارتفاع شأن الأتراك والفرس والكرد منذ النِّصف الثَّاني في تاريخ الدَّولة العبَّاسيَّة، واعتمد الخليفة العبَّاسيُّ في بغداد على السَّلاجقة الأتراك في كثير من معارك الفتوحات الإسلاميَّة، وحين حكم السَّلاجقة في مدينة (الرَّيِّ-طهران) احترموا مكان حُكهم؛ فجعلوا الفارسيَّة لغة دولتهم الرَّسميَّة مع أنَّ العربيَّة لغة الدِّين في دولتهم الإسلاميَّة والتُّركيَّة لغتهم القوميَّة، وحصل تفاعل ثقافيٌّ وتعايش سلميٌّ بين الأتراك والفرس والكُرد في الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة خلال النِّصف الثَّاني من الدَّولة العبَّاسيَّة منذ حكم القائم بأمر الله العبَّاسيِّ وما بعده (1031-1075.م). وبرغم ارتفاع شأن السَّلاجقة الأتراك والأيُّيوبيُّون الكُرد في الدَّولة وحصولهم على المواقع القياديَّة فيها، حافظوا على عروبتها، وبقيت النُّقود والنُّقوش وخطب الجمعة العربيَّة دليلًا على عروبة الدَّولة وإسلامها، وأنتج هذا التَّفاعل الثَّقافيُّ نموذجًا يُحتذى في هذه الدَّولة.
اعتمد القادة السَّلاجقة الأتراك على مربِّين لتنشئة أبنائهم على العلم والثَّقافة الحربيَّة، وعُرف هؤلاء المربِّون باسم: (الأتابك) أو الأتابكة، وأنشؤوا بعد ارتفاع شأنهم فيما بعد إمارات الزِّنكيِّين، وتحالفوا مع الكُرد الأيُّوبيِّين المسلمين، واعتمدوا على صلاح الدِّين الأيُّوبيِّ (1138-1193.م)، وقرَّبوا الكُرد، واعتمدوا عليهم في الحروب؛ فقوي الزِّنكيُّون والأيُّوبيُّون، وحاربوا الصَّليبيِّين، وتمدَّدوا في الموصل وماردين وحلب وحماة وحمص ودمشق وبيت المقدس والكرك ومصر بعد تراجع نفوذ العبَّاسيِّين العرب والسَّلاجقة التُّرك، ولكنَّهم برغم قيادتهم للدَّولة والمجتمع لم يُتَرِّكوا أو الدَّولة أو يُفرِّسوها أو يكرِّدوها؛ أي لم يحوِّلوها إلى دولة (تركيَّة أو فارسيَّة أو كرديَّة) احترامًا لجغرافيَّة الدَّولة العربيَّة وللغة دينها العربيَّة، ولم يقل أحدٌ منهم هذه دولة إسلاميَّة وليست عربيَّة بل على العكس من ذلك تمامًا اتَّخذوا مع السَّلاجقة الأتراك قبلهم ألقابًا عربيَّة لأسمائهم؛ أي عرَّبوا أسماءهم الفارسيَّة والتُّركيَّة والكرديَّة بدلًا من مطالبة الدَّولة بالتَّخلِّي عن عروبتها احترامًا لهيبتها ودينها وأغلبيَّة سكَّانها، وتدلُّ النُّقوش العربيَّة على العمائر والنُّقود الَّتي تركها الزِّنكيُّون والأيُّوبيُّون على هذه العروبة، وتعدُّ النُّقوش العربيَّة على عشرات العمائر الزِّنكيَّة خير دليل على الفكرة الَّتي نتحدَّث عنها، كما في نقش المدرسة المجاهديَّة والبيمارستان النُّوريِّ في دمشق ونقش الجامع العمريِّ وجامع الشِّيخ عبد الله في حلب والمسجد الصَّغير في قلعة حلب وبرج نور الدِّين في قلعة حلب بالإضافة إلى الجامع النُّوريِّ في حلب وغيرها نقوش كثيرة، وإن كان هذا سلوك الرَّعيل الأوَّل من الأتراك والكُرد المسلمين حين كانوا على رأس السُّلطة فلن يكون سلوك المواطنين الكُرد والتُّركمان وغيرهم مختلفًا عن سلوك أجدادهم في سوريا الجديدة بعد تحريرها من عصابات البعث القوميَّة وعصابات الأسد الطَّائفيَّة!
حول معضلة التَّسمية في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة
عانى المسلمون العرب السُّنَّة-وهم الغالبيَّة العظمى بين سكَّان سوريا-من قوميَّة حزب البعث برغم رفع هذا الحزب شعارات القوميَّة العربيَّة، كما عانوا من طائفيَّة عصابة عائلة الأسد في عهد المجرمين حافظ وبشَّار الأسد برغم حرصهما على إظهار التَّديُّن الإسلاميِّ في كثير من المناسبات الإسلاميَّة كليالي رمضان والنِّصف من شعبان ولية القدر وعيد المولد النَّبويِّ وصلوات الجمعة والأعياد، ولم يحصل أحد من الأكثريَّة والمكوِّنات غير العلويَّة على حقوقهم الثَّقافيَّة أو تمثيلهم النِّسبيَّ العادل في الجيش والشُّرطة ووظائف الدَّولة الدَّاخليَّة والخارجيَّة برغم رفع البعث وآل الأسد شعاراتهم القوميَّة وتمثيليَّاتهم الدِّينيَّة؛ ومن هنا نستنتج أنَّ التَّسمية والشِّعارات لا قيمة لها إن لم يكن التَّطبيق تطبيقًا واعيًا وعادلًا، كما نستنتج أنَّ عروبة اسم (الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة) مع منح الحقوق الكاملة والمساواة بالواجبات الكاملة لجميع المواطنين يحمي الدَّولة، ويحصِّنها في ظلِّ تربُّص الإيرانيِّين بدولة سوريا النَّاشئة مستغلِّين بعض العواطف الدِّينيَّة؛ (كالمذهبيَّة الشِّيعيَّة أو العلويَّة أو الإسماعيليَّة) وبعض العواطف القوميَّة (كاللُّغة الكرديَّة والأسماء الكرديَّة والفارسيَّة) لدى من يحمل مطالب إيران المقنَّعة بشعارات المساواة والمعارِضة لإضافة صفة العربيَّة لاسم (دولة سوريا) أو (الجمهوريَّة السُّوريَّة)؛ وغالبيَّة العرب المسلمين السُّنَّة يؤيِّدون تأييدًا تامًّا المواطنين السُّوريِّين الكُرد والمسيحيِّين والشِّيعة والعلويَّة والإسماعيليَّة والدُّروز في حصولهم على حقوقهم ومواطنتهم الكاملة، ولا يخشون أبدًا ممَّن يطالب بهذه الحقوق، ولكن يخشون من تمدُّد إيران أو إسرئيل نحو سوريا من خلال استغلال هذه المطالب؛ ولذلك-ومن أجل ما عرضناه سابقًا-يجب على المواطنين السُّوريِّين أن يقتدوا بأسلافهم الدُّروز من التَّنوخيِّين القدماء في إدلب ومعرَّة النُّعمان والسُّويداء، كما يجب على المواطنين الشِّيعة والعلويَّة والإسماعيليَّة أن يحرصوا حرص عليِّ بن أبي طالب-رضي الله عنه-على عروبة الدَّولة السُّوريَّة؛ لحمايتها من المتربِّصين بها على الحدود، وقد سمعنا تصريحات رئيس وزراء إسرائيل المجرم بنيامين نتنياهو المحرِّضة للدُّروز وتصريحات وزير خارجيَّة إيران عبَّاس عرقجي المحرِّضة للكُرد والعلويَّة والشِّيعة والإسماعيليَّة، ورأينا تركيز إعلام الإسرائيليِّ عزمي بشارة على سلوك قوَّات الأمن السُّوريَّة، وهم تحمي سوريا وتدافع عنها ضدَّ تمرُّد فلول بشَّار الأسد وانقلابهم على السُّلطة المدعوم من إيران وإسرائيل بدلًا من تركيز عزمي بشارة ومرتزقته وتلفزيوناته (تلفزيون العربيّ وتلفزيون سوريا) على سلوك المجرمين المرتزقة من الفلول، الَّتي اغتالت سابقًا كمال جنبلاط ورفيق الحريريِّ، وفجَّروا المساجد والسَّفارات في لبنان بالتَعاون مع ميشيل سماحة، الَّذي يعرفه عزمي بشارة جيِدًا، واجتمع به وتصوَّر سابقًا معه ومع بثينة شعبان. ومن أجل سوريا الجديدة ومن أجل صونها وحمايتها لا نطالب أحدًا بتغيير مذهبه أو تعريب اسمه كما فعل الرَّعيل الأوَّل، بل نطالب الدُّستور الجديد أن يحافظ (للجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة) على عروبتها-ليس تشبُّثًا بالاسم ذاته، فلم تعد تعنينا التَّسميات والشِّعارات-وإنَّما من أجل تحصين سوريا من تحريضات إسرائيل وإيران، وقبل مطالبتنا الدُّستور الجديد بالتَّأكيد على عروبة سوريا والحفاظ على تسميتها باسم: (الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة) نؤكِّد على مساواة السُّوريِّين كلَّهم بالحقوق والواجبات أمام القانون دون أدنى تمييز عرقيٍّ أو طائفيٍّ، ونأمل أن تُنجز هذه المهمَّة بالإجماع أو الأغلبيَّة؛ كيلا نلجأ للتَّصويت الشّعبيِّ على هذا الاسم من خلال صناديق الاقتراع، ونتوقَّع أن تختاره أغلبيَّة السُّوريِّين السَّاحقة من أجل الحفاظ على وحدة سوريا وتحصين كرامة أبنائها من أطماع الطَّامعين.