دلالات وقضايا | دين الدَّولة ودين الإنسان
يكتبها: مهنا بلال الرشيد
لم يختر أيُّ شخص منَّا أبويه أو عِرقه أو أصولَه بإرادته؛ إذ يَعْرِفُ الإنسانُ عروبتَه عندما يولد لأسرة عربيَّة، ويكتشف جِرمانيَّته إذا وُلد لأسرة جرمانيَّة، وحين ينشأ في أسرة فارسيَّة فهو فارسيُّ، وبرغم تسيير المرء أو غياب إرادته في اختيار أصله أو تحديد عرقه لا يمكن أن يتحرَّر مطلقًا من تأثير هذه الأصول، ويكفي العاقل أن يحمي نفسه من الانزلاق في متاهات العنصريَّة والقبليَّة والعشائريَّة؛ ذلك لأنَّ تأثير الأصول في المجتمع يشبه تأثير زمرة الدَّم والحمض النَّوويِّ في خلايا الجسم الفرد إلى حدٍّ ما؛ وإن حدَّدت المورِّثاتُ شكلَ الإنسان ولونه وعاداته وفصيلة دمه وجزءًا مهمًّا من مستقبله الصِّحِّيِّ فإنَّ معرفة الإنسان الواعية بأصوله تحدِّد الجزء الأكبر من ثقافته ووعيه الاجتماعيِّ أو طريقة تفاعله مع أبناء مجتمعه وأبناء المجتمعات الأخرى.
ونتيجة لولادة الإنسان في أسرة عربيَّة أو جرمانيَّة أو فارسيَّة تتحدَّد لغته الأمُّ مع مصادر ثقافته والأيديولوجيا المهيمنة على بيئته، وإن تعلَّمت فئة قليلة من أبناء المجتمع لغةً جديدة غير لغتها القوميَّة أو لغتها الأمِّ؛ لتتعرَّف على الثَّقافات الأخرى، وتطَّلع على الأيدولوجيات المغايرة فإنَّه من الصَّعب على الغالبيَّة الباقية العظمى من أبناء المجتمع أن تتجاوز في المستقبل تأثير لغة أسرتها الأصليَّة، الَّتي تلقَّت بها (محكيَّة ومكتوبة) عادات مجتمعها وتقاليده، وتكوّنت من خلالها ثقافتها، وتحدَّدت بها ملامح شخصيَّتها.
الاعتزاز بالأخلاق الفاضلة في مواجهة العنصريَّة
تحدَّثنا بإيجاز شديد عن أثر الأصول العرقيَّة في الإنسان من جانب أوَّل، ويبدو تأثير الدِّين في الفرد من جانب آخر شبيهًا بتأثير اللُّغة فيه إلى حدٍّ بعيد؛ واللُّغة هي أداة الأصول العرقيَّة الأبرز في تشريب الأبناء ثقافة الآباء، وإن تكفَّل المجتمع بإجابة الطِّفل على أسئلة دينيَّة أو وجوديَّة مهمَّة وبلغة أُمِّه في المرحلة الأولى من مراحل تشكُّل وعيه وتفتُّح مداركه؛ مثل: مَن أنا؟ وكيفَ وُجدتُ؟ ومَن أين جاء آبائي؟ ومن أين جاء الإنسان الأوَّل؟ ومَن خلقه؟ فإنَّ الطِّفل يدرك بشكل أو بآخر بأنَّه يتلقَّى معلومات دينيَّة، وغالبًا ما يكتشف الطِّفل بعد إجابته على تلك الأسئلة المهمَّة وجودَ ثقافات دينيَّة أخرى، ومع ذلك لا يدرك أنَّه يتلقَّى هذه المعلومات بلغة محدَّدة، اكتسبها من أصوله، وفي الغالب لا يكتشف وجود اللُّغات الأخرى إلَّا بعد هيمنة اللُّغة الأمِّ على ثقافته كلِّها؛ لأنَّه يتلقَّى المعلومات بها، وفي غالب الأحيان-وإن تعلَّم فيما بعد لغات أخرى-تبقى كمِّيَّة ثقافة الفرد الَّتي يتلقَّاها باللُّغة الثَّانية أو الثَّالثة مسربًا ثقافيًّا صغيرًا مقارنة بالمعلومات الهائلة، الَّتي يتلقَّاها بلغته الأمِّ؛ ولهذا كلِّه تبرز مسؤوليَّة الدَّولة الكبرى في تنشئة الطِّفل تنشئة سليمة من خلال هيمنتها على مناهج التَّعليم المكتوبة باللُّغة القوميَّة أو باللُّغة الأمِّ بالنِّسبة للأطفال المتعلِّمين، ويجب عليها، وإن دفعت الأطفال نحو الاعتزاز بأصولهم ولغاتهم من خلال الاعتزاز بتاريخ أجدادهم، أن تربِّيهم على الأخلاق الفاضلة؛ كيلا يتحوَّل الاعتزاز بتاريخ الأجداد ولغتهم إلى عنصريَّة مقيتة، أو نزعة شوفينيَّة، وربَّما اختلطت العنصريَّة ببعض مظاهر الاعتداد المبالغ فيه بالعائلة أو القبيلة أو العشيرة في بعض المساحات، الَّتي تغيب عنها سلطة الدَّولة، أو لا يمكن لسلطة الدَّولة أن تطالها، حتَّى وإن بسطت سلطتها على الأرض، وفرضت سلطة قانونها على الأفراد.
دين الدَّولة ودين الإنسان
يكتسب الطِّفل لغة قومه دون وعيٍ؛ لذلك يبلغ تأثير القوميَّة قوَّة تأثير بعض الأمراض الوراثيَّة، إلَّا إذا أشرف على تربية الطِّفل أسرة واعية ومجتمع متحضِّر، ثمَّ يكتسب الطِّفل دين أبويه في بدايات تشكِّل وعيه؛ لذلك يمكن للعواطف الدِّينيَّة أن تؤجِّج مشاعر الفرد، وتقوده نحو أفكار وسلوكات جديدة، إن غاب الوعي، أو قصَّرت الأسرة، أو وظَّف الإعلام أو البيئة بعض المشاعر الدِّينيَّة في أدلجة الفرد أو توجيهه، وفي الوقت نفسه قد يقصر تأثير الدِّين، أو يتراجع دوره إذا نزع المجتمع نحو العلمانيَّة، وغذَّى الأطفال بالأخلاق الحميدة ومبادئ المحبَّة والتَّسامح المستقاة من الأديان؛ فقد قال الرَّسول الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق).
وبرغم تأخُّر تلقِّي الطِّفل بعض المعلومات الدِّينيَّة مقارنة بتلقِّيه المعلومات اللُّغويَّة في طفولته المبكِّرة إلَّا أنَّ تأثير الدِّين في الإنسان قد يتجاوز تأثير لغته فيه، لا سيَّما إن وقع الفرد تحت تأثير الأيديولوجيا الدِّينيَّة لبعض الأحزاب الدِّينيَّة المنظَّمة أو الجماعات الدِّينيَّة شبه المنظَّمة، وقد يغدو الطِّفل لقمة سائغة لبعض الأيديولوجيات الدِّينيَّة المتطرِّفة، لا سيَّما إن بقيت معلوماته الدِّينيَّة دون العتبة الدُّنيا حتَّى مرحلة المراهقة، فقد يجد نفسه مشغوفًا بما يروي ظمأه الدِّينيِّ، وربَّما يستغلُّ المتطرِّفون في هذه المرحلة شغف الطِّفل-المراهق بمعرفة بعض الأجوبة عن أسئلته الوجوديَّة الكبرى؛ من أمثال: من أنا؟ وكيف خلق الله الكون؟ ومن هم الرُّسل؟ وأيُّ الأديان أفضل؟ وإن لم يغذُّوا الطِّفل-المراهق بأفكار متطرِّفة في هذه المرحلة فإنَّهم-وفي غالب الأحيان-سيغذُّونه بأفكارهم، أو بالأيديولوجيا الدِّينيَّة السَّائدة بينهم. ومهما تكن درجة تأثير الدَّين في الإنسان، يبقى صاحبه مسيَّرًا لا مخيَّرًا إذا لم يسقط ضحيَّة بعض الأيديولجيَّات الدِّينيَّة؛ لأنَّه سينشأ على دين أبويه في غالبيَّة الأحوال، وقد قال الرَّسول الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: (يولد المولود على الفطرة، فإمَّا أن يمجِّسه أبواه، أو يهوِّداه، أو ينصِّراه).
تربِّي مدارس الدُّول المتقدِّمة أطفالها على الأخلاق الحميدة، الَّتي تعزِّز لديهم فكرة المواطنة والتَّعايش السِّلميِّ ومبدأ المساواة بين المواطنين أمام قانون الدَّولة، وتحميهم هذه الأخلاق الحميدة من أخطر آفتين في دول العالم الثَّالث؛ وأعني بهاتين الآفتين: الآفة الأولى؛ وهي العنصريَّة وما يتفرَّع عنها؛ كالقبليَّة والعشائريَّة والنَّزعة العائليَّة وكذلك النَّزعة الشُّوفينيَّة، وتتمثَّل الآفة الثَّانية بالتَّطرُّف الدِّينيِّ وما يرتبط به من طائفيَّة تتغذَّى على بعض الأيديولوجيَّات الدِّينيَّة المتطرِّفة والنَّزعات التَّكفيريَّة، وبعض الموجات الإلحاديَّة القاصرة، الَّتي يتجاهل أصحابها الجانب الرُّوحيَّ السَّامي والمتسامح في الدِّين؛ ذلك الجانب الَّذي يحتاجه الفرد؛ ليغذِّي بذرة الخير فيه؛ لتتفوَّق على الجانب السَّوداويِّ المظلم.
وقد يقصر تفكير بعض الملحدين؛ فيعتقدون أنَّ حرِّيَّة التَّفكير لا يمكن التَّعبير عنها إلَّا بالإلحاد؛ ولذلك يرى بعض أصحاب هذه النَّظرة القاصرة أنَّ كثيرًا من المتديِّنين ليسوا إلَّا دراويش يعوقون ركب الحضارة والتَّقدُّم، وتشكِّل مثل هذه النَّظرة خطرًا لا يقلُّ عن خطر التَّطرُّف الدِّينيِّ؛ لذلك يمكننا أن نطرح سؤالًا مهمًّا في نهاية هذا المقال؛ لنقول فيه: ما الحلُّ؟ أو: أين الحلُّ؟
لا شكَّ أنَّ سوريا -بوصفها جزءًا مهمًّا من الشَّرق الأوسط- عانت من الصِّراع الطَّائفيِّ الَّذي تغذِّيه بعض الأيدولوجيَّات الدِّينيَّة المتطرَّفة، ولم تنبع هذه المعاناة من غياب دولة القانون والمواطنة وحسب، بل زاد من حدَّتها تقاطع مصالح بشَّار الأسد مع كثير من مصالح قادة المليشيات الطَّائفيَّة المتشدِّدة؛ فاستقطبهم؛ ليحقِّق كلٌّ منهم مصالحه على حساب مصالح المواطن السُّوريِّ المعذَّب في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين. وإن قادت مكاسب المليشيات الطَّائفيَّة بعضًا من أصحاب التَّفكير القاصر نحو التَّشدُّد الدِّينيِّ من جانب أوَّل؛ فإنَّها دفعت بعض المراقبين من النَّاشئة نحو الإلحاد من جانب آخر. ولا شكَّ أنَّ الحلَّ خارج هذين الاتِّجاهين المتناقضين؛ لا يكمن الحلُّ في التَّشدُّد الدِّينيِّ، الَّذي يغذِّي الطَّائفيَّة أو يقود إليها، ولا تواجَه الطَّائفيَّةُ وأسبابُها بالإلحاد أيضًا، وإنَّما يُستقى الحلُّ من دين الفطرة الَّذي أشار إليه الرَّسول الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا مشكلة بولادة المولود على الفطرة، ولا مشكلة إن ربَّت الأسرة طفلَها على المحبَّة المستقاة من دينها أو دين آبائها، وإنَّما المشكلة إن قصَّرت الأسرة بدورها، وغابت الدَّولة، وتُرك الطِّفل بين موجات الإلحاد والطَّائفيَّة، وكبرى المشكلات إن غذَّى النِّظام الحاكم الطَّائفيَّة، وراح يقتات على سمومها فوق كرسيِّ الحكم؛ ومهما يكن، وإن حصل هذا برهة من الزَّمن، لا بدَّ من أن تعود الأمور إلى نصابها؛ لترعى قوانين دولة المستقبل أهمَّ مظهرين من مظاهر الحرِّيَّة، وتضمن للفرد بجانب حرِّيَّة المعتقد حرِّيَّة الحديث مع أبناء قومه بلغة أمِّه؛ وهاتان الضَّمانتان إن لم تشكِّلا معنى العلمانيَّة، وتصوغا روحها؛ فلا شكَّ أنَّهما أهمُّ مظهرين من مظاهرها.