سعيد فريحة يكتب عن نجيب الريس... واللاذقاني يتذكر زمنه وابنه رياض
في الذكرى الأولى لرحيل الصحفي نجيب الريس، كتب سعيد فريحة صاحب مجلة (الصياد) مقالا عن ذكرى هذا الصحفي الحموي اللامع، الذي كانت صحيفته (القبس) واحدة من أبرز الصحف السورية بين ثلاثينات وخمسينات القرن العشرين، ونشرت (الصياد) مع مقالة سعيد فريحة، رسالة من ابنه رياض نجيب الريس الذي كان يدرس في مدرسة (برمانا) في لبنان، وقد اختارت (العربي القديم) أن تنشر هذا، مشفوعاً بزاوية د. محيي الدين اللاذقاني الذي كتب بلغته العذبة وإلمامه العميق يتحدث عن مجد نجيب الريس، ومشوار ابنه الصحفي والناشر البارز رياض نجيب الريس، بلغة ممتلئة بالحب والإنصاف. (العربي القديم)
***
ذكرى أبي رياض
بقلم: سعيد فريحة صاحب مجلة (الصياد)
ونعنى الأخ الحبيب، فقيد الصحافة والرجولة والأخلاق، المغفور له نجيب الريس.
لقد مضى عام كامل على وفاته، وكأنه يوم واحد، أو لحظة واحدة… بل كأن نجيب الريس لم يغب عن هذه الدنيا؛ وإنما هوفي رحلة من رحلاته القصيرة التي اعتاد أن يقوم بها ليعود في نهايتها مشرق الوجه، دافق الحيوية، يدوي صوته ويجلجل مرحباً أو معاتباً أو داعياً إلى مروءة.
وأمس عندما زرنا دمشق، نسينا الواقع الأليم وأخذنا بحكم العادة التي درجنا عليها طوال ربع قرن سماعة التليفون، وأوشكنا أن نطلب جريدة “القبس” لنسأل عن أبي رياض. ولكن الحقيقة تجلت لنا فجأة، فسقطت سماعة التليفون من يدنا، وسقطت دمعة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة على الأخ الغائب!
أن نجيب الريس ذهب ولن يعود!
ذهب وترك طيفه يعيش في خيال أصدقائه وضمائر محبيه. ذهب بعد أن أضاف إلى أمجاد وطنه سورية، مجد قلمه الجبار ووطنيته الصادقة، ووفائه العجيب!
ولقد كان من الوفاء لرجل الوفاء أن يقوم من بين أصدقاء نجيب الريس في القطر الشقيق من يحيي ذكراه، ويعدد مآثره في حفلة تأبينية كبرىـ ولكن الذي حدث أن بعضهم تناسى، وبعضهم الآخر اكتفى بإصدار عدد خاص من الزميلة “الزمان” التي اندمجت بجريدة “القبس” عن الذكرى العزيزة الغالية!
فإلى هذا البعض الأخير، وإلى (بدوي الجبل) بنوع خاص، الذي بكى صديقه وعشيره بأروع الآيات، وأكرم العبرات، تحية الشكر والتقدير، من أخ يشاطرهم الحزن ويشاركهم الوفاء لذكرى الرجل الذي كان وفيا لربه ووطنه وأسرته وأصدقائه جميعاً.
…. ورسالة من رياض
كان صاخب (الصياد) قد تلقى رسالة بتوقيع “طالب سوري” في برمانا، فعرف صاحبها على الفور، وهو الشاب النابه رياض، نجل المغفور له نجيب الريس، وقد كتب له ما يلي:
“عرفناك رغم تنكرك وإخفاء اسمك، وليس هذا الذي تجلى بين سطور رسالتك من روح وطنية ونزعة قومية، وعاطفة نبيلة نحو (الصياد) وصاحبها، سوى الدليل الذي نهتدي به إلى وجهك الحبيب يا رياض. يا بن أبيه، يا نجل من فقدنما وفقدت الصحافة والعروبة والوفاء.
أما في صدد سؤالك عن ولعك بالمطالعة وكيف تداويه، فنجيبك: طالع باستمرار، ولا تحرم نفسك من نور المعرفة. ولكن ليس شرطاً أساسياً أن تقرأ كل صحيفة وكل كتاب. اختر القليل المفيد الذي يلائم ذوقك، وينسجم مع روحك، وتجنب فوضى المطالعة، إنها تضر بك طالباً وناشئاً.
بقيت الصورة الكاريكاتير التي ترمز إلى كثرة عدد الصحف في لبنان. إننا لم نقصد من ورائها الدعوة إلى الدمج والإدماج، وإنما قصدنا الاكتفاء بما صدر حتى الآن وزاد على حاجة الشعب! وختاماً نقبلك ونحييك، ونطالبك بأن تكون دائما ابن أبيك “.
رياض يرد…
وقد أجاب رياض نجيب الريس على هذه الكلمة بالرسالة المؤثرة التالية:
” عزيزي الأستاذ سعيد: لقد عرفتني وأنا أعرفك. وإنك تعتبرني كولدك عصام أو بسام، وأنا أعتبرك كوالدي نجيب… ذهب أبي وتركنا في ظلام دامس، وأراد القدر أن ينتزعه من بين أيدينا وهو قرة عيوننا… وقد بكيناه طويلا ولانزال. ولكن لم يمض على وفاته زمن قصير حتى نسيته سوريا، ونسيه أصدقاؤه أو تناسوه، وقليلون هم الذين يذكرونه. عاد المرح إلى قلوب الجميع، أما أنا فإن قلبي يقطر دماً، وأصبحت من بعده أحب عيشة الوحدة، وكنت قبلاً أنظم مع عصام وبسام (العراضات والمظاهرات)، وكانت الضحكات تخرج من أعماق قلبي، ولكن أتت الكارثة فغابت الابتسامة، وانفردت بنفسي، حتى ظن عصام أنني مللت صحبته، ولكن كن على ثقة بأني أعتبره أخي، وإن شاء القدر ألا أشاركه مرحه وانطلاقه.
وصلتني “جعبة الصياد” وسأعود إليها كلما طغى الحزن على نفسي. أبقاك الله يا أبا عصام لأولادك وذويك، وأبقاهم لك”. رياض نجيب الريس.
مجلة (الصياد) اللبنانية – شباط / فبراير 1953
يا ظلام السجن خيم على نجم النواعير
بقلم: د. محيي الدين اللاذقانــــــــــــــي
اذكر أمام أي سوري اسم الريس، وسيقفز لذهنه فوراً نشيد أحرار سوريا أيام الانتداب الفرنسي، الذي كتبه ابن حماة الكاتب والصحافي الألمعي نجيب الريس:
يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ الليل إلا. فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
إنه ذات الفجر الذي ينتظره السوريون في كل الأزمنة، فتبزغ شمسه على جيل وتغيب عن آخر، ومع تغير الأزمنة يتغير كل شيء في سوريا إلا سيرة الظلام والسجون، وهي في زمننا لا تشبه سجون الاحتلال الفرنسي، الذي نقل الريس بين سجون حلب ودمشق وبيروت، ثم نفاه إلى جزيرة أرواد التي يحلم السياح بزيارتها، وهنا يظهر الفرق بين المحتل الأجنبي الذي كانت سجونه استراحات مؤقتة، والمحتل المحلي الذي حوّل السجون في أيام العصابة الأسدية إلى مسالخ بشرية.
ولم يكن هذا النشيد وحده هو الذي صنع مجد نجيب الريس، فقد كان في جيله من ألمع كتاب سوريا، وكانت جريدته “القبس” صوتا للأحرار إلى أن جاء زمن الديكتاتوريات، وفرض أديب الشيشكلي على الصحف أن تندمج خوفاً من امتداد موجة حرية التعبير، فاندمجت “القبس” مع “العلم” وصار اسمها “مرآة الزمان”. وعلى ذكر الاستعمار، والمستعمرين لابد أن كل هذا الإرث العائلي كان في ذهن رياض نجيب الريس، ابنه الذي جند كوكبة من الكتاب العرب لإصدار كتاب فريد من نوعه اسمه “عودة الاستعمار” وكأنه كان يحدس بأن الاستعمار لابد أن يكون عائدا، وها هو قد عاد، ففي سوريا وحدها خمسة جيوش احتلال ناهيك عن الميليشيات، وطوابير المرتزقة. وما وضع لبنان الذي كان الوطن الثاني لنجيب الريس، وولي عهده رياض بأفضل من وضع سوريا مع الاحتلالات الخفية والمرئية، لكنه على علاته ظل أكثر أمناً من سوريا، وأكثر احتراماً للكلمة وأهلها، فها نحن نكتشف في أوراق ذلك الزمان “وقل للزمان ارجع يازمان” إن سعيد فريحة ألمع صحافيي لبنان هو الذي يذكّر السوريين بأهمية كاتبهم الذي أهملوا ذكره بعد سنوات قصار من رحيله، كما نتعرف على عادات الطبقة السورية الوسطى التي كانت ترسل أولادها إلى مدرسة (برمانا) اللبنانية التي أرسل إليها الريس ابنه رياض ليتزامل مع عصام بن سعيد فريحة، في ما أوشك أن يكون صداقة عمر.
وما زلت أذكر إن المرة الوحيدة التي قابلت فيها عصام فريحة في مهرجان لسباق الهجن في دولة خليجية أن أول سؤال وجهه لي كان عن رياض نجيب الريس الذي اتخذ من لندن مقراً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ومنها أصدر صحيفة ” المنار” التي لم تعمر طويلاً لأن الثمانينات وما تلاها، كانت حقب تحول الإعلام من سلاح يحارب بالكلمة الى حلية للنفاق، ومدح المسؤولين والأثرياء ونسائهم، وخدمهم، ومن شذ عن ذلك الأسلوب قطعوا أصابعه، وأحرقوها كما حصل مع أكبر وأذكى كتّاب تلك المرحلة صاحب “الحوادث” سليم اللوزي.
لقد انتقد رياض الريس نفسه كثيراً واعتبر نفسه فاشلا في الحوار العميق الذي أجرته معه سعاد جروس ولو كان منصفاً مع نفسه لأدرك أنه لم يقصر، وسجله في الكتابة والنشر يشهد بذلك، لكن الزمن العربي هو الذي تغير وهذا ما لم يدركه كثيرون من الذين يظنون أن الكلمة ما تزال تؤثر، وتغير كما كانت في أزمنة آبائهم وأجدادهم. رحم الله الأب والابن فقد غادرا حماة لكن المدينة لم تغادرهما، وما زلت أذكر لليوم هذه الجملة القصيرة التي كتبتها سعاد جروس في رثائه قبل أعوام: “مع أنك لم تولد في حماة ولم تعش فيها، إلا أنك حموي عتيق ينقصك القنباز والشاروخ وتنكة السمنة”. وفي حالتهما، وعلاقتهما بأم النواعير كم يصدق في الاثنين المثل الأميركي القائل: “تستطيع أن تأخذ الولد من القرية لكنك لا تستطيع أن تأخذ القرية من الولد”.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024