أرشيف المجلة الشهرية

التيارات الدينية في طرابلس الشام

أحمد يسَّاوي – العربي القديم

لا تخرج طرابلس عن مقولة: لكل امرئ من اسمه نصيب، فهي طرابلس الشام، المنتمية لهذه الأرض المباركة التي قدستها كل الأديان والمعتقدات، وأدركت قيمتها كل الحضارات والممالك التي قامت وتعاقبت على طرابلس منذ أيام الفينيقيين قبل 3500 عام وحتى يومنا هذا.

ولأنها الثقل العربي السني في لبنان التي أطلق عليها قلعة الإسلام، فقد كانت تلعب دوراً كبيراً في عملية التوازن، بل التفاعل مع التيارات القومية، وكذلك الدينية التي كانت تهب رياحها على لبنان ما بين الحين والآخر، فهي القومية الصرفة أيام الناصرية الجارفة، وهي الإسلامية أيام نشوء التيارات الدينية، وعلى رأسها مدرسة الإخوان التي تمثلت في عدد من الدول العربية، فكانت طرابلس نقطة الارتكاز الأساسية لهم.

فإن كان لابد من تركيز الحديث على التيارات الدينية التي مرت على طرابلس الشام، فلا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عند ثلاثة تيارات، أو مدارس ظهرت واضحة في المشهد الطرابلسي، منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا.

لعل أقدم وأعرق تلك المدارس، هي المدرسة الرسمية التي تمثلت في دار الفتوى اللبنانية، وفرعها الموجود في طرابلس، (ما يتبع لها من مؤسسات كالمحاكم والمعاهد والمدارس الشرعية)، فهي وريثة الشرعية للحقبة العثمانية بفقهها وفكرها وعقيدتها، بل وحتى بارتباطها بامتدادها الطبيعي في دمشق الشام، فقد كان العلماء الطرابلسيون من خريجي المدرسة الشامية التقليدية بفقهها الحنفي والشافعي، وتأثرها فكرياً بالمدرسة الصوفية المعتدلة التي تركز على السلوك والتهذيب بمقدار متوازن، لا يترك مجالاً لناقد أو مشكك.

 ومما ساعد على ذلك الفهم الهادئ، هو تنوع المجتمع اللبناني من جميع الملل والطوائف الذي يجعل التدين بشكل عام غير مغالٍ ولا منغلق. أما دور هذه المدرسة سياسياً، فقد كان ملتزماً بدار الفتوى الرئيسة في بيروت، فهي تتبعه في دعم رؤساء الحكومات السنية أياً كانت شخصية رئيسها وتوجهه، فهي تدرك تماماً، أن لبنان بطبيعته الطائفية يبقى حبيس تلك التوازنات التي تجعل أي مؤسسة دينية رسمية قائدة لطائفتها، ومن يمثل تلك الطائفة في المنصب الأعلى في الدولة اللبنانية. لذا تفاوتت مواقف طرابلس الدينية الرسمية مع النظام السوري، ما بين علاقة مضطربة، أو حتى يمكن القول إنها كانت عدائية تماماً، لا سيما أيام هجوم الجيش السوري على طرابلس عام 1985، وما تبعها من مواقف دموية خاصة يوم وقف النظام مع علويي طرابلس، (الذين لا يتجاوز عددهم الآن 50 ألفاً)، ضد الغالبية السنية، مما جعل قسماً من علمائها يعادون هذا الوجود، ويدعون إلى مقاومته، وما بين علاقة هادئة، ولا سيما بعد اتفاق الطائف، ومرحلة الحريرية السياسية التي شهدت علاقات وتواصل علمائي على نطاق واسع، ثم عودة العداء من جديد بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، وما تبعه من اتهام للنظام السوري بتلك الجريمة الدولية، لكن بقى هذا العداء في إطار محدد ومنضبط إلى حد كبير. وجاءت أحداث الثورة السورية لترخي بظلالها على تلك العلاقة، فآثر هذا التيار أو هذه المدرسة الوقوف رسمياً مع الشعب السوري، وتبنت قضيته رسمياً وشعبياً، وقامت بالتبرع مادياً لدعم الشعب السوري واستقبلت كثيراً من المهجرين الفارين من بطش النظام وآلته العسكرية.

ومع ظهور التيار الديني المتمثل بالإخوان المسلمين في منتصف الخمسينيات، كانت طرابلس الشام حاضرة بقوة، عندما استضافت مؤتمرات تلك المدرسة، ومنذ عام 1962، برز اسم عراب هذه المدرسة الداعية فتحي يكن، كأحد أهم المفكرين والسياسيين الطرابلسيين الذين قادوا الجماعة الإسلامية، وهي الاسم المحلي للإخوان في لبنان، وبقي حاضراً حتى وفاته عام 2009.

امتازت هذه المدرسة باهتمامها بالعمل السياسي خارج دار الفتوى، وعملت على شق طريقها بعيداً عن المؤسسات الرسمية، فكانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع التيارات الفكرية الأخرى، ولاسيما حزب الله الذي عملت الجماعة الإسلامية معه على محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وخلق حالة من التوازن ما بين جميع التيارات التي كانت فاعلة على الساحة اللبنانية، وهذا ما جعل هذا التيار يحظى برضى النظام السوري، وتابعيه في لبنان، فتم استقبال الدكتور يكن من قبل حافظ الأسد شخصياً، ومساعدته في الحصول على مقعد نيابي، وهذا ما لم يكن مرحباً به عند كبير من أهل طرابلس الشام. لكن ما لبث هذا التيار أن انقسم على نفسه فآثر د. يكن الانفصال عن الجماعة، وتشكيل جبهة العمل الإسلامي كتيار مستقل، وقام بإنشاء جامعة خاصة، اسمها جامعة الجنان، وحظيت باعتراف النظام السوري كنوع من رد الجميل لمواقف يكن وتياره، وتمايزه عن المؤسسة الدينية الرسمية الطرابلسية، حتى بعد وفاته، وهذا ما يفسر بقاء هذا التيار على الحياد في المسألة السورية منذ 2011 ، فلم يصدر عنه أي إدانة للجرائم التي ارتكبت بحق السوريين، وفي الوقت نفسه لم يصدر عن التيار أي تأييد واضح وصريح للنظام السوري. ولعل هذه الرمادية، جعلت المراقب هذه الأيام، لا يكاد يلتفت لوجود هذا التيار على الساحة الطرابلسية.

وعلى النقيض تماماً، كانت طرابلس الشام على موعد مع ولادة تيار، أو مدرسة فكرية شديدة التمايز في الحدة والشراسة، فمع دخول الجيش السوري، ظهر تيار سلفي استمد فكرته، من المدرسة الوهابية التقليدية على يد الشيخ سالم الشهال الذي درس في السعودية في أواخر السبعينيات، ثم عاد وأنشأ ما عَرف بجماعة (مسلمون)، وبرز اسم ابنه داعي الإسلام الشهال كأحد الوجوه البارزة، ولاسيما بعد تشكيل جيش التوحيد التابع له برئاسة الشيخ سعيد شعبان. لقد كان هذا التيار الطرابلسي شديد العداء للوجود العسكري السوري في طرابلس، وبقي مقاوماً له حتى اضطر داعي الإسلام إلى مغادرة لبنان إلى السعودية هرباً من بطش النظام. بقي التيار السلفي يعيش سنوات طويلة تحت ضغط عسكري وأمني حتى بداية التسعينات، وإبرام اتفاق الطائف، وبدء مرحلة الحريرية السياسية التي قادت طرابلس خصوصاً، ولبنان عموماً إلى مرحلة استقرار نسبية، أدت إلى عودة داعي الإسلام إلى طرابلس، واستعادة الزخم، والدعوة للتيار السلفي الذي كانت آثاره ظاهرة بشكل واضح على المجتمع الطرابلسي، الذي تأثر بالدعوة السلفية آنذاك. وكانت بعض المشاهد الجديدة على المجتمع الطرابلسي (الشامي) كاللحى الطويلة، والثوب القصير للرجال، والنقاب الأسود للنساء لافتة للنظر، وتجعل من السهولة بمكان رؤية الأثر الشعبي الواضح على المجتمع هناك.

لا يجد المرء صعوبة في توقع تفاعل هذا التيار، وردة فعله على ثورة الشعب السوري، ضد النظام الذي طالما حاربه هذا التيار، واكتوى بناره، وتسبب بتهجير قادته سنوات طويلة، فسارع إلى مباركة هذا الحراك ودعمه مالياً ومعنوياً، وسخر كل إمكاناته من أجل استمرار زخم الثورة، كي تصل إلى أهدافها التي تقاطعت مع أهداف هذا التيار، في ضرورة إسقاط النظام الذي طالما ارتكب الجرائم ضد الشعبين اللبناني والسوري. على أن هذا التيار تأثر كثيراً بوفاة مؤسسه داعي الإسلام عام 2022، لكنه ما زال فاعلاً على الساحة الشعبية، رغم تغيير الظروف، والتضييق الكبير الذي يتعرض له، من قبل المؤسسات الرسمية، ولاسيما تلك التي يسيطر عليها حزب الله الذي يرى في هذا التيار خطراً حقيقياً، قد يقود إلى حرب مذهبية تطيح بالجميع.

لقد كانت طرابلس الشام، ومازالت تمثل الوجدان العروبي الديني المعتدل الذي يعد انعكاساً حقيقياً، وامتداداً طبيعياً للمدرسة الشامية التي تمتد من فلسطين إلى سورية إلى لبنان، حيث تتلاقى الحضارة والثقافة والفكر على أرض، شهدت الكثير من الصراعات السياسية والدينية، التي كانت ترخي بظلالها على التيارات الفكرية، وعلى العلاقات الاجتماعية ما بين أبناء المجتمع الواحد على علاقة المجتمع الدينية والاجتماعية، مع شركائها في الوطن والإنسانية؛ لذا كان انتماء أهل طرابلس الشام لأهل سورية أكبر من الحدود المصطنعة، وأثبتوا أنهم أبناء برره لشامهم الكبرى التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود.

_________________________________________

 من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى