مع أورينت متَّهمٌ لا يأبَهُ للبراءة
بقلم: حازم العريضي*
نصرة، إخوان، عميل أميركي أو إسرائيلي.. وسوم تحملها معك بعد العمل في أورينت.
نعم، عملت صحفياً مع أورينت!
-“..عاملين ثورة مفكرين تشيلو بشار؟”، قالها لي إثر استدعاء، مع ابتسامة غزال عربي أصيل تبدي أسنانه الأمامية الكبيرة، ضابط مخابرات في مكتبه في إحدى الدول الشقيقة.
-“نعم، هيك كنا مفكرين”، أجبته مع ابتسامة ساذجة، أظنها بدت بريئة.
● “معلّمكم مع إسرائيل”، قالها لي خالد (المعارض) الذي يعيش في الدولة العربية ذاتها مع “معلمي”.
● “أنت أدرى؛ أنت وإياه كنتو طيزين بفرد لباس”، جاوبته بصوت جهوري وابتسامة “مُحِب”، أمام جمع من الصحفيين العرب في جنيف.
-“أنتم إخوان!” صرخ بوجهي، على الهواء مباشرة، نجاح.. ضيفي “المعارض” العراقي المدافع عن إيران التي يخطب ودّها بعضهم.
-“..” بصراحة هذه لم أعلّق عليها، بل “ضحكت بعبّي”، وتابعت الأسئلة التي استفزته إلى أن تبرّأ من بعض الفصائل العراقية التابعة لإيران المنتشرة في بلدنا ..
-“كيف تعمل مع قناة تدعم النصرة”، هذه سمعتها كثيراً، لكن لن أخبرك جوابي عزيزي القارئ؛ لأنه ليس مسلّياً، إذ إن هذه التهمة كانت تذكّرني بأحد التحقيقات معي في فرع فلسطين!
-“(سوري) Syrian ؟!” مع نظرة لاعبة بوكر بلا ملامح، سألتني ضابط الأمن في خيمة الصحفيين بمقر الناتو -بروكسيل، خلال تغطية وصول ترمب، بينما تتفحّص جواز سفري، برفقة رجلين استغربت أن قامتهما لمَ تبدوان لي طويلتين مع أنهما تجاوزتا المترين!
-“(نعم) yes”، أجبتها بطريقة “السلبينا” المغفّلة، كما أوصاني نبيل من دبي، وقد كان أخبرني قبل سفري من إسطنبول أن أحمد رئيس التحرير، لم يرسل باقي الأوراق المطلوبة، لإثبات تكليفي من المؤسسة (غالباً كان مشغولاً بالفيسبوك كالعادة).
-“عميل أميركي”، مع عيني ثعلب وفراسة عرّافة، قال لي زميل “صحفي” من قناة شقيقة ممازحاً، حين التقاني بعد ترتيبي لقاء مع جوشوا بيكر المتحدث الرسمي باسم الخارجية.
-“لا يا زلمي.. مش أنا”، أجبته كي لا اضطر إلى شرح الطريقة الروتينية لإرسال إيميل، والتواصل مع رانيا مستشارة جوشوا؛ لأن الحقيقة لن تكون مقنعة للزميل 007
إن لم تكن مللت عزيزي القارئ، ولا تزال معي حتى اللحظة، أقول لك “نعم”، هي الإجابة الأسهل لكل ما ذكرت..
الوصول إلى الحقيقة وإيصالها إلى الناس، كانت ولا تزال حقاً من حقوق الإنسان، تقوم لأجلها ثورات، فلا تأبه زميلي الصحفي للبراءة، فلو فعلها آدم لما استعمرنا الكوكب، ولبقينا متطهّرين من الخطيئة.
حين دعاني الصديق محمد منصور للكتابة عن أورينت كتب إلي: “اكتب بصراحة شديدة، ولا تجامل أحداً، وبتوقع تكتب شي مهم وصادق”.
ذكّرني ببعض ما قاله لي خلال عملنا في أورينت، بعد سنوات من تزكيته لي، تهرّبت في البداية؛ لأنني لم ولن أعبأ بالتهمة وبالبراءة، ولذا فلن أكتب في هذا غير انطباعات، وبضعة أسطر لا تعبأ أيضاً بالقالب “الرصين”، والجمل “الأكاديمية” المقعّرة التي درج عليها “إعلام النخبة”، كما يسمّيه أصحابه في مؤسسات شقيقة مؤخراً..
نعم، سأكتب بما يشبه أورينت المتّهمة أيضاً بالشعبوية والفوضوية، و”المؤامرة” وغير ذلك..
أورينت كانت تشبه مشافي دمشق، حيث يتعلم طلاب الاختصاصات الطبية بعيداً عن الالتزام الحرفي بالبروتوكولات الطبية الأوروبية التي تقدّس المرجعية الغربية، دون تقديس الهدف من تلك البروتوكولات، حتى لو كانت حياة المريض أحياناً ثمناً، بل غالباً لا تفهم آلية التفكير التي تعوّض عن بروتوكول وُضِع للكسالى ربما.
بل تشبه أورينت المشافي الميدانية في الثورة، أو سمّها “حرباً أهلية”، حيث الطبيب ناشط، ومعايير التعقيم تتم وفق الظروف الواقعية في الجحيم، لكن نزلاء “المشفى” خطيئتهم جهلهم بالجواب الأكاديمي عن سؤال شبيح “هي هيّة الحريّة؟!”.. “بدكن حرية؟!”
آخر قصة سأرويها لك عزيزي القارئ، هي حين انتدبت لأمثل أورينت في فعالية أوروبية، استضافت مثلي مندوبين لمنصات وقنوات شقيقة مع بضعة “خبراء” أوروبيين في التغطيات الصحفية زمن الحروب.
يومها كان نصيبي من الكلام على المنصة عشر دقائق، والندوة عن “سلامة المراسل”.. بدأتها بخمسٍ لإعادة شرح نقاطٍ رئيسية من بروتوكول، وضعه “الخبراء” وبعض ما فيه من توجيهات نظرية، ثم انتقلت إلى النصف الثاني بأقل من أربع دقائق، عرضت خلالها حقيقة ما يواجهه مراسلو أورينت على الأرض (زملائي في الداخل)، تحت قصف البراميل والخطف والاعتقال، مع صورهم على شاشة الإسقاط.. وفي النهاية، قلت لهم في النصف الأول عرضت لكم بروتوكولاتكم التي نحفظها وتكررونها، ثم مقتطفات يسيرة من الحقيقة وسأخرج عن قواعد جلستكم هذه، وأتكلم بالسياسة: “الصحفيون السوريون وعموم الشعب السوري دفعوا حصتهم من ثمن مواجهة عبثية بقاء الأسد في الشام، ولم يعد عندنا ما نخسره.. نصيحة لأجلكم تنبّهوا من الثمن الذي ستدفعونه أنتم”.
خرجت بعد ذلك غير آبه بانتقادات بعض الزملاء المستفيدين من “الحاضنة الفرنسية”، ومثل ذلك لا آبه اليوم لسيل الانتقادات على ما شاركنا بفعله، وهو إن لم ينجح إلا أنه طرح الأسئلة اللازمة لنجاح سيأتي يوماً ما:
● ألا يزال دور الصحفي (ابن البلد) عندنا في سوريا ملتبساً على كثر من “السياسيين” المستجدّين منذ تشكيل ما يسمّى “المجلس الوطني” و”الائتلاف” وغيرهما وصولاً الى ما تسمّى في السويداء اليوم “اللجنة السياسية”؟!.
● هل تعلم عزيزي السياسي والآخر الناشط، أن سلوك وطبيعة الصحفي، هي أن “ينكش” المعلومة ويثير الحوار، بل الانتقادات في الفضاء العام، وخاصّة بشأن أداء “السياسيين”؟
صلب عمل الصحفي تلبية حق الجمهور (الناس و “السياسيّين”) في الوصول إلى كل المعلومات، وكل ذلك ليتحمّل الجميع مسؤولية التشارك في أعباء مسؤولية القرار.
● أليست الديمقراطية وسيلة للوصول إليها هدفاً؟
ألا تلزم بتقديس حرية التعبير، كيفما كانت لفضح كل الأكاذيب، وإجبار السياسيين على التفاهم مع من يمثلونهم من الناس، قبل التفاهم مع أي طرف آخر (قوى سياسية أو دول أو منظمات)؟
أو ليس هذا صميم الديمقراطية، وإلّا لماذا الاعتراض على أداء الاحزاب الشمولية أو الأنظمة الدكتاتورية، حيث “القيادة تعلم الصواب أكثر من العامة”؟!
● أمّا إن كنت لا تزال عزيزي غير متفهّم للصراع الخلّاق في البيت الداخلي، ولا تزال تخاف من “الانقسام” وتريد حفظ “الوحدة الوطنية” على طريقة حافظ أسد وجبهته الوطنية فلك ما أردت، لكنّني ومثلي كثر لن نعبأ بك وبسياساتك “الطّاهرة” في العلن؛ لأن الخوف من الشفافية كالخوف من الشمس قطعاً، يخفي العفن “الفاضل”، هنيئاً لك به وقد ارتضينا خطيئة التجربة على درب الحريّة.
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024