تلفزيون أورينت القيمة الإعلاميَّة في الإعلام السُّوري المعارض
د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
كان الشُّعراء المبرِّزون والخطباء المفوَّهون والكتَّاب والإعلاميُّون الماهرون أدوات القادة العسكريِّين والسِّياسيِّين على مرِّ العصور، وروَّجوا أفكارهم، ورسموا من خلال القيمة الإعلاميَّة لحضورهم وكلمتهم ملامح سطوتهم وهيبتهم، وكان معظمهم وزراء الإعلام في دول ما قبل الثَّورة الرَّقميَّة وممالكها؛ ولذلك احتفلت القبائل العربيَّة القديمة إذا نبغ الشَّاعر فيها؛ لأنَّه منبرها ولسان حالها، أو وزير إعلامها المدافع عنها والمنافح عن مصالحها؛ ولمثل هذا السَّبب في تفنيد الأيديولوجيا البعثيَّة غضب حافظ الأسد من بدويِّ الجبل، وعمر أبي ريشة، ونزار قبَّاني، وسائر الشُّعراء الَّذين تحدَّثوا عنه بوصفه الاسم الأبرز في دفاتر النَّكسة العربيَّة، بينما قرَّب الَّذين مدحوه أو تجاهلوا هزائمه من أمثال محمَّد مهدي الجواهريِّ، وعبد الوهاب البيَّاتيِّ، وقرَّر قصائدهم في المناهج السُّوريَّة بعد أن استتبَّ له الحكم والمُلك فيها.
في دولة مثل سوريا لم يحتج كثير من الانقلابيِّين وخلال خمسين سنة (قبل انقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثَّاني-نوفمبر 1970) لا لقوَّة برِّيَّة عظمى، أو أسطول بحريٍّ واسع، أو قوَّة جوِّيَّة كبيرة لإزاحة الحاكم السَّابق قبلهم، وفرض هيمنتهم على الدَّولة، بل تمكَّن كثير من الانقلابيِّين والقادة العسكريِّين من الإطاحة بسابقيهم بقوَّة عسكريَّة محدودة، يؤازرها بيان إعلاميٌّ في جريدة أو إذاعة أو محطَّة تلفزة، كبيان محمَّد القطَّان، الَّذي أطلق من خلاله على انقلاب حافظ الأسد تسمية (الحركة التَّصحيحيَّة) في التِّلفزيون السُّوريِّ، وتلا فيه خبر تنصيب الرَّئيس الانقلابيِّ الجديد واستلامه كرسيَّ السُّلطة في سويا. وبما يُشبه هذه الطَّريقة صنع إعلان وزير دفاع النَّكسة حافظ الأسد ذاته هزيمة الخامس من حزيران أمام إسرائيل، وصاغ بلاغ خسارة الحرب، أو بيان الخسارة المكتوب رقم 66، وسقطت بسببه مدينة القنيطرة، عاصمة الجولان السُّوريِّ المحتلِّ في نكسة حزيران 1967، وقد صاغ هذا البيان وزير دفاع النَّكسة حافظ الأسد، قبل وصول الدَّبَّابات الإسرائيليَّة إلى المدينة بكيلومترات عدَّة، بحسب شهادة أبي أيهم محمَّد أحمد الزُّعبي وزير الإعلام السُّوريِّ في تلك المرحلة.
إعلام البعث في مواجهة الإعلام الحرِّ
لا تسقط معظم الأنظمة العسكريَّة في الدُّول العظمى وأحزابها السِّياسيَّة الواقفة خلفها، دون حروب بالقوى البرِّيَّة والأساطيل البحريَّة والجوِّيَّة معًا، أمَّا أنظمة الاستبداد المصغَّرة في دول التَّبعيَّة والأحزاب الشُّموليَّة فتسقط-في معظم الأحيان-بمجرِّد حرب اقتصاديَّة أو حرب إعلاميَّة أو نفسيَّة، ما لم تَحْمِ هذه الأنظمة آلة الحرب الإجراميَّة، أو قوَّة الاستبداد المحلِّيَّة أو العالميَّة، ولا يشفع لمثل هذه الأنظمة موقع الدَّولة الحسَّاس أو أهمِّيَّتها الجيوسياسيَّة؛ ولهذا أدرك حافظ الأسد -من قبل وصوله إلى وزارة الدِّفاع في سوريا، وقبل استثماره في نكسة حزيران 1967، للوصول إلى رئاسة سوريا بانقلابه العسكريِّ في 16 تشرين الثَّاني/ نوفمبر 1970- أهمِّيَّة الإعلام ودور الإعلاميِّين والخطباء والشُّعراء والكُتَّاب الصَّحفيين والمراسلين الحربيين في الدِّفاع عن أيِّ قائد عسكريٍّ أو التَّرويج له، حتَّى وإن كان دونكيشوتًا مهزومًا، أو تمجيد أيِّ سياسيٍّ برغم أخطائه، أو الدِّعاية الإعلاميَّة لأيِّ قزم صغير برغم وضاعته، وبدل أن يصير هذا الإعلاميُّ أو ذاك الخطيب أو الشَّاعر أو الصَّحفيَّ القشَّة الَّتي ستقصم ظهر البعير، أو بُعبُع الاستبداد الورقيِّ يمكن تصفيته أو تجنيده للتَّشهير بأيِّ منافس، حتَّى وإن كان سليل عائلة سياسيَّة مرموقة أو ابن عشيرة كبيرة، لا سيَّما أنَّ حافظ الأسد شقَّ طريقه الوعرة إلى وزارة الدِّفاع ووصل إلى رئاسة سوريا، برغم خسارته في حرب النَّكسة، بعد أن تجاوز كثيرًا من الضُّبَّاط المتميزين والشَّخصيَّات اللَّامعة في سهل الغاب والسَّاحل السُّوريِّ، من آل الهوَّاش في صافيتا، وآل الكنج وآل العبَّاس، وأتباع سليمان المرشد، وتخلَّص من أبرز معارضيه ومعارضي حزب البعث، الَّذي امتطاه أو امتطى اسمه للتَّخلُّص من أبرز معارضيه، خلال المرحلة الأولى من سلطته، وفي مرحلة الوصول إلى السُّلطة، بعد أن تسلَّق على أكتاف بعض رفاق دربه، وصفَّى بعضهم الآخر وبدعم من آلته الإعلاميَّة، الَّتي بدأ يفرض سلطته عليها منذ وصوله إلى السُّلطة في يوم الانقلاب الأوَّل، حتَّى هندسة جوقة التَّصفيق في التِّلفزيون السُّوريِّ ومجلس الشَّعب يوم وفاته وتوريث ابنه المجرم بشَّار الأسد.
وعندما نتحدَّث عن أبرز معارضي آل الأسد، ومعارضي حزب البعث في الطَّائفة العلويَّة، فإنَّنا نعني ههنا (آل سليمان الأحمد) من قرية السَّلاطة بجوار القرداحة؛ لأنَّهم أصحاب القيمة الإعلاميَّة والسُّلطة الثقافيَّة والقيمة الفكريَّة الحقيقيَّة، ليس داخل عشيرة الكلبيَّة وحدها، وإنَّما بين وجهاء عشائر العلويَّة في السَّاحل السُّوريِّ عمومًا من آل العبَّاس وآل الكنج وآل العبَّاس، وأتباع سليمان المرشد من إسماعيليَّة سهل الغاب؛ لأنَّ آل سليمان الأحمد يحظون بقيمة إعلاميَّة وثقافيَّة بين سائر أبناء سوريا، وهذا ما لم يكن يملكه حافظ الأسد، أو والده أو جدُّه من عائلة الوحش، فسليمان الأحمد، شيخ مشايخ العلويِّين كلِّهم، وعضو مجمع اللُّغة العربيَّة في دمشق، وابنه الشَّاعر محمَّد سليمان الأحمد بدويُّ الجبل شخصيَّة مرموقة، لم يفنِّد بهجائه أكاذيب حافظ الأسد وزير دفاع نكسة حزيران وحده وحسب، وإنَّما شكَّل قلقًا سياسيًّا لحزب البعث وقادته المجرمين أيضًا، فقد حاول البعثيُّون اغتيال بدويِّ الجبل سنة 1968 بعد قصيدته: (من وحي الهزيمة)، فاختطفه البعثيُّون، ثمَّ رموه في قارعة الطَّريق في دمشق، بعدما استجابوا لإنذار حافظ الأسد؛ ممَّا يكشف عن علاقة حافظ الأسد بعمليَّة الخطف والخاطفين، فأصيب بدويُّ الجبل بمرض، ظلَّ يؤثِّر في حركته ونطقه حتَّى توفِّي سنة 1981. كما وُجِدَ ابن بدويِّ الجبل منير محمَّد سليمان الأحمد مقتولًا سنة 1992، بسبب معارضته حافظ الأسد، وعُثر على ابن بدويِّ الجبل الآخر الأستاذ الجامعيِّ المختصِّ بفلسفة الأدب أحمد محمَّد سليمان الأحمد مقتولًا في بلغاريا، وفي ظروف غامضة سنة 1993 بسبب انشقاقه عن نظام الأسد؛ ولهذا السَّبب لا يذكر إعلام البعث الاسم الثَّلاثيَّ لمحمَّد الأحمد؛ حفيد بدويِّ الجبل والنَّاقد السِّينمائيِّ، ووزير الثَّقافة السُّوريِّ الأسبق، وهو ابن منير الأحمد، وبهذه الطَّريقة تصفِّي عائلة الأسد المجرمة من خلال حزب البعث خصومَها الحقيقيِّين، وتورِّث بعض الأبناء منصبًا ملوَّثًا بدماء الآباء، كما ورَّثت توفيق البوطيَّ بعضًا من مكاسب أبيه بعد تصفيته.
مرتزقة حافظ الأسد والتَّلاعب بالعقول
كوفئ حافظ الأسد بعد تسليم القنيطرة والجولان بموجب بلاغ الهزيمة رقم (66)، وأُوصِل إلى حكم سوريا بانقلاب عسكريٍّ، وسُمح له بعد تصفية خصومه ورفاق دربه معًا بتجنيد إعلاميِّين مرتزقة، يطبِّلون له، ويُسبِّحون بحمده، ويروِّجونه له ولأيديولوجيا البعث، ويصوِّرونه، وهو يرفع العلم في مشهد تمثيليٍّ فوق تلَّة بعد حرب تشرين الأوَّل/أكتوبر 1973. ثمَّ نفى حافظ الأسد سنة 1974 إلى خارج حدود الوطن أبا أيهم محمَّد أحمد الزُّعبيّ وزير الإعلام الشَّاهد على خيانته، ودور بلاغه رقم (66) في نكسة حزيران، ورُفِّع أحمد إسكندر أحمد رئيس تحرير وكالة سانا الإخباريَّة في ظلِّ نكسة حزيران، وعيِّن على أساس الانتماء لحزب البعث والولاء المحض، وأطلق أحمد إسكندر أحمد يد مساعديه في الإعلام السُّوريِّ بشرط التَّمجيد الدَّائم لحافظ الأسد، وبهذه الطَّريقة سيطر حافظ الأسد من خلال وزيره الشَّاب على وزارة الإعلام، بعدما مرَّ عليها مصطفى الباروديُّ وجمال الأتاسيُّ وسامي الجنديُّ وجورج صدقني، وظلَّ هذا الوزير مع مساعديه يحكمون الإعلام السُّوريَّ كلَّه حتَّى وفاته في كانون الأوَّل/ ديسمبر سنة 1983، وصارت وزارة الإعلام بوزيرها وباقي موظَّفيها وسيلة لصناعة الأيديولوجيا البعثيَّة الخالصة، من خلال برامجها الكثيرة، مثل: (أبناؤنا في الجولان)، الجولان الَّذي سلَّمه وباعه حافظ الأسد في البيان 66، وظلَّت جوقة الإعلام تشبح باسم حافظ الأسد بوصفه وليَّ نعمة البعثيِّين ، وواظب موظَّفوها على نفخ الأنا المتضخِّمة عنده، من خلال برامج: (أرضنا الخضراء)، و(الأيدي الماهرة)، وراحوا يصوِّرون حافظ الأسد بأنَّه الفلَّاح الأوَّل، والمعلِّم الأوَّل حتَّى وفاته في حزيران-يونيو 2000. وبعد ذلك، وخلال أربع سنوات بين (2000-2004) غيَّر بشَّار الأسد وزيرين للإعلام، حتَّى يقوى عوده في رئاسة سوريا، وعندما أمسك بمفاصل الدَّولة كلِّها، راح يعتمد على وزراء إعلام مقرَّبين من إيران، ومحسوبين عليها لمدَّة زمنيَّة طويلة مثل مهدي دخل الله ومحسن بلال.
صناعة المفكِّرين (العرب) في إعلام حافظ وبشَّار
تُعدُّ صناعة المفكِّر العربيِّ وعضو الكنيست الإسرائيليِّ عزمي بشارة، وتقديمه للمتلقِّي العربيِّ، بوصفه مناضلًا ومقاومًا ومفكِرًا عربيًّا لا عضو كنيست إسرائيليِّ من أهمِّ منجزات حركة حافظ الأسد التَّصحيحيَّة، ومسيرة ابنه بشَّار في التَّطوير والتَّحديث. وقد تمكَّن هذا المفكِّر المدعوم بإمبراطوريَّة اقتصاديَّة خلال سنوات قليلة، ومع ثورة الإعلام الرَّقميِّ، ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ من مدِّ نفوذه، فسيطر على مجموعة كبيرة من الأقلام والمجلَّات والجرائد، ومواقع النَّشر الإلكترونيِّ، ومعاهد الدِّراسات ومراكز الأبحاث، ومحطَّات التَّلفزة النَّاطقة بالعربيَّة، وراح يعمل بذاته -كما تعمل بعض الدُّول والأحزاب العربيَّة- على صناعة الإعلاميِّين والباحثين المخلصين له؛ لتقوية نفوذه بين الإعلاميِّين والمثقِّفين في الدُّول العربيَّة، وبعد انطلاقة الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ حكم الوريث المجرم بشَّار الأسد في آذار 2011، أطلق عزمي بشارة مجموعة من مواقع النَّشر الإلكترونيِّ، واستقطب مزيدًا من الكتَّاب العرب لا سيَّما من سوريا ولبنان وفلسطين، ليزيد من هيمنته وقدرته على التَّلاعب بالعقول؛ وذلك لأنَّ مواقع هذه مع محطَّات التَّلفزة، الَّتي يملكها ما هي إلَّا وسيلة لصناعة الأيديولوجيا، والتَّلاعب الأبرز بعقول الكتَّاب والإعلاميِّين والشُّعراء والصَّحفيِّين، والمتلقِّين المهووسين بفكرة المقاومة، بغضَّ النَّظر عمَّن يقود هذه المقاومة أو يصنع أيديولوجيا الوهم هذه.
ثمَّ ورث عزمي بشارة سياسة حافظ الأسد الإعلاميَّة ذاتها، وأطلق تلفزيون سويا المعارض، واستقطب مجموعة من موظَّفي الإعلام السُّوريِّ قبل الثَّورة وخلالها، وبدأ يكثِّف ظهوره، وراح بين الآونة والأخرى يطلُّ على المواطن العربيِّ في الوقت الَّذي يريده، وباستضافة المذيع الَّذي يختاره، ثمَّ أطلق التِّلفزيون العربيَّ الَّذي يغطِّي مع تلفزيون سوريا المعارض ما يشاء، ويُغفل ما يشاء أيضًا من تفاصيل الثَّورة السُّوريَّة اليوميَّة مع أحداث غزَّة وحرب لبنان، ويستضيف بعض الأحيان الضُّيوف المحسوبين على نظام المجرم بشَّار الأسد في حلقاته وبرامجه، من أمثال أندريه اسكاف وغيره في ضوء قيادة عزمي بشارة، وتنفيذ خطَّته الإعلاميَّة وأفكاره الأيديولوجيَّة المرسومة إلى حدٍّ، يمكن القول فيه: إنَّ المتلقِّي أو المشاهد العربيِّ قد خرج من تحت دلف إعلام بشَّار الأسد إلى تحت مزاريب عزمي بشارة.
تلفزيون أورينت علامة فارقة في إعلام المعارضة
انطلق تلفزيون أورينت السُّوريُّ المعارض، مع موقع النَّشر الإلكترونيِّ المرافق له قبل انطلاقة الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ المجرم بشَّار الأسد بوقت قصير، وعمل فيه مجموعة من الإعلاميَّات والإعلاميين المتميِّزين، وخلال مدَّة وجيزة زادت شعبيَّة هذه المحطَّة الفضائيَّة لمجموعة من الأسباب البسيطة والمهمَّة جدًّا بالنِّسبة للمشاهد السُّوريِّ، فقد شعر المتابع وللمرَّة الأولى بمتعة الفرجة وواقعيَّة المتابعة، بعد نصف قرن من هيمنة آل الأسد على الإعلام الرَّسميِّ، ومصادرتهم قناة (شام) من محمَّد أكرم الجنديِّ بعد نجاحها منذ انطلاقتها الأولى، فحوَّلوا هذه القناة من (شام) إلى قناة (الدُّنيا)، وظلُّوا يتلاعبون بعقول السُّوريِّين، ويضخُّون الأيديولوجيا العبثيَّة فيها من أصغر متلقٍ في طلائع البعث، حتَّى أمهر مهنيِّ وأكبر فلَّاح وأعظم أستاذ؛ لأنَّ جميع المتلقِّين يشعرون بأنَّ حافظ الأسد معلِّمهم الأوَّل، وكذلك بشَّار الأسد بعده طبيبهم الأوَّل.
كما وجدت الأقلام السُّوريَّة الحرَّة في موقع أورينت الإلكترونيِّ متنفَّسًا لها في التَّعبير عن آرائها، وتُحسب هذه النُّقطة للمدراء التَّنفيذيين المشرفين على سياسة النَّشر والتَّحرير، الَّتي التزموا بها انطلاقًا من هذه الزَّاوية المهمَّة من زوايا حرِّيَّة التَّعبير، ولم يخضعوها لأيديولوجيا المموِّل على النَّحو الَّذي ما زال يسقط فيه تلفزيون سوريا المعارض، ومواقع عزمي بشارة الإلكترونيَّة كلِّها، وربَّما لا يستطيع إعلام عزمي بشارة تقديم مادَّة سوريَّة خالصة حتَّى وإن كانت بسيطة، ولو أنفق عليها إمبراطوريَّته الاقتصاديَّة كلَّها، وكذلك شعر الكتَّاب والإعلاميُّون والمثقَّفون السُّوريُّون مع المشاهد في بيته بارتياح كبير، خلال تلقِّي المحتوى السُّوريِّ الخالص البعيد عن سلطة هذا وذاك، لا سيَّما إن كان المموِّل (مفكِّرًا عربيًّا يحمل جنسيَّة غير الجنسيَّة السُّوريَّة، وهو من صناعة إعلام الأسدين المجرمين أساسًا).
من ناحية أخرى، وخلال المدَّة الوجيزة ذاتها بدأ غلمان عائلة الأسد ومرتزقتها يشعرون بالوجع الحقيقيِّ، بسبب النَّقد الواقعيِّ وتفنيد أيديولوجيا البعث من خلال برامج أورينت ومقالاتها، وبسبب عجزهم وعجز الإعلام الرَّسميِّ السُّوريِّ مع قنوات: (أوغاريت) و(سما الشَّام) و(الدُّنيا) عن منافسة قناة أورينت بإمكاناتها البسيطة، راحوا يتَّهمون المحطَّة وكُتَّاب الموقع بالطَّائفيَّة حينًا، ويستدرجون بعضهم حينًا آخر، من خلال حوارات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ ومنشوراتها إلى مساحات النِّقاش الطَّائفيِّ المقيت، الَّذي يجيد غلمان عائلة الأسد التَّمرُّغ في أوحاله؛ وذلك من أجل التَّغطية على طائفيَّة عائلة الأسد والأيديولوجيا البعثيَّة معها، لكنَّ محطَّة الأورينت وموقعها الإلكترونيَّ صمدا أمام تلك الاتِّهامات بسبب السُّوريِّين المخلصين في عملهم، حتَّى تمكَّن عزمي بشارة من سحب بعضهم للعمل معه في (تلفزيون سوريا المعارض)، من خلال إغراء المال، والرَّاتب واستغلال حاجة بعض العاملين أو فقرهم، واستغلال حبِّ الظُّهور عند بعضهم الآخر، وهذا لا يعني أنَّ جميع العاملين معه مؤمنون بمشروعه أو مشاركون في صياغته.
نهاية التجربة بعيوب أقل
بعد مدَّة من الزَّمن توقَّف عمل تلفزيون أورينت وموقعه الإلكترونيِّ نهائياً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، بسبب ظروف متعدِّدة، وهذا لا يعني أنَّ تلفزيون الأورينت كان أيضًا تلفازًا مثاليًّا أو موقعًا إلكترونيًّا مثاليًّا؛ إذ لا مثاليَّة في الإعلام، إلَّا أنَّه كان علامة فارقة تستحقُّ الإشادة بها والبناء عليها وتجاوز عثراتها السَّابقة، من خلال جهود الشُّرفاء والمخلصين السُّوريِّين، ومن هنا نفهم الأسباب الَّتي تدفع بعض زعران عائلة الأسد الحاكمة ومرتزقتها وأبواقها إلى التَّهاوش-من مبدأ سدِّ الفراغ-مع المعارضين الوهميِّين أو غير المؤثِّرين، ليصنعوا بمهاتراتهم معهم مادَّة إعلاميَّة خلَّبيَّة، يشغلون بها المتابعين الشغوفين بالمهاترات عن ملامسة جرح المجتمع وإصابته الحقيقيَّة بأدواء هذه العائلة المجرمة ومرتزقة البعث عندها.
وفي المحصَّلة يمكن القول عن تلفزيون أورينت وموقعه الإلكترونيِّ والإعلاميِّين فيه: إنَّهم مثل أيِّ صانع محتوى في وقتنا الرَّاهن، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ولكن يُحسب لهم سواء اتَّفقنا أو اختلفنا معهم، أنَّ عيوبهم قليلة نسبياً، مقارنة بما نراه من مهاترات غلمان عائلة الأسد مع الإعلاميِّين المحسوبين على المعارضة السُّوريَّة في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، ومن خلال تقديم هذا الإعلام نُسخاً مطابقة عن أيديولوجيا البعث، وعائلة الأسد المجرمة في إعلامها الرَّسميِّ؛ لذلك يمكننا أن نختم بقول الشَّاعر:
ومن ذا الَّذي تُرضى سجاياه كلُّها كفى المرء نُبلًا أن تُعدَّ معايبه
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024