اللُّغة العربيَّة تنبض بالحبِّ والحياة
اللُّغات العالميَّة الرَّاهنة لا تضاهي اللُّغة العربيَّة في قِدَمِها
د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
في يوم اللُّغة العربيَّة وخلال غمرة الاحتفال بها لا أميل إلى الحديث عن تميُّزِها من غيرها من لغات العالم الأخرى بأنَّها لغة أهل الجنَّة، أو اللُّغة العالميَّة المتميِّزة بنحوها وصرفها ومعجمها وغير ذلك من الكلام الإنشائيِّ، الَّذي يمكن لأيِّ متحدِّث بأيِّ لغة من لغات العالم أن يدبِّج الأساطير حول لغته، ويكتب الإنشاء المعسول حول خصائصها الفريدة وملامحها العجيبة في نحوها وصرفها واشتقاقها وسوابقها ولواحقها وقدرتها على تحقيق التَّواصل الفعَّال بين أفراد الجماعة اللُّغويَّة؛ إذ يمكن القول: إنَّ الغالبيَّة العظمى من لغات العالم ما هي إلَّا شِيفرات صوتيَّة يحقِّق الأفراد من خلالها غاياتهم التَّواصليَّة. لكن عَمَّ سنتحدَّث في يوم لغتنا العربيَّة الجميلة الَّتي نحُّبها إذا استبعدنا الكلام على خصائصها في نحوها وصرفها وتركيبها وبلاغتها وموسيقا شعرها وجرسها وإيقاعها؟ أنتحدَّث عن دورها في تحديد هويَّة أبنائها أم نتحدَّث عن انتشارها وعدد النَّاطقين بها؟ وهل اللُّغات الأخرى لا تُحدِّد هويَّة أبنائها النَّاطقين بها؟ وهل تفوُّقُ اللُّغات الأخرى على العربيَّة من حيث الانتشار وارتفاع أعداد النَّاطقين بها مقارنة بعدد المتحدَّثين باللُّغة العربيَّة ميزة لتلك اللُّغات أو هي ميزة ضدَّها؟ أو لا هذه ولا تلك؟
اللُّغة العربيَّة آخر اللُّغات القديمة الحيَّة حتَّى وقتنا الرَّاهن
تشير الإحصائيَّات والدِّراسات إلى ارتفاع عدد المتحدِّثين باللُّغة الإنكليزيَّة لتصبح اللُّغة العالميَّة الأولى من حيث الانتشار، وتأتي بعدها اللُّغة الصِّينيَّة بسبب عدد سكَّان الصِّين الكبير جدًّا، ثمَّ تأتي الهنديَّة فالإسبانيَّة، وتتقارب أعداد المتحدِّثين بالعربيَّة والفرنسيَّة؛ لكنَّنا ومع هذا لن نتحدَّث عن تميُّز العربيَّة بوصفها اللُّغة القديمة الوحيدة الَّتي حافظت على انتشارها بسبب حيويَّتها؛ فاللُّغات العالميَّة الرَّاهنة لا تضاهي اللُّغة العربيَّة في قِدَمِها؛ فنقش عين عبدات-على سبيل المثال-هو واحد من أقدم النُّقوش المكتوبة باللُّغة العربيَّة، ويرجع إلى زمن ملك الأنباط عبدات الأوَّل حوالي (96-85 ق.م). ولدينا في مدينة إدلب مكتبة إيبلا، وهي أقدم مكتبة وأضخم مكتبة في العالم القديم كلِّه، وتضمُّ ألواحها المكتوبة بالحرف المسماريِّ ولغة إيبلا العربيَّة الشَّماليَّة الغربيَّة مجموعة من أقدم أساطير العالم القديم وشرائعه وملاحمه وأغانيه ونصوصه السِّياسيَّة ومعاهداته الدِّبلوماسيَّة، وترجع إلى حوالي (2500) قبل الميلاد، وبرغم هذا فَقِدَمُ العربيَّة-على أهمِّيَّته-لا يشكِّل أساس تميُّزِها الأبرز أو الوحيد من وجهة نظري، وإنَّما حيويَّة العربيَّة أو قدرتها على مواكبة الحياة في العصور المتلاحقة كلِّها أو النَّبض بتفاصيل الحياة في كلِّ مرحلة يشكِّل واحدة من أبرز صفات اللُّغة العربيَّة إن لم يكن أبرزها على مرِّ العصور؛ فكيف جاءت هذه الحيويَّة؟ ومن أين جاءت؟ وما دليلنا عليها؟
حيويَّة الإبداع العربيِّ على مرِّ العصور
سادت اللُّغة الشَّفهيَّة في العصور القديمة مقابل انخفاض ملحوظ في النُّصوص اللُّغويَّة المكتوبة بسبب صعوبة الكتابة على الحجارة والطِّين وغيرها، واقتصر التَّدوين على كتابة أهمِّ النُّصوص، وبرغم هذه الصُّعوبة ضمَّت مكتبة إيبلا حوالي (15000) رقيم أو لوح طينيٍّ، كُتب عليها أهمُّ الوثائق في العالم القديم. وتميَّز فنُّ الشِّعر العربيِّ بعصوره المتلاحقة بحيويَّته النَّابعة من رشاقة عبارته وخيال صورته ومرونة جرسه وإيقاعه؛ ممَّا سهَّل حفظه وإنشاده، وصارت مرويَّات الشِّعر العربيِّ-كالمعلَّقات ومدوَّنات إيبلا ومصر والعراق-مصدرًا مهمًّا من المصادر الَّتي تضيء على حوادث وجوانب مهمَّة من التَّاريخ القديم لم يستطع الكتَّاب والمؤرِّخون كتابتها بسبب صعوبة التَّدوين؛ وهذا جانب مهمٌّ من جوانب حيويُّة اللُّغة العربيَّة أو صلاحيَّة شيفراتها أو قابليَّة كلماتنا العربيَّة على الانتظام السَّريع والسَّلس الرَّشيق في قوالب الشِّعر العربيِّ أو بحوره الخليليَّة.
لُغة الفرسان
كان اشتعال الحروب المتلاحقة في تلك الحقبة التَّاريخيَّة أبرز خصائص تلك المرحلة، ووقعت تلك الحروب لردِّ العدوان ونشر القيم النَّبيلة أو الفخر بفروسيَّة الفارس الَّذي يحملها في غالب الأحيان، فتفاعل الإحساس المرهف لدى الفارس الشُّجاع مع موهبته الشِّعريَّة وعزَّة نفسه وإبائه؛ فأسهمت هذه الخصائص الفريدة بإنتاج نصوص ملحميَّة واكب بها الفرسان العرب حياة أهليهم، وصوَّروها خير تصوير من عنترة العبسيِّ إلى المتنبِّي وأبي فراس الحمدانيِّ وصفيِّ الدِّين الحلِّيِّ حتَّى عمر أبي ريشة وبدويِّ الجبل ومحمَّد مهدي الجواهريِّ في شعرنا العربيِّ المعاصر؛ وحين نذكرعنترة العبسيَّ، نتذكَّر نصًّا من نصوصه، الَّتي تواكب الحياة، وتنبض بها عندما رسم ملمحًا فريدًا من ملامح فروسيَّته وشجاعته في الدِّفاع عن المبادئ السَّامية في حياة الفرسان؛ فنبضت حروفه بالجمال، وانسابت صوره الشِّعريَّة بعبارة رشيقة حملها إيقاع فخم ومهيب، وتشكَّلت لوحة من مشاهد حياة الفارس الشُّجاع، وبرزت ملامح بطولته وفروسيَّته في يوم من أيَّام العرب، الَّتي دافع فيها فرسانهم عن حقِّهم في الحياة الحرُّة الكريمة؛ فقال:
إذا كشف الزَّمان لك القناعا ومدَّ إليك صَرفُ الدَّهرِ باعا
فلا تخشَ المنيَّة وابتدرها ودافع ما استطعت لها دفاعا
ولا تختر فراشًا من حريرٍ ولا تبكِ المنازل والبقاعا
وحولكَ نسوةٌ يندبنَ حزنًا ويهتكن البراقعَ واللِّفاعا
وفي يوم المصانع قد تركنا لنا بفعالنا خبرًا مُشاعا
أقمنا بالذَّوابلِ سوقَ حربٍ وصيَّرنا النُّفوس لها متاعاً
حصاني كان دلَّال المنايا فخاض الحرب وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيبًا يداوي رأس من يشكو الصُّداعا
ولو أرسلتُ رمحي مع جبانٍ لكان بهيبتي يلقى السِّباعا
ملأتُ الأرض خوفًا من حُسامي وخصمي لم يجد فيها اتِّساعا
إذا الأبطال فرَّت خوفَ بأسي ترى الأقطار باعًا أو ذِراعا
أطلال تنبض بالحياة
بسبب الحروب والبحث عن الأكل والشُّرب والمرعى كان الحلُّ والتِّرحال سمة بارزة من سمات المجتمع العربيِّ القديم؛ وألهب هذه الحلُّ والتِّرحال نفوس الشُّعراء المرهفة حين يمرُّون بديار الحبيبة فلا يجدون إلَّا بقايا أطلال الدِّار المهجورة من نؤي وأحجار وبقايا حياة قديمة؛ فلاذوا إلى لغتهم، وبثُّوا مشاعرهم ولواعج نفوسهم ومكنوناتهم الدَّفينة في قصائد فريدة أعادت للطَّلل المهجور نبضَ حياتِه القديمة، وتمنَّى الشَّاعر عودة الأحبَّة إلى ديارهم المهجورة؛ كي يعمروها، وينعم برؤية حبيبته في مضارب تنبض بالحبِّ والحياة. وبرغم بكائيَّات امرئ القيس على أطلاله ها هو يدعو صديقيه لتذكُّر الأحبَّة الرَّاحلين من سقط اللِّوى إلى حومل وتوضح والمقراة وغيرها؛ فيقول:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ بِسِقْطِ اللِّوى بين الدَّخول فحوملِ
فتوضحَ فالمقراةُ لم يعفُ رسمُها لما تدارسها من جنوب وشمألِ
ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنَّه حبُّ فُلفُلِ
وفي لاميَّة أخرى تنبض صور امرئ القيس بالحياة، حين رسم بحروفه العربيَّة خضرة نباتات الصَّحراء، وصوَّر دَرْجَ طيورها الجميلة؛ إنَّه نبض الحياة في قصيدة؛ إنَّها مطاوعة اللُّغة لصاحبها المبدع، وحين تُطاوِعُ اللُّغة شاعرَها، يستجيب القدرُ لأهل الأطلال والبوادي؛ فتجود ثورة الشِّتاء بوابل من الغيث والبرق والرَّعد، فتظهر النَّبابات، وتعود الطُّيور إلى طلل مهجور، ولا بدَّ بعد ذلك من عودة الأهل القريبة إلى الدِّيار؛ فقال:
لمن طللٌ بين الجُدَيَّة والجبل محلٌّ قديمُ العهدِ طالت به الطِّيَلُ
وزالت عنه صروف الدَّهر فأصبحت على غيرِ سُكَّانٍ ومَن سكن ارتحل
تنطَّح بالأطلال منه مُجلجلٌ أحمُّ إذا احمومَت سحائبه انسحل
بريحٍ وبرقٍ لاح بين سحائبٍ ورعدٍ إذا ما هبَّ هاتفُه هطل
فأنبتَ فيه من غَشْنِصٍ وغَشْنَصٍ ورونقِ رَندٍ والصَّلَندَدِ والأسَل
وفيه القطا والبوم وابن حَبَوكَلٍ وطيرُ القطاطِ والبَلَنْدَدُ والحَجَل
فلمَّا عرفتُ الدَّار بعد توهُّمي تكفكف دمعي فوق خدِّي وانهمل
فقلت لها يا دار سلمى وما الَّذي تمتَّعتِ لا بُدِّلْتِ يا دارُ بالبدل
ومأوىً لأبكارٍ حِسَانٍ أوانسٍ ورُبَّ فتًى كاللَّيث مشتهرٍ بطل
تعلَّقَ قلبي طفلةً عربيَّة تنَعَّمُ في الدِّيباج والحَلي والحُلل
حروف تنبض بالحبِّ والحياة في قلوب الشُّعراء
زار الشُّعراء ديار الأحبَّة، بل زاروا أطلال ديار الأحبَّة المهجورة، واستعادوا ذكرياتهم الجميلة مع نبض الحبِّ والحياة هناك، وصارت تلك الزِّيارات مثيرات إبداعيَّة أيقظت اللُّغة الشَّاعريَّة في نفوس شعراء مبدعين، أسعفتهم لغتهم الرَّشيقة؛ فصدحوا بالمواويل، وردَّدوا مقطوعات العتابا والميجانا، وبدَّدوا بها السَّأم عن ليالي السَّمَر والأُنس في الشِّتاءات الطَّويلة، ورسموا باللُّغة ملامح الدَّهشة، وكشفوا عن نبضات قلوبهم، وصوَّروا خلجات نفوسهم، حين زاروا الدِّيار والأطلال المهجورة؛ لغاية في نفس يعقوب مرَّة، وغايات أخرى في نفوس الشُّعراء، كشف بعضها مجنون ليلى؛ فقال:
أمرُّ على الدِّار ديارِ ليلى أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الدِّيار شغفنَ قلبي ولكِنْ حبُّ مَن سكنَ الدِّيارا
حروف يكتبها المطر
لا حياة في صحراء العرب دون الحبِّ والمطر؛ لذلك أبدعوا في وصف المطر وتصوير البرق والرَّعد، فنما العشبُ في الصَّحراء، وانتشر الرُّعاة يرعون الإبل والأغنام، وتجاوب الحدَّاؤون ورعاة الإبل، وردَّد بعضهم أصوت بعضهم الآخرين، وبدَّدوا بأراجيز اللُّغة وأناشيد الحُداء وحشة الصَّحراء، وحوَّلوا باللُّغة طقوس سقاية المواشي إلى نصوص في الإمتاع والمؤانسة، فقال حادي العيس أو حادي الإبل العطشى: (سَقِّ القعود وهِمَّه يسقي خواته وأمَّه)؛ وردَّ عليه الحادي الآخر بعبارة من العبارات الَّتي تعكس سعادة الحدَّائين والرُّعاة، وهم ينشلون دلاءهم من الآبار؛ وقال: (يا مرحبا وارحابي بأمَّ السَّنام النَّابي)، وأجابهم الثَّالث: (يا شُمَّخ العشاير يا مجوِّزات الباير). وبمثل هذه المحاورات والأراجيز وأناشيد الحداء قطَّع الرُّعاة أوقاتهم الجميلة، وبمثل هذه اللُّغة أيضًا أنشد الفلَّاحون، وأَنِسوا خلال العمل في حقولهم، وغنُّوا للخصب والنَّماء والحقول والآبار والقمح والأشجار والنَّبابات، وحين احتبس قطر السَّماء رفع البشر أكفَّ الضَّراعة، وصلُّوا وابتهلوا بلغتهم المقدَّسة، وتضرَّعوا في صلوات الاستسقاء، وبرز بينهم موقف أبي العلاء المعرِّيِّ حين قال:
ولمَّا أن تجهَّمني مرادي جريتُ مع الزَّمان كما أرادا
وهوَّنتُ الخطوب عليَّ حتَّى كأنِّي صرتُ أمنحها الودادا
أَأُنْكِرها ومنبتُها فؤادي وكيف تُناكِر الأرضُ القتادا
يكرِّرني ليفهمني رجال كما كرَّرتَ معنى مستعادا
فأيُّ النَّاس أجعله صديقًا وأيُّ النَّاس أسلكه ارتيادا
ولو أنَّ النُّجوم لديَّ مالٌ نفت كفَّاي أكثرَها اتِّقادا
ولو أنِّي حُبيتُ الخلدَّ فردًا لما أحببتُ بالخلدِ انفرادًا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
حروف يكتبها نبض القلب
أحبَّ الشَّاعر الوسيم فتاة جميلة، كانت تحبُّه، وتنتظر منه مبادرة، وتقول في نفسها بين الآونة والأخرى:
ماذا أقول له لو جاء يسألني إن كنتُ أكرهُه أو كنتُ أهواهُ؟
ماذا أقول إذا راحت أصابعه تلملم اللَّيلَ عن شَعري وترعاهُ؟
حبيبي هل أنا حقًّا حبيبته؟ وهل أصدِّق بعد الهجر نجواه؟
أما انتهت من سنين قصَّتي معه؟ ألم تمت كخيوط الشَّمس ذكراه؟
أما كسرنا كؤوس الحبِّ من زمنٍ فكيف نبكي على كأس كسرناه؟
ربَّاه…أشياؤه الصُّغرى تعذِّبني فكيف أنجو من الأشياء ربَّاه؟
هنا جريدته في الرُّكنِ مهملة هنا كتابٌ معًا…كنَّا قرأناه
ما لي أحدِّق في المرآة أسألها؟ بأيِّ ثوب من الأثواب ألقاه؟
أأدَّعي أنَّني أصبحتُ أكرهه؟ وكيف أكره من في القلب سكناه؟
وكيف أهرب منه؟ إنَّه قدري! هل يملك النَّهرُ تغييرًا لمجراه؟
أحبُّه لستُ أدري ما أحبُّ به حتَّى خطاياه ما عادت خطاياه؟
الحبُّ في الأرض بعضٌ من تخيُّلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه؟
ماذا أقول له لو جاء يسألني إن كنتُ أهواه…إنِّي ألفُ أهواه…
ثمَّ جاء الفارس؛ ليخبر حبيبته بحبِّه لها، واستفسر منها إن كانت تبادله المشاعر ذاتَها، فقالت: حبِّي لك أضعاف حبِّك لي، وإذا أردت نجاح قصَّة الحبِّ هذه؛ فشرطي عليك ألَّا تخبر أحدًا بها؛ فوافق، ونظر في عينيها، وصمتَ، فقالت له:
قُل: لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا قد كاد يقتلني بك التِّمثال
فأجابها نزار قبَّاني في القصيدة ذاتها:
ما زلتِ في فنِّ المحبَّة طفلة بيني وبينك أبحرٌ وجبالُ
لم تستطيعي بعد أن تتفهَّمي أنَّ الرِّجال جميعهم أطفال
فإذا وقفتُ أمام حسنك صامتًا فالصَّمتُ في حرم الجمالِ جمالُ
كلماتنا في الحبِّ تقتل حبَّنا إنَّ الحروف تموت حين تُقال
وبعد مدَّة عاد إليها؛ فوجدها تبكي؛ فقال لها:
إنِّي أحبُّك عندما تبكينا وأحبُّ وجهكِ غائمًا وحزينًا
تلك الدُّموع الهاميات أحبُّها وأحبُّ خلف سقوطها تشرينا
بعضُ النِّساء وجوههنَ جميلة وتصير أجمل عندما يبكينا
فقالت له: دَعْكَ من هذا! ألم تعدني ألَّا تخبر أحدًا بقصَّة حبِّنا؟ لماذا يتحدَّث النَّاس جميعهم عن حبِّنا الكبير هذا؟ لماذا لم تحفظ سرَّك ووعودك؛ فقال:
أنا عنك ما أخبرتهم لكنَّهم لمحوكِ تغتسلين في أحداقي
أنا عنكِ ما كلَّمتُهم لكنَّهم قرؤوكِ في حبري وفي أوراقي
للحبِّ رائحة وليس بوسعها ألَّا تفوح مزارع الدُّرَّاقِ
إنَّ لغة عربيَّة بهذا الجمال تستحقُّ أن نحبَّها، ونحتفي بها في يومها، وندعم مبدعيها شعراء وكتَّابًا وروائيِّين؛ حتَّى يحملوها، مثلما حملتهم وحملت هويَّتهم وثقافتهم وحضارتهم على مرِّ العصور، ومثلما حمل الشُّعراء الآباء تراث الأجداد! أَلَمْ أقل لكم: لن نسهب في الحديث عن قِدَم اللُّغة العربيَّة ولا عن أسباب جمالها وأسرار انتشارها ودورها في حفظ الهويَّة؟ ألم أقل لكم: سنحكي عن نصوص العربيَّة الَّتي تنبض بالحبِّ والحياة؟ وما كتبناه في هذا المقال ما هو إلَّا غيض من فيض، يعرفه الَّذين خاضوا في بحور الإبداع العربيَّة بعدما قالت لهم:
أنا البحر في أحشائه الدُّرُّ كامنٌ فهل سألوا الغوَّاص عن صدفاتي؟