أرشيف المجلة الشهرية

طرابلس السيرة الدامية

زيد بن رغبان – العربي القديم

وكأن الشريف الإدريسي (1)، عندما كتب عن طرابلس لبنان في واحدة من رحلاته واصفاً جمالها وأخضرها وعمرانها، أراد من هذا الوصف أن يعبر عن عنوان أشهر مؤلفاته (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، فهذه المدينة كما المدن الشامية لها تاريخ مُغرق في القدم، تراوح بين الازدهار والعمران والخراب، وبين تطور وحروب وزلازل.

في عصرنا الحديث وحتى أمسنا القريب، سمّي أشهر أحيائها (باب التبانة) ببوابة الذهب، لكثرة غلالها وخيرها الذي غاب، أو يكاد ككل لبنان، لكن طرابلس وحيّها باب التبانة يمثلان الصورة الفجة الأليمة لما يعانيه هذا البلد.

كان اسمها طرابلس الشام، ولا أعرف إن جار الدهر عليها، أو إنها السياسة التي بدلته إلى طرابلس لبنان، لكنها تبقى الأخت الثالثة والمعبر، ورفقة الأسى لحمص وحماة، فلا تخلو أغلب عائلات وأسر هذا الثلاثي من قرابة، ما عدا عما يربطها من تشابه وثيق، مع باقي مدن الساحل السوريّ في جميع نواحي الحياة خصوصاً (الاجتماعية –  السكانية)، التي فعلت فيها السياسة ما فعلت. هي كسواها كانت غالبية الطرابلسيين من العرب السنّة مع قليل من علويين ومسيحيين متعددي المذاهب، إلى أن جاء البريطانيون والفرنسيون الذين يتندّر بعض اللبنانيين والسوريين حنيناً لاستعمارهم، جاؤوا ومعهم مشاريعهم للمنطقة، فحين باشر الفرنسيون تأسيس جيش المشرق من جنود وصف ضباط، كانت غالبيتهم من أبناء أقليات البلاد الشامية لا سيما العلويين والمسيحيين، ويبدو أن الحامية العسكرية التي تمركزت في طرابلس، جاء جنودها مع عائلاتهم وكان سكناهم على طرف طرابلس في حيّ كان صغيراً، يقطن فيه بضع مئات من العلويين، يُدعى (جبل محسن)، أو (بعل محسن) (2) ومنذ حينها بدأ هذ الحي بالتضخم حتى أصبح (كنتوناً) طائفياً، كغيره من (الكنتونات) الطائفية المنتشرة في محيط بعض المدن السورية، وتزايد تضخمها برفقة متغيرات في السياسة والاقتصاد.

بدأت ذكرياتي عن طرابلس، خلال إقامتي في لبنان (1972/82)، كان الحديث الدائم عنها خلال سنوات هو ما تتعرض له من إهمال متعمد من قبل الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وكأن تلك الحكومات (3) لم تنسَ لهذه المدينة منذ أربعينيات القرن العشرين حيرتها بالانتساب إلى أي الوطنَين: سوريا أم لبنان. ومع تراكم الإهمال، تراكمت البطالة والفقر، وقبل مباشرة اللبنانيين بحربهم الأهلية، والتبدل الجوهري في طبيعة القوى والأحزاب السياسية اللبنانية، كان (للقبضايات)، أو وجهاء الأحياء دور كبير في أحيائهم خصوصاً الشعبية منها، وهم مزيج من السطوة على الآخرين مع طيبة في التعامل. أراد أحدهم (لم أعد أذكر الاسم) من أبناء باب التبانة أن يطالب لطرابلس بحقوقها، وتحصّن في الحيّ مع مجموعة من (القبضايات)، وطالب بالاستقلال حتى إنه رفع العلم السوريّ، فتصدّت له القوى الأمنية، واقتحمت الحيّ متهمةً إياه (قاطع طريق) ولص زعيم عصابة. بعد اعتقاله تبين أن في الحيّ محلات لتجار الذهب (صيّاغ)، يحوي ملايين الليرات، ومع ذلك لم ينهب، ولم يمسّ غرام ذهب واحداً، وكانت فضيحة الحكومة المركزية أنه مجرد مغامر، أراد لطرابلس حقها.

لغاية الحرب الأهلية، لم يشعر الطرابلسيون بخلاف بين بعضهم بعض، بل كان هناك تفاهم حتى دخول الجيش السوري، ونظام حافظ الأسد (بالموافقة الإسرائيلية) لصالح القوى اليمينية اللبنانية التي كادت أن تنهار عام (1976)، وحينها اختلفت المواقف وازدادت حدّة، فقد اختارت طرابلس الموقف العروبي الأخلاقي بجانب القوى الوطنية (اللبنانية/ الفلسطينية)، باستثناء أبناء ذاك البعل (بعل محسن)، الذين اختاروا الوقوف بجانب النظام الطائفي بدمشق، وبدأت الحياة المشتركة بالانهيار كسلسلة دراماتيكية تمثل بوضوح مهازل ما صنعه هذا النظام.

الأليم أن الشارع الذي يفصل باب التبانة عن جبل محسن، اسمه شارع سوريا؛ لأن هذه (السوريا الأسد……!) لا عمل لها أو هدف إلا فصل الناس والأوطان، وهذا الشارع تحول إلى خط تماس مع تكرار الاشتباكات بين أبناء باب التبانة وطرابلس، وقواها السياسية التي أصبحت تقودها حركة التوحيد الإسلامي والناصريين والبعثيين من جناح العراق، مدعومين من القوى الفلسطينية وياسر عرفات، والطرف الآخر المتمركز في جبل محسن ومحيط المدينة، والمتشكل من مليشيات الحزب العربي الديموقراطي الذي يقوده المجرم (علي عيد) أحد أزلام رفعت الأسد مع البعثيين من تنظيم سوريا، إضافة إلى السوريين القوميين وطبعاً القوات الخاصة وسرايا الدفاع من الجيش السوري.

تصاعد التوتر مع محاولة ياسر عرفات العودة إلى لبنان من بوابة طرابلس ومخيماتها والتمركز فيها، وهذا ما لم يقبله حافظ الأسد، وللأسف كانت قوات فتح بعد هزيمة بيروت جاهزة للانشقاقات، ودعم الأسد تشكيل حركة (فتح الانتفاضة) بقيادة أبو موسى وأبو خالد العملة، مما سهّل عليه البدء بمعركة طرد عرفات بالاشتراك مع حصار البحرية الإسرائيلية لميناء طرابلس، لمنع وصول الإمدادات، وإحكام الحصار، ورغم سيطرة الفتحاويين مع مقاتلي حركة التوحيد على باقي أحياء طرابلس، لكنها قوات أنهكت في مواجهة باقي المتحالفين مع القوات السورية، حينها حاولت أطراف عربية وغربية التوسط لإنهاء النزاع، وإخراج المقاتلين الموالين لعرفات، وهو الأمر الذي لم يكتمل إلا مع مرض حافظ الأسد أواخر عام 1983، وتولي هذا الملف شقيقه رفعت الذي قبل بالرعاية الفرنسية لخروجهم، وقد كثُرت التحليلات حول هذا القبول، إلا أن واحداً منها ذكره أحد ضباط الارتباط بين القوات السورية والفصائل الفلسطينية، وكان يقوم بمهمة نقل الرسائل بين عرفات ورفعت الأسد، أن الاثنين تبادلا التهديدات، وأن رفعت هدد بإعدام جميع الفلسطينيين في طرابلس، وردّ عرفات بأنه سيعدم جميع العلويين في بعل محسن، هي واحدة من الأخبار المُسربة، لكن أظن أن الأصل، حين شعر رفعت بأن قيادة سوريا، ستؤول له بعد رحيل شقيقه المريض، (وقد خابت أحلامه)، أراد أن يظهر بمظهر الدبلوماسي المقبول أمام الوسطاء العرب والغربيين، فسمح بخروج المقاتلين، وقدم ضمانات بعدم المساس بأبناء طرابلس، ومخيمي نهر البارد والبداوي…. وهنا إشارة والتفاته لا بد منها: (كانت التحليلات والآراء المتداولة أن حافظ الأسد يعتبر نفسه حامي القضية الفلسطينية، وأراد أن ينتزع هذا الأمر من ياسر عرفات. لكن الأصل هو أن حافظ الأسد استكمل ما بدأه شارون، خلال 1982 من إخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وجعلها شراذم مشتتة.

 نلمس هذا الواقع خلال حرب المخيمات في بيروت بعد طرابلس، والتي بدأتها حركة أمل مع الفصائل الفلسطينية الموالية لسوريا (الجبهة الشعبية_ القيادة العامة وفتح الانتفاضة)، كانت مجازر أليمة، يستغرب كل عاقل كيف يتناساها بعض الفلسطينيين لنظام الأسد وحركة أمل. بدأت هذه الحرب في شهر أيار 1985، وانتهت شهر نيسان 1987، وترافق هذا الأمر وتحت راية المقاومة الإسلامية أن منع حزب الله أي وجود فلسطيني للمشاركة في الجنوب اللبناني. ولسخرية القدر حلّت أيام أكتوبر (2023/2024)، وكان من المُفترض أن تكون مشاركة المقاتلين الفلسطينيين في جنوب لبنان فاعلة، لكنهم أصبحوا غريبين عن طبيعة الأرض التي شغلوها من عام 69 ولغاية 82، عدا عن عدم وجود سلاح بأيديهم يسمح لهم بالمشاركة، وهنا تحديداً نسأل السؤال الجارح: أي وحدة ساحات، وتحالف مقاوم، تتحدث عنه حماس وإيران ونظام سوريا وحزب الله…؟).

غادر أبو عمار وقواته طرابلس، لتبقى وحيدة مع أبنائها، وعاد الأسد معافى لمزاولة سلطته وحقده الذي أبى أن ينسى لطرابلس وقوفها في مواجهة نظامه، وجاء عام 1986، حين افتعلت المخابرات السورية مشكلة مع حركة التوحيد باعتقال واختطاف أحد قادتها، ورد شباب الحركة بهجوم على بعض حواجز النظام، لتندلع الاشتباكات خصوصاً مع أبناء باب التبانة، حيث اقتحمت الحي، وبعض الأحياء المجاورة القوات الخاصة السورية برفقة مقاتلين من حلفائهم، وباشروا بتفتيش المنازل بحجة البحث عن السلاح، وأنصار حركة التوحيد، وأعطوا تطمينات للأهالي بعدم المساس بهم، وما إن انتصف ليل رأس السنة الميلادية، حتى هاجمت قطعان جبل محسن، وباشرت القتل العشوائي لمجرد الشبهة، (وغالباً لا حاجة لها)، وتكدّست الجثث في الأزقة، التي لم يعرف عددها، ولم يتمكن أحد من إحصائها، كما يروي أحد الشهود، ويقول إن أكثر ما آلمه ليس فقط جثث الأبرياء، وإنما أيضاً جثة والدته، وقد قُطعت أطرافها.

عادت وحيدة طرابلس غير ثكلى ولا أرملة، تبقى (نزهة المشتاق)، حتى لصفتها (نجمة النشرات) في بدايات سني الإهمال، ومعادلة الفقر والبطالة، تبقى مدينة أمينة ومحبةً لإدانتها بأصالتها، وصبر أبنائها الذين يبتسمون أمام العوز، ويعملون كالنازحين السوريين بأدنى أدنى الأجور تجنباً للاستجداء.. طرابلس بأحيائها (القبة، أبو سمرا، التل، ساحة النور وبوابة الذهب)، هي (اختراق الآفاق) بحثاً عن مستقبل لبنان.

هوامش:

  • ولد الشريف الإدريسي في سبتة المغرب 1106 وتوفي 1166 في صقلية يعتبر من كبار الجغرافيين والفلكيين في التاريخ كان له الكثير من الرحلات بين مدن شواطئ المتوسط، له عدة مؤلفات حيث أشهرها (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق).

(2)  ليس لي علم دقيق حول تسمية هذا الحي بالمُسميين بعل محسن أو جبل محسن، هو مجرد حي بني تراكمياً على مرتفع يُطل على طرابلس لا سيما حيّ باب التبانة.

(3)  قبل اتفاق الطائف (22 تشرين الأول 1989)، الذي اعتبر زوراً نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، كانت السيطرة على السياسة اللبنانية تؤول لصالح المارونية السياسية.

_________________________________________

من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024

زر الذهاب إلى الأعلى