عندما زار الشرع تركيا
إعادة العلاقات مع تركيا، في ظل التقارب الذي بدأ يظهر بين دمشق وبعض الدول العربية، قد يسهم في تعزيز موقف سوريا أمام القوى الكبرى

سامي زرقة – العربي القديم
زيارة لم تكن مفاجئة للكثيرين، بل ربما توقع البعض حدوثها في وقت سابق على اليوم الذي تمت فيه، فقد استقبلت العاصمة التركية زيارة رسمية قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع، وهي الزيارة التي أثارت الكثير من التساؤلات حول أهدافها ودلالاتها في السياق السياسي والإقليمي الراهن.. زيارة تأتي في وقت حساس حيث تعيش المنطقة تحديات كبيرة، ويواجه البلدان العديد من الملفات الشائكة التي تتطلب حلولاً جذرية ومواقف استراتيجية محورية..
تُعد زيارة الرئيس السوري إلى تركيا محطة مفصلية في تاريخ العلاقات بين البلدين، والتي شهدت العديد من التوترات والتقلبات في العقدين الأخيرين.. هذه الزيارة تحمل في طياتها دلالات سياسية ودبلوماسية عميقة، فزيارة مسؤول رفيع من دمشق إلى أنقرة ليست مجرد خطوة بروتوكولية، بل هي بمثابة إشارة واضحة إلى تغيير قد يطرأ على مجريات العلاقات بين الجارتين في المستقبل القريب.

بدايةً، لا يمكن أن نغفل أن هذه الزيارة تأتي في إطار تحولات إقليمية واسعة النطاق، حيث باتت تركيا تجد نفسها أمام تحديات متعددة على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى الرغم من العلاقات المتوترة بين البلدين إثر الثورة السورية، فقد بدأت تركيا تدرك في الآونة الأخيرة أن التصعيد في سوريا لن يعود بالنفع عليها، بل قد يفاقم من وضعها الإقليمي المتأزم.. وهكذا، فإن زيارة الرئيس السوري تأتي لتشكل فرصة لإعادة ترتيب الأوراق الدبلوماسية، بما يساهم في بناء توافقات تضمن مصالح البلدين في المستقبل.
الهدف الأول من زيارة الرئيس السوري هو فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، وذلك بعد سنوات من القطيعة والتوتر التي أعقبت حكم الأسد الإجرامي وانتصار الثورة ضده التي دعمتها تركيا وحلولها محل الدولة الأسدية التي كانت.. فالسعي إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية قد يكون الهدف الأول والأكثر وضوحاً، وذلك في ظل حاجة سوريا إلى دعم اقتصادي وتحسين وضعها الأمني على خلفية التهديدات التي تواجهها من مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.. وفي هذا السياق، ربما يسعى الرئيس السوري إلى التفاوض على موضوعات حساسة تتعلق بالوجود العسكري التركي في بعض المناطق السورية وسبل التوصل إلى تسوية بشأن هذا الملف.
الهدف الثاني يتعلق بـ إعادة تأهيل سوريا على المستوى الدولي.. فالعديد من الدول، وعلى رأسها تركيا، قد بدأت في الآونة الأخيرة في تقييم المواقف الدولية تجاه سوريا، وقد تأتي الزيارة كخطوة لتطبيع العلاقات السورية مع الدول التي كانت قد فرضت عليها حصاراً دبلوماسياً.. ومن خلال الانفتاح على تركيا، يمكن لسوريا أن تحصل على دعم سياسي في مسعى لتحسين علاقاتها مع القوى الغربية والعربية على حد سواء.
أما الهدف الثالث والأهم، فهو تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي.. فتركيا تعتبر جارة لسوريا ولديها نفوذ كبير في الملف السوري.. لذا فإن التعاون الأمني بين البلدين قد يكون أحد المحاور الرئيسية التي يتم مناقشتها، خاصة في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب وإعادة الاستقرار إلى المناطق الحدودية المشتركة.
سوريا وتركيا.. فوائد متبادلة
من أبرز الفوائد التي قد تحققها سوريا من جراء هذه الزيارة، تأتي العودة إلى المنظومة الاقتصادية الإقليمية. فتركيا تعد من أكبر شركاء سوريا التجاريين، وكان الحظر المفروض على هذا التعاون قد ألحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد السوري، خاصة في ظل الأزمات المستمرة منذ سنوات.. ومع إعادة إحياء العلاقات، قد تتمكن سوريا من استئناف التجارة عبر الحدود، ما يساعد في توفير بعض من المواد الأساسية التي تحتاجها البلاد. كما أن التعاون في مجال الطاقة، ولا سيما في مسألة تصدير النفط والغاز السوري، قد يشكل فرصة سانحة لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن كاهل الحكومة السورية.

لا يمكن إغفال أيضاً دور الزيارة في تحريك عجلة الدبلوماسية السورية على الصعيد الدولي. فإعادة العلاقات مع تركيا، خاصة في ظل التقارب الذي بدأ يظهر بين دمشق وبعض الدول العربية، قد يسهم في تعزيز موقف سوريا أمام القوى الكبرى، بما يعكس استعدادها للانخراط في حوار شامل يهدف إلى تسوية الأزمة السورية.
ولا ننسى أن لتركيا مصلحة في مد يد العون للحكم الجديد في سوريا، ومن أهم الفوائد التي قد تجنيها تركيا من علاقاتها الجديدة مع سوريا هي تعزيز الأمن والاستقرار على طول حدودها مع سوريا. فتركيا طالما كانت تواجه تهديدات أمنية من مجموعات متشددة وتنظيمات إرهابية مثل “داعش” و”وحدات حماية الشعب الكردية” (YPG)، التي تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) المتمرد.. وبالتعاون مع سوريا، يمكن لتركيا أن تؤمن حدودها بشكل أفضل، وتعزز الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، ما يساهم في تقليل المخاطر التي تهدد أمنها الداخلي.
أيضاً إعادة فتح القنوات التجارية والاقتصادية، إذ أن تركيا وسوريا كانتا تتمتعان بعلاقات تجارية قوية قبل اندلاع الحرب.. والتقارب بين البلدين يمكن أن يؤدي إلى استئناف التبادل التجاري، خاصة في المجالات الزراعية والصناعية، بالإضافة إلى المشاريع الاقتصادية المشتركة في مجالات الطاقة والبنية التحتية.. بعد سنوات من العزلة الاقتصادية نتيجة العقوبات والمقاطعات، من الممكن أن يسهم التعاون الاقتصادي في تعزيز الاقتصاد التركي ويمنحها فرصاً للاستفادة من سوق سوريا المدمرة والموارد الطبيعية التي كانت سوريا تمتلكها، مثل النفط والغاز.
هناك فائدة كبرى قت تجنيها تركيا في سوريا وهي التقليل من التحديات المتعلقة باللاجئين السوريين، فمنذ بداية الحرب في سوريا، استقبلت تركيا أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري على أراضيها، ما وضع ضغوطاً كبيرة على اقتصادها ونظامها الاجتماعي.. وإعادة الاستقرار إلى سوريا من خلال التعاون مع الحكم الجديد قد يساعد في تقليل أعداد اللاجئين الذين يتجهون إلى تركيا، وربما يسمح بعودة بعض اللاجئين إلى بلادهم بشكل آمن. هذا من شأنه أن يخفف من العبء الكبير الذي تشكله أزمة اللاجئين على تركيا.
في الختام يمكن أن نقول إن زيارة الرئيس السوري “الانتقالي” أحمد الشرع إلى تركيا ليست مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل هي خطوة استراتيجية يمكن أن تعيد رسم ملامح العلاقات بين البلدين وتنقل سوريا إلى مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي والدولي.. ما تبقى هو أن نرى كيف ستستفيد دمشق من هذه الفرصة لتحقيق مصالحها، ومدى تأثير ذلك على مجمل الوضع الإقليمي والدولي الذي يمر بمنعطفات دقيقة.. كما أن سوريا اليوم أمام تحدٍ جديد، يتطلب منها الحكمة والقدرة على استثمار هذه الزيارة لتعزيز استقرارها وأمنها وتحقيق مصالحها الاقتصادية والدبلوماسية في ظل التغيرات المستمرة.